تشييع كبير لقاسم محمد في بغداد
طائر التم الذي حلق فوق النخلة والجيران
طائر التم الذي حلق فوق النخلة والجيران
عبد الجبار العتابي من بغداد:(يا عيني عليك يا قاسم.. يا عيني عليك يا ابا زيدون)، بهذه الكلمات التي انفجرت على باب المسرح الوطني من محبيه، شيعت بغداد ظهر يوم الاربعاء الثامن من نيسان ابنها البار وفنان الشعب المخرج المسرحي الكبير قاسم محمد الذي توفاه الله في الامارات العربية، التي عاش فيها سنوات طويلة مترعة بالغربة والشوق، بعد ان وصل جثمانه صباحالاربعاء الى بغداد تحمله في بطنها سيارة اسعاف وترجلت منها روحه لتصعد درجات السلم القليلة ومن ثم تغيب خلف كواليس المسرح، فيما تسجى جسده في تابوته الملفوف بالعلم العراقي على مدخل المسرح وسط صيحات مليئة بالعناق والحسرات والالم قبل ان ترتفع الصيحات واحدة (لا اله الا الله.. لا اله الا الله) في مشهد تراجيدي مؤثر، وسط لافتات سود عديدة تنعاه، ومن ثم لتحمله الاكف وتنطلق به الجموع على الشارع المقابل لبناية المسرح، شيعته بغداد وفنانوها ومثقفوها بالدموع التي انهمرت من افئدة طلابه وزملائه ومحبيه وساروا خلف جنازته لا يمتلكون سوى العزاء الذي صار الزاد والزواد، ومن ثم ارتفعت الاكف ملوحة له بالوداع الاخير وقد انطلقت به سيارة الاسعاف مجددا، ولكن الى مثواه الاخير.
كانت كلمات الثناء تتشابك في المشهد من الوجوه والالسن والدموع وكل فرد يذكر ما كان له معه من جمال الذكرى، كثلها مثل العبرات التي انسكبت تؤبنه بصمت نبيل، واجمع الجميع انه فنان الشعب وصاحب الاخلاق الحميدة والفكر النير الذي رحيله يمثل خسارة للمسرح العراقي والعربي والعالمي ايضا، كما اجمعوا على حسرة الغياب في الغربة وشراسة المرض الذي ظل يصارعه وقتا طويلا.
سألت الدكتور صلاح القصب عنه فقال بعد لحظات من التهجد: رمزا وحضارة ومجدا.. كان قاسم محمد، وحوارا حضاريا مع قارات العالم، مع ثقافته مع مجده الانساني، وقد شكلت تجربته القمة الاصعب في تسلق المسرح عراقيا، لم تكن ذكرى وذكريات مسيرة هذا المعلم، لان الذكريات تتلاشى وتتحنط في البومات رطبة، واضاف: قاسم محمد حركة واستمرارا مثلما شكلت تجربة بدر شاكر السياب في الشعر العراقي والعربي، حركة وليست ذكرى استرجاعية، وهذا المجد الذي يسكن في قمم عالية وقمم جمالية يسكنها المجد الانساني شكلتها ثقافات متعددة، علمنا قاسم محمد كيف نرسم البحر وكيف نلون المسرح، اعطانا كل الورود التي تتفتح باستمرار، هذا المعلم ابن بغداد ابن محلاتها الشعبية الفضل والبو شبل، هذه المحلات والاماكن التي تفوح منها روائح الابداع، فقد تخرج من هذه المناطق التي هي بغداد شعراء ورسامون وفنانون كبار وامتدادات ثقافية مجدت الانسان اولا، وسينشر المجد الثقافي على المستوى العالمي مجدا مستمرا لقاسم محمد لان استمرارية وحضارة، قاسم محمد كان الشعر العراقي وكان لونا من الوان الفن التشكيلي بتاريخه الممتد، قاسم محمد نجم في سماء الذاكرة المستمرة، مجدا لك ايها المبدع ايها المعلم الذي علمتنا كيف نحب الانسان.
اما الفنان سامي عبد الحميد فقال بعد لحظات من التأمل: عندما نكشف عن اعمدة المسرح العراقي نرى قاسم محمد من الجيل الثالث الذي ساهم في ارساء دعائم الحركة المتقدمة للمسرح العراقي،واقول هذا لانه هو من اجرى تغييرا واضحا في شكل ومضمون المسرح الشعبي عندما قدم مسرحية (النخلة والجيران) وعندما اخرج مسرحية (الشريعة) وعندما قدم مسرحية (بغداد الازل بين الجد والهزل) والاعمال الاخرى المتلاحقة في فرقة مسرح الفن الحديث والفرقة القومية للتمثيل، واقول هذا لان قاسم كان من اهم المخرجين العرب الذين طرقوا ابواب التراث العربي وكيفية الاستفادة منه في تأصيل المسرح العربي، وكان ذلك عبر عدد من المسرحيات التي كتبها واخرجها ونذكر منها اضافة الى (بغداد الازل..): مسرحية (زاد حزني وسروري في مقامات الحريري) و (كان يا ما كان) و (الملحمة الشعبية)، واقول هذا لانه كان من اوائل الذين طرقوا ابواب التجريب في المسرح عندما ترجم ثلاثية الكاتب اللاتيني التقدمي ازفالدو دراكون واخرج اول ثلاثية (الرجل الذي صار كلبا)، والتي اعتمد فيها على مبدأ ما قل ودل والسهل الممتنع، وكانت هذه المسرحية بحق انموذجا فنيا متقدما في الكشف عن معاناة الانسان المقهور في زمن التقدم الصناعي في العالم، واضاف: وهكذا.. كان قاسم محمد مخرجا انتقائيا من الدرجة الاولى، تتنوع اساليب تأليفه واساليب اخراجه، ولعلني اؤكد على هذا عندما اخرج مسرحية (طائر التم) لانطون تشيخوف على مسرح بغداد اولا حيث مثلت انا الدور الرئيسي فيها (في السبعينيات من القرن العشرين)،واعاد اخراجها بشكل اخر في مسرح الشارقة عام 2001 وانا مثلت الدور نفسه وكان هذا اخر عمل لي معه.
واستطر سامي: ما يميز قاسم محمد ايضا عن كثير من المسرحيين هو ثقافته المسرحية الواسعة وهو تفهمه الحقيقي لرسالة المسرح وحبه العميق لهذا الفن الرفيع وتكريسه لجهده في اعلاء شأن هذا الفن، ولا بد لي ان اذكر حقيقة وهي ان المبدع مثل قاسم محمد يقدم انجازات مهمة عندما يكون في بلده مع ابناء شعبه وعندما يغترب فان ابداعاته تقل اهمية عن ابداعاته داخل وطنه، وهذا الرأي ينطبق على الكثير من المسرحيين الذين غادروا العراق وذاع صيتهم هنا وخف عندما ذهب الى الخارج وهنا اشير الى الراحل المبدع عوني كرومي.
اما الفنانة اقبال نعيم فقالت بعد ان اطلقت حسرة: خسارة كبيرة، رحيل قاسم محمد خسارة كبيرة لانه موسوعة ثقافية جمالية كبيرة، خرّج اجيالا من الممثلينالمهمين الذين اخذوا مسارهم في الحياة المسرحية، قاسم محمد كان مستقبليا في مدرسته الاخراجية منذ ان اخرج (كان يا ما كان)، فالاعمال التي قدمها محاكاة جمالية للمشهد وكل مسرحية هي مدرسة كتكاملة، كان قاسم محمد يرفض ان يعلمنا داخل الصف بل يعمنا تطبيقيا على خشبة المسرح لانه يؤمن بمقولة التمرين ثم التمرين ثم التمرين، لانه يراه الحقيقة في صناعة الممثل وصناعة قيم مسرحية، وليس العرض الا نتيجة، واضافت: خسارتنا كبيرة عندما غادرنا قاسم محمد ال الخارج بسبب الحروب والحصار، وانقطع عنا علمه وثقافته، واحزننا ان يأتي جثمانه ولم نستطع ان نلقي عليه النظرة الاخيرة، قاسم محمد علم من اعلام المسرح وعمود من الاعمدة الراكزة في بناء المسرح وبأنهياره هو زعزع نظامنا المسرحي، لكن املنا بالقادم، بتلاميذه وزملائه المجتهدين ان يعودوا للمسرح القه كما ينبغي ان يكون وليس كما هو كان.
التعليقات