ناظم عودة:لم تدخل مفردة: نظرية، في المعجم العربي، لتُستعمل في الثقافة العربية على نحو واسع، إلا في وقت قريب لا يتعدى نهايات القرن التاسع عشر. ومع أنّ جذورها موجودة فيه، ولكن بصيغتها الدالّة على معناها الاصطلاحيّ كانت قريبة العهد في الدخول ضمن مواد هذا المعجم.
ونشأة المعجم العربي الحديث كانت، كما هو معروف، في أحضان الآباء اليسوعيين بلبنان في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وقد وَجَدتْ مفردة: النظرية طريقها إلى هذا المعجم، عندما شرع هؤلاء الآباء في إدخال بعض الزيادات اللغوية المحدودة، التي نقلوها إلى مواد هذا المعجم عن طريق الإفادة من المعجمات الأجنبية الأساسية، في اللغتين الفرنسية والإنگليزية على وجه الخصوص.
لا شكّ في أنّ المعلِّم بطرس البستاني (1819- 1883)، حاز على شرف إدخال هذا المصطلح في المعجم العربي في العام 1870، عندما ألَّفَ معجمه: محيط المحيط، ليصبح أوّل معجم عربيّ عصريّ مطوَّل، اتخذ من: القاموس المحيط، للفيروز آبادي (817هـ) مصدراً لغوياً قديماً، مضيفاً إليه بعض الزيادات من مصطلحات العلوم والفنون والألفاظ العامية الحية. وكان البستاني قد رفع معجمه هذا، إلى السلطان العثمانيّ، فنال عليه: الوسام المجيديّ الثالث.
تحدَّث البستانيّ في معجمه عن: النظريّ، والنظرية، بمعناهما الاصطلاحيّ. قال:
النظريّ: نسبة إلى النَّظَر، ويطلق على مقابل الضروريّ، ويسمى كسبيّاً ومطلوباً، وهو الذي يتوقف حصوله على نَظَرٍ وكسْبٍ كتصوّر النفس والعقل وكالتصديق بأنّ العالَم حادث. ويطلق في تقسيم العلوم مطلقاً على ما كان غير متعلق بكيفية عمل، ويقابله العملي وهو ما كان متعلقاً بها. ويطلق في تقسيم الحكمة على ما لا يكون وجوده بقدرتنا واختيارنا. ويطلق في تقسيم الصناعات على ما لا يتوقف حصوله على ممارسة العمل، والعمليّ عكسه. النظرية مؤنث النظريّ، وفي الهندسة قضية محتاجة إلى برهان لإثبات صحتها.
من ناحية فقه اللغة المقارن، نجد أنّ المعجم العربيّ أدرج: النظريّ، ضمن الجذر اللغويّ الدال على عملية المشاهدة: نَظَرَ، وهو ما حاكاه البستانيّ في محيط المحيط. أما المعجم الإغريقيّ أو اللاتينيّ فقد أدرجها مجازياً ضمن الجذر اللغويّ لـ: الآلهة، وللـ: حقيقة. ويخيَّل إلي، أنَّ سبب ذلك يرجع إلى اعتقاد اليونان في المرحلة الأسطورية بشمولية: النَّظَرَ، لدى الآلهة، وقوته، وعلوّه المهيمن على الأشياء قاطبة، وكذلك فيما يتَّصل بعلاقة النظرية بـ: الحقيقة، إذْ تتمتع الحقيقة بميزة جوهرية هي قوة النفاذ إلى حقائق الأشياء. وظلت اللاتينية محافظة على ذلك المعنى؛ لأنها لغة مشتقة أصلاً من اللغة اليونانية، في ظلّ علاقة تاريخية مثيرة في تبادل أدوار الاستعمار الإمبراطوري لليونان والرومان.
ولم يزد الأب لويس المعلوف (ت 1908) في معجمه المعروف: المنجد، الذي صدر في العام 1908، أية إضافة لما كان ذكره بطرس البستانيّ، بل نقل حرفياً تعريف النظرية من معجم: محيط المحيط، وهذا يعني أنّ الثقافة العربية آنئذٍ لم تُشْـغَل كثيراً بـ: النظرية، باعتبارها خطاباً معرفياً مستقلاً، أو تابعاً لغيره من العلوم. فقد ذكر أنّ:
النظري: المنسوب إلى النَظر. ويطلق في تقسيم العلوم على ما كان غير متعلق بكيفية العمل، ويقابله (العملي) وهو ما كان متعلقاً بها. النظرية في الهندسة: قضية محتاجة إلى برهان لإثبات صحتها.
وسبق أنْ ذكرنا هذا التعريف، ضمن التعريف الواسع الذي ذكره البستاني في معجمه.
وعلى الرغم من ذلك، فإنّ البستاني والمعلوف لم يقتربا من المفهوم الفلسفي للنظرية، أو من كونها تركيباً عقلياً تجريدياً يصعب البرهنة عليها على صعيد الواقع. وكان ثمة حرج وارتباك آنذاك في تناول موضوعات فلسفية محضة، في ظلّ نظام سياسيّ ثيوقراطي. ويبدو لي أنّ العقل العربي الكامن تحت رماد الهيمنة الكولنيالية (الاستعمارية) العثمانية، ومن ثمّ الغربية، لم يكن يعنى بالنظرية القائمة على دعامة حدسية وعقلانية صرفة، وهذا ما تخشاه هذه الإمبراطورية، خشية أنْ يتضمن أية أفكار محرضة على الثورة والتمرّد والهياج السياسي. وحتى إعادة بعث التراث العربي، لم يكن مسموحاً بها إلاّ بعد أن أخذ الوهن يدبّ في جسد الإمبراطورية العثمانية، وإلاّ بعد سلسلة حركات الإصلاح التي قام بها الساسة العثمانيون، وأسفرت عن إعلان الدستور العثماني في سنة 1908.
ولذلك فإنّ العلوم التي كانت سائدة في البلاد العربية آنذاك، إنما كانت علوماً تقليدية عتيقة، تنحصر في العلوم الشرعية والعلوم اللسانية. وكانت المعرفة السائدة، استهلاكية في المقام الأول، تقوم على اجترار نمط من الفكر لا يتعدّى حدود: الفكر اللغوي، أو الفكر الديني، أو الفكر الوعظي. وهذا يفسر لنا، لماذا ابتدأ الآباء اليسوعيون بالتأليف في ميدان اللغة؛ لأنّ هذا النوع من التأليف لا يثير حفيظة الأتراك، بالإضافة إلى رواجه في تلك المرحلة.
وفي العام 1960، بعد تطوّر الثقافة العربية وانتقالها من طور التقليد إلى طور الحداثة، أصبح الجوّ مهيئاً لإجراء بعض الإضافات إلى مفهوم: النظرية الداخلة في متن المعجم العربي، فكان أن بادر مؤلفو: المعجم الوسيط 1960 إلى تخصيص حيز أوسع بقليل من ذلك الحيّز الذي شغلته النظرية سابقاً في المعاجم الحديثة. فقد جاء في هذا المعجم:
النَّظَريّ: يقال أمر نظري: وسائل بحثه الفكر والتخيّل. وعلوم نظرية: قلَّ أنْ تعتمد على التجارب العملية ووسائلها. (النظرية): قضية تثبت ببرهان. و(النظرية) في الفلسفة: طائفة من الآراء تُفسَّر بها بعض الوقائع العملية أو الفنية. (نظرية المعرفة): البحث في المشكلات القائمة على العلاقة بين الشخص والموضوع، أو بين العارف والمعروف، وفي وسائل المعرفة، فطرية أو مكتسبة.
يكشف التعريف الذي تبناه مؤلفو: المعجم الوسيط في العام 1960، عن تطوّر كبير في الفكر العربي منذ نهايات النصف الأول من القرن العشرين، وما بلغته الثقافة العربية الحديثة من تثاقف مع الثقافة الأوربية الحديثة، أسفر عن وضع عدد كبير من المؤلفات الفكرية والعلمية، الموضوعة أو المترجمة، مما أغنى الثقافة العربية بطائفة من المسائل الفكرية والمعرفية والمنهجية، التي أصبحت جزءاً من موضوعات تلك الثقافة، التي أرادت أنْ تقوم بعملية تأصيل الأفكار والنظريات الجديدة ببعث التراث الفكري والعلمي للعرب.
إنّ المقارنة بين المرجعيات الفكرية التي كانت تغذّي العقل العربي في نهاية القرن التاسع عشر، وبدايات القرن العشرين - أي في الفترة التي وضع فيها بطرس البستانيّ تعريفه للنظرية سنة 1870- والمرجعيات التي تغذّي ذلك العقل في الستينيات التي وضِعَ فيها المعجم الوسيط، إنما تبيّن هيمنة فلسفة أرسطو ومنطقه وتعريفاته وتصنيفاته، وهذا ما يظهر جلياً في مفردات تعريف البستانيّ. أما تعريف المعجم الوسط، فيكشف عن أفق الفكر الأوربيّ الحديث الذي أنتج نظرية المعرفة (الإبستيمولوجيا). فقد تمخض ذلك التعريف عن مستويات تعريفية عديدة هي: المجرّد، في مجال العلوم، في مجال الهندسة، في الفلسفة، في نظرية المعرفة.
ولعلّ أبرز الإضافات التي أدخلها ذلك المعجم، تتمثل في: العلوم النظرية، الفلسفة، ونظرية المعرفة. وهي موضوعات لم تعالج في مرحلة البستانيّ نظراً لامتداد تأثيرات الفلسفة العربية القديمة، وتأثيرات الفلسفة اليونانية، وعدم انفتاح قناة حقيقية للمثاقفة مع الغرب.
لا شكّ في أنّ كثرة المؤلفات الفلسفية والفكرية والعلمية، وازدهار حركة الترجمة من اللغات الأخَر إلى اللغة العربية في الستينيات، هو الذي ساعد على إجراء ذلك التطوير وتلك الإضافة، فقد أدْخِلَ لأول مرة مفهوم: نظرية المعرفة Epistemology ضمن مواد المعجم العربي في سنة 1960.
نخلص من هذا، إلى أنّ المعجم العربي الحديث هو الذي احتضن النظرية بدلالتها الاصطلاحية، وصياغتها اللغوية، بعد أنْ خلا المعجم العربي القديم من هذه الصياغة، فلم أعثر في كلّ المعاجم القديمة على صيغة نظرية، مع العلم أنها كانت مستعملة في إطار الثقافة العربية كالفلسفة والمنطق والتفسير والعلم، إنما وجِدَ جذرها الثلاثيّ: نَظَرَ، وما اشْتُـقَّ منه من كلمات ذات دلالات مختلفة أشهرها: الإبصار والرؤية بالعين المجردة. ونستنتج أيضاً، أنّ المعجم العربي الحديث لم يتضمن لحدّ الآن سرداً منظماً لدلالات:
النظرية عبر التاريخ، وظلّ عمل المعجميين بإزاء هذه الكلمة انتقائياً، ولم يكن شاملاً يعطي للقارئ تاريخاً منظماً للدلالات التي استحدثت عليها.
[email protected]
ونشأة المعجم العربي الحديث كانت، كما هو معروف، في أحضان الآباء اليسوعيين بلبنان في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وقد وَجَدتْ مفردة: النظرية طريقها إلى هذا المعجم، عندما شرع هؤلاء الآباء في إدخال بعض الزيادات اللغوية المحدودة، التي نقلوها إلى مواد هذا المعجم عن طريق الإفادة من المعجمات الأجنبية الأساسية، في اللغتين الفرنسية والإنگليزية على وجه الخصوص.
لا شكّ في أنّ المعلِّم بطرس البستاني (1819- 1883)، حاز على شرف إدخال هذا المصطلح في المعجم العربي في العام 1870، عندما ألَّفَ معجمه: محيط المحيط، ليصبح أوّل معجم عربيّ عصريّ مطوَّل، اتخذ من: القاموس المحيط، للفيروز آبادي (817هـ) مصدراً لغوياً قديماً، مضيفاً إليه بعض الزيادات من مصطلحات العلوم والفنون والألفاظ العامية الحية. وكان البستاني قد رفع معجمه هذا، إلى السلطان العثمانيّ، فنال عليه: الوسام المجيديّ الثالث.
تحدَّث البستانيّ في معجمه عن: النظريّ، والنظرية، بمعناهما الاصطلاحيّ. قال:
النظريّ: نسبة إلى النَّظَر، ويطلق على مقابل الضروريّ، ويسمى كسبيّاً ومطلوباً، وهو الذي يتوقف حصوله على نَظَرٍ وكسْبٍ كتصوّر النفس والعقل وكالتصديق بأنّ العالَم حادث. ويطلق في تقسيم العلوم مطلقاً على ما كان غير متعلق بكيفية عمل، ويقابله العملي وهو ما كان متعلقاً بها. ويطلق في تقسيم الحكمة على ما لا يكون وجوده بقدرتنا واختيارنا. ويطلق في تقسيم الصناعات على ما لا يتوقف حصوله على ممارسة العمل، والعمليّ عكسه. النظرية مؤنث النظريّ، وفي الهندسة قضية محتاجة إلى برهان لإثبات صحتها.
من ناحية فقه اللغة المقارن، نجد أنّ المعجم العربيّ أدرج: النظريّ، ضمن الجذر اللغويّ الدال على عملية المشاهدة: نَظَرَ، وهو ما حاكاه البستانيّ في محيط المحيط. أما المعجم الإغريقيّ أو اللاتينيّ فقد أدرجها مجازياً ضمن الجذر اللغويّ لـ: الآلهة، وللـ: حقيقة. ويخيَّل إلي، أنَّ سبب ذلك يرجع إلى اعتقاد اليونان في المرحلة الأسطورية بشمولية: النَّظَرَ، لدى الآلهة، وقوته، وعلوّه المهيمن على الأشياء قاطبة، وكذلك فيما يتَّصل بعلاقة النظرية بـ: الحقيقة، إذْ تتمتع الحقيقة بميزة جوهرية هي قوة النفاذ إلى حقائق الأشياء. وظلت اللاتينية محافظة على ذلك المعنى؛ لأنها لغة مشتقة أصلاً من اللغة اليونانية، في ظلّ علاقة تاريخية مثيرة في تبادل أدوار الاستعمار الإمبراطوري لليونان والرومان.
ولم يزد الأب لويس المعلوف (ت 1908) في معجمه المعروف: المنجد، الذي صدر في العام 1908، أية إضافة لما كان ذكره بطرس البستانيّ، بل نقل حرفياً تعريف النظرية من معجم: محيط المحيط، وهذا يعني أنّ الثقافة العربية آنئذٍ لم تُشْـغَل كثيراً بـ: النظرية، باعتبارها خطاباً معرفياً مستقلاً، أو تابعاً لغيره من العلوم. فقد ذكر أنّ:
النظري: المنسوب إلى النَظر. ويطلق في تقسيم العلوم على ما كان غير متعلق بكيفية العمل، ويقابله (العملي) وهو ما كان متعلقاً بها. النظرية في الهندسة: قضية محتاجة إلى برهان لإثبات صحتها.
وسبق أنْ ذكرنا هذا التعريف، ضمن التعريف الواسع الذي ذكره البستاني في معجمه.
وعلى الرغم من ذلك، فإنّ البستاني والمعلوف لم يقتربا من المفهوم الفلسفي للنظرية، أو من كونها تركيباً عقلياً تجريدياً يصعب البرهنة عليها على صعيد الواقع. وكان ثمة حرج وارتباك آنذاك في تناول موضوعات فلسفية محضة، في ظلّ نظام سياسيّ ثيوقراطي. ويبدو لي أنّ العقل العربي الكامن تحت رماد الهيمنة الكولنيالية (الاستعمارية) العثمانية، ومن ثمّ الغربية، لم يكن يعنى بالنظرية القائمة على دعامة حدسية وعقلانية صرفة، وهذا ما تخشاه هذه الإمبراطورية، خشية أنْ يتضمن أية أفكار محرضة على الثورة والتمرّد والهياج السياسي. وحتى إعادة بعث التراث العربي، لم يكن مسموحاً بها إلاّ بعد أن أخذ الوهن يدبّ في جسد الإمبراطورية العثمانية، وإلاّ بعد سلسلة حركات الإصلاح التي قام بها الساسة العثمانيون، وأسفرت عن إعلان الدستور العثماني في سنة 1908.
ولذلك فإنّ العلوم التي كانت سائدة في البلاد العربية آنذاك، إنما كانت علوماً تقليدية عتيقة، تنحصر في العلوم الشرعية والعلوم اللسانية. وكانت المعرفة السائدة، استهلاكية في المقام الأول، تقوم على اجترار نمط من الفكر لا يتعدّى حدود: الفكر اللغوي، أو الفكر الديني، أو الفكر الوعظي. وهذا يفسر لنا، لماذا ابتدأ الآباء اليسوعيون بالتأليف في ميدان اللغة؛ لأنّ هذا النوع من التأليف لا يثير حفيظة الأتراك، بالإضافة إلى رواجه في تلك المرحلة.
وفي العام 1960، بعد تطوّر الثقافة العربية وانتقالها من طور التقليد إلى طور الحداثة، أصبح الجوّ مهيئاً لإجراء بعض الإضافات إلى مفهوم: النظرية الداخلة في متن المعجم العربي، فكان أن بادر مؤلفو: المعجم الوسيط 1960 إلى تخصيص حيز أوسع بقليل من ذلك الحيّز الذي شغلته النظرية سابقاً في المعاجم الحديثة. فقد جاء في هذا المعجم:
النَّظَريّ: يقال أمر نظري: وسائل بحثه الفكر والتخيّل. وعلوم نظرية: قلَّ أنْ تعتمد على التجارب العملية ووسائلها. (النظرية): قضية تثبت ببرهان. و(النظرية) في الفلسفة: طائفة من الآراء تُفسَّر بها بعض الوقائع العملية أو الفنية. (نظرية المعرفة): البحث في المشكلات القائمة على العلاقة بين الشخص والموضوع، أو بين العارف والمعروف، وفي وسائل المعرفة، فطرية أو مكتسبة.
يكشف التعريف الذي تبناه مؤلفو: المعجم الوسيط في العام 1960، عن تطوّر كبير في الفكر العربي منذ نهايات النصف الأول من القرن العشرين، وما بلغته الثقافة العربية الحديثة من تثاقف مع الثقافة الأوربية الحديثة، أسفر عن وضع عدد كبير من المؤلفات الفكرية والعلمية، الموضوعة أو المترجمة، مما أغنى الثقافة العربية بطائفة من المسائل الفكرية والمعرفية والمنهجية، التي أصبحت جزءاً من موضوعات تلك الثقافة، التي أرادت أنْ تقوم بعملية تأصيل الأفكار والنظريات الجديدة ببعث التراث الفكري والعلمي للعرب.
إنّ المقارنة بين المرجعيات الفكرية التي كانت تغذّي العقل العربي في نهاية القرن التاسع عشر، وبدايات القرن العشرين - أي في الفترة التي وضع فيها بطرس البستانيّ تعريفه للنظرية سنة 1870- والمرجعيات التي تغذّي ذلك العقل في الستينيات التي وضِعَ فيها المعجم الوسيط، إنما تبيّن هيمنة فلسفة أرسطو ومنطقه وتعريفاته وتصنيفاته، وهذا ما يظهر جلياً في مفردات تعريف البستانيّ. أما تعريف المعجم الوسط، فيكشف عن أفق الفكر الأوربيّ الحديث الذي أنتج نظرية المعرفة (الإبستيمولوجيا). فقد تمخض ذلك التعريف عن مستويات تعريفية عديدة هي: المجرّد، في مجال العلوم، في مجال الهندسة، في الفلسفة، في نظرية المعرفة.
ولعلّ أبرز الإضافات التي أدخلها ذلك المعجم، تتمثل في: العلوم النظرية، الفلسفة، ونظرية المعرفة. وهي موضوعات لم تعالج في مرحلة البستانيّ نظراً لامتداد تأثيرات الفلسفة العربية القديمة، وتأثيرات الفلسفة اليونانية، وعدم انفتاح قناة حقيقية للمثاقفة مع الغرب.
لا شكّ في أنّ كثرة المؤلفات الفلسفية والفكرية والعلمية، وازدهار حركة الترجمة من اللغات الأخَر إلى اللغة العربية في الستينيات، هو الذي ساعد على إجراء ذلك التطوير وتلك الإضافة، فقد أدْخِلَ لأول مرة مفهوم: نظرية المعرفة Epistemology ضمن مواد المعجم العربي في سنة 1960.
نخلص من هذا، إلى أنّ المعجم العربي الحديث هو الذي احتضن النظرية بدلالتها الاصطلاحية، وصياغتها اللغوية، بعد أنْ خلا المعجم العربي القديم من هذه الصياغة، فلم أعثر في كلّ المعاجم القديمة على صيغة نظرية، مع العلم أنها كانت مستعملة في إطار الثقافة العربية كالفلسفة والمنطق والتفسير والعلم، إنما وجِدَ جذرها الثلاثيّ: نَظَرَ، وما اشْتُـقَّ منه من كلمات ذات دلالات مختلفة أشهرها: الإبصار والرؤية بالعين المجردة. ونستنتج أيضاً، أنّ المعجم العربي الحديث لم يتضمن لحدّ الآن سرداً منظماً لدلالات:
النظرية عبر التاريخ، وظلّ عمل المعجميين بإزاء هذه الكلمة انتقائياً، ولم يكن شاملاً يعطي للقارئ تاريخاً منظماً للدلالات التي استحدثت عليها.
[email protected]
التعليقات