عبد العزيز جدير من طنجة: صدرت لمحمد المرابط quot;مجموعة قصصيةquot; تحمل عنوان quot;قصص من طنجةquot;، عن دار سيروكو بالدار البيضاء، تضم خمسة عشر نصا (متقاطعا) باللغتين الفرنسية والإنجليزية. أسهم في كتابة النص الفرنسي سيمون بيير هاملان، والنص الإنجليزي وليام كوتز، باحث في الجغرافية يتابع دراسته بالولايات المتحدة. تزين المجموعة القصصية أكثر من ثلاثين رسما من إنجاز محمد المرابط. معضمها باللونين الأبيض والأسود وبعضها بالألوان المختلفة. وقد كتب هاملان مقدمة يبرز فيها كيف تعرف على المرابط، وهو الذي حل بمدينة طنجة منذ خمس سنوات ونيف، ثم كيف اشتغل بمعية المرابط على إخراج المجموعة. ويعود الفضل في تعرفه على هذا المبدع والراوية الشعبي إلى شاب فرنسي آخر (إريك فالنتان) تعاون مع المرابط فتمخض تعاونهما عن صدور قصص تحت عنوان quot;السمكة الحاكية وقصص أخرى من طنجةquot; سنة (2006). وقد كان المرابط نشر، بمساعدة بولز، دزينة من الكتب ترجمت إلى ثلاث عشرة لغة. لكن منذ وفاة بولز انحشر المرابط في غياهب النسيان. [لم يشر هاملان إلى أن كاتب هذه السطور كتب سيرة المرابط وبولز وطنجة الثقافية في ثلاثة أجزاء صدر منها الأول تحت عنوان quot;بول بولز/محمد المرابط: سيرة جماعيةquot; سنة (2005) ونصا ثانيا بعنوان quot;بول بولز ورواة طنجةquot; سنة (2006) يتعرض لتجربتي بولز والرواة والكتابة والحياة]. فالمرابط لا يكتب بالمعنى الحقيقي للكلمة بل يملي أو يسجل نصوصه الشفاهية. وقد ظلت الكُتبية ثريا حجي التمسماني تعنى بالفنان المرابط وتنشر أعماله (رسومه)، وهي من قدمته إلى إريك فالنتان الذي استطاع أن يقطف من حقل المرابط قصصا صدرت، في طبعة أنيقة تزينها رسوم الفنان، عن دار (Bec en l'air). فقد كانت ثريا وإريك وراء تعرف هاملان على المرابط، الرسام والمؤلف.
وخلال الأربع سنوات التي تلت مجيئه إلى طنجة، اكتشفت quot;خطوة خُطوة عالم الكاتب الخصب والمُـلَوَّن وموسيقى حديثهquot; كما تعلم quot;المعنى الخفي لقصصهquot;. فالمرابط يمثل تراثا فريدا نشأ في طنجة نقطة quot;لقاء الثقافات والحضاراتquot;. وإذا كانت جذور المرابط تعود إلى منطقة الريف المغربية، فهو قد ولد بطنجة، المدينة الدولية، quot;بابل الحديثةquot;.
مر المرابط مرور الكرام بالكتاب، وارتبط بجده الذي علمه أسرار البحر والصيد. مارس عدة مهن. سيتعرف على زوجين أمريكيين بطنجة نهاية الخمسينيات (1959) ويرحل معهما على متن سفينة إلى نيويورك. بعد ذلك بسنة سيلتقي بول بولز. وتعرف على عدد من الكتاب الأمريكيين الذين اقتفوا أثر بولز وحلوا بطنجة: ترومان كابوتي، وليام بورووز، براين غيسن، تنيسي وليامز. وتشير المقدمة إلى أن صاحبها تابع تعاون فالنتان والمرابط، ثم لما تولى هو إدارة إحدى المكتبات بطنجة عمل على منح تجربة المرابط التشكيلية قيمتها الحقة عبر عرض بعض لوحاته أو تسهيل بيعها.
ولما شرع هاملان يتردد على بيت المرابط، استطاع أن يقترب من عوالمه وموسيقاه. فالمرابط، في تأليف قصصه، يتميز بالارتجال. وقد كان هاملان نشر بضعة قصص للمرابط بمجلة (نجمة) يصدرها بطنجة. والمرابط يطلق على قصصه (stories) لتمييزها عن القصص القصيرة وعن القصص القصيرة وللتأكيد على قصرها. فهي لا تتجاوز الصفحتين أو الثلاث صفحات.
ويشير هاملان إلى تحفظه لما طلب منه المرابط التعاون على إصدار كتاب. ولم يلجأ إلى تسجيل نصوص المرابط على الآلة كما فعل من سبقه. ويعترف هاملان أن عمله أقرب إلى التكييف منه إلى الترجمة. وأنه أقرب إلى التأويل التعبيري منه إلى الواقعية الأمينة.
وللوقوف على عوالم المرابط المضمخة بالسحر وقوة الخيال وفرادته، تقدم quot;إيلافquot; ترجمة نصين من المجموعة التي صدرت قبل أسبوعين.

الجلباب بألف لون

في الصباح الباكر، عندما كنت أذهب للصيد بالقرب من كاب سبارطيل، كنت أحب أن أرتدي جلبابا كنت خطته بيدي من عدد لا يحصى من قطع أثواب ألوانها خلابة. كل مربع من القماش كان يمثل ذكرى قصة. وكنت أحب أن أحكي لنفسي واحدة، وأنا بمفردي، وأنا ألامس بلطف المنسوج، منتظرا أن تعلق السمكة بالصنارة. وذات يوم، لما وصلت إلى شاطئ مرقالة، رأيت في المكان الذي كنت تعودت أن أضع به صنارتي أوربيا يرتدي بذلة نائما، منكمشا على نفسه. أيقظته بنكزة ودية وقلت له:
-يا صديقي، قم فليس هذا المكان للنوم!
بدا مندهشا، نظر حواليه، وشرع ينتحب وهو يتمتم:
-أين أنا إذا؟ يا للشيطان، من أنت؟
-أنا، المرابط، وأنت في المكان الذي تعودت أن أمازح السمك منه!
-مرابط؟ أنت الكاتب؟
-أنا، لست شيئا... فذلك ما يقوله الناس، لكن الناس يتحدثون كثيرا جدا... ما الذي تفعله هنا؟ تبدو تعيسا جدا.
-أشرب كثيرا؛ ليلة الأمس بالجبل الكبير شربت أكثر مما يجب... ولا أذكر شيئا. أنا أيضا كاتب، لكن لا أفلح في كتابة سطر واحد، وخاصة في طنجة. إنه يأس حقيقي. في الحقيقة، لم أكتب أبدا شيئا جيدا. المرابط ما السر الذي تنطوي عليه؟
-سري؟ أنا لست كاتبا، لكنني أستمع إلى ما تقوله لي السمكة، وأدون قصصها على قطعة من قطع جلبابي. هذا الجلباب شبيه بكتاب صور. كتاب مفتوح. كم تؤلمني. بالله عليك، لا تكن حزينا. إذا أعطيتني بذلتك الجميلة، أتنازل لك عن جلبابي. فهو سيساعدك، بالتأكيد، على العثور على الكلمات الجميلة إذا ما استمعت جيدا لما سيحكيه لك.
خلع بذلته وارتدى الجلباب ذا الألوان المتغيرة وشكرني بحرارة وابتسامته بسعة الهلال. لقد ارتديتُ تلك البذلة طويلا وقد أحدثت أثرا كبيرا في الشارع الرئيسي .
أما هو، المسكين، فقد أصبح كاتبا مشهورا. يبدو حزينا ومزهوا بنفسه؛ لكنني أشك في أنه ما يزال قادرا على الاستماع إلى الجلباب ذي الألوان المتعددة.
***

مجاعة
كان حسن قد عاد أخيرا إلى البلد، سنة قبل أن يعود السلطان من المنفى. لقد مرت خمس عشرة سنة على مغادرته طنجة للقتال عبر العالم مع الجيش الفرنسي، الذي أفسده واستغل ثقته. كانت الحروب قد انتهت وانتهت ذكراها أيضا ولم يرد أحد أن يعتبره بطلا، ولا اخوته أنفسهم الذين كانوا يضحكون في السر من حكاية مغامراته. لكن الجندي الشجاع، المحتل للمواقع المتقدمة للرعب كان قد شارك بهمة في تحرير ايطاليا، كرسيكا، مارسيليا وستراسبورغ. وكان قد ذاع صيته في مدغشقر وفي مَوْحل الهند الصينية. وكان يحكي لمن يريد أن يسمع ويلات الحرب، وقد يبالغ في الحديث عن العديد من الأرواح التي حصدها، والجرائم التي ارتكبها.
كان يخصص القسم الأكبر من معاشه لمنح نفسه وجبات ضخمة على أحسن موائد المدينة. وهكذا سمن بسرعة، وبعد بضعة أشهر تضاعف حجمه. لكنه، ذات يوم، وهو يتأهب لالتهام قطعة لحم بمرق على مائدة بكلاريدج اعتقد أنه رأى على صحنه ثلاثة أصابع لِرَجُل مع الخضرة المتنوعة المقدمة مع الطعام. من دون أن يشرح السبب ولا مد يده نحو الصحن، طلب شربة سمك. لكنه بدا له، هذه المرة، عدد من العيون تسبح وسط الصحن، عيون انفجرت أوردتها تتفرس فيه. أما الكعكة التي قدمت، بعد ذلك، فقد كانت وجها محروقا، والقهوة دما أسود.
غادر المطعم، فارغ البطن والقلب مُغَث. أفلح في قضم قليل من الخبز، في اليوم التالي. ثم لا شيء منذ اليوم الذي وشحه فيه قنصل فرنسا بميدالية عسكرية. حاول أن يعيد وسامه ليستعيد الشهية، لكن لم يحصل على شيء من ذلك. نقص وزن حسن كثيرا. بالكاد يقدر على ابتلاع بعض أنواع عصر الفواكه وبعض الحليب أحيانا.
تم العثور عليه، ذات صباح، ميتا من الجوع ممددا بكل أناقة على فراش نقي، يرتدي بذلته العسكرية وفي يده قطعة ورق كتب عليها: quot;استغفر الله جرائمي وليقبض روحي مقابل كل الأرواح التي حصدتها. وليمنح مالي لإطعام الجوعى، وليسق دمي الأرض التي أطعمتنيquot;.

هامش:
يتعلق الأمر بشارع باستور. شريان رئيس بطنجة، يطلق عليه quot;البولفارquot;.

[email protected]