ترجمة / أسامة الشحماني:يانيك لاينس، التي شهدت الزلزال المدمر الذي وقع في العاصمة الهايتيِّة بورت او برنس تضع قرَّاء الصحيفة السويسرية نوي تسيورخير تساتيونغ، في خضم تلك اللحظات العصيبة التي مرَّت على ذلك الشعب المعروف منذ قرون بصبره و قوة إرادته العنيدة للعيش والتغلب على كل ما أحاط و يحيط به من فقرٍ مدقع وسياسات ظالمة وكوارث طبيعية.

كانت الساعة تشير الى الرابعة و ثلاثٍ وخمسين دقيقة من مساء الثلاثاء 12.1.2010. حين غرقت هايتي في كابوس مدمِّر، لم يكد حسابه بالزمن ليستغرق دقيق واحدة، ولكنك إذا كنت تقف تحت أحد السقوف وترى بأم عينك كيف تتسع تشققات الجدران من حولك وكأنها أفواه التماسيح، وكيف تميدُ تحت أقدامك الأرض ثمَّ تنخسف وكأنَّ ثمة ما يذيبها من الأسفل ستعرف عندها أن الدقيقة طويلة بشكل لا يصدق، ستشعر بها وكأنها زمن لزج لا يريد أن يمضي. إيقاع لزمن رهيب، هلعٌ شاملٌ أفضى الى صخب وضجيج مروّع، خوفٌ وتأوّهٌ جماعي لفظته الأحياء والمباني الفقيرة مرة واحدة... هكذا ومثلما تلفظ المعدة شيئاً من الحلق.
الآلاف تصرخ من رهبة الحدث و شدة الألم، تداخل الأصوات يغلِّف رأسي يطبق على رقبتي، يكمِّمُ فمي ويتركني أكابدُ إختناقاً عسيرا، على أني أنجحُ أخيراً بدفع أحدى البوابات التي تؤدي الى الخارج، حيث أنا الآن في نهاية الشارع الذي أقطن، أجسادٌ متناثرة ملبدة بغبارٍ غليظ، مبانٍ مدمرةٌ تماماً، جدرانٌ ممزقة، وجوهٌ يكسوها غبار أحمر، خطواتي تتسع تزداد قلقاً وسرعة، الرعب يحاصرني من كل الجهات المشهد يكشف عن مدينة بمنتهى البشاعة. لم يخطر البكاءُ على بال أحد، لقد هرعنا لنجدة من يمكن لأيدينا أن تطاله.
يقفز الى عقلي سؤال طالما آرقني، لامسَ أدق أحشائي وحفر في مخيِّلتي عميقاً: لماذا الهايتيين مرة أخرى؟ لماذا نحن دائماً؟ وكأننا وجدنا في هذا العالم لقياس مدى تحمل البشر للكوارث، لشراسة طبائعه وقسوة ممارسته للسلطة، أو لمعرفة أقصى ما يمكن للإنسان أن يطيق من فقر مدقع وجوعٍ أسود، وإلى أي مدى يمكن للمعاناة أن تخلق منه مبدعاً في فن الإدخار و التنازل عمَّا تحتاج إنسانيته! لقد وصلتني أولى الإجابات على تساؤلاتي مع أغاني وأناشيد الشعب الهايتي، تلك التي لم تنقطع حتى في عتمة تلك الليلة الموحشة، بينما يلملم الأحياء جثث ذويهم، أغنيات عجيبة تخترق كل ما في هذه الليلة من يأس لتطرق مسامعي بكلمات تشحذ الهمم وتحذر من اليأس أو لعن القدر.
في صباح اليوم التالي وجدت نفسي أحث الخطى، أتفحَّصُ مدينة من فوضى لا أثر فيها لما يشير الى الحياة. الشوارع تغصُ بجثث الضحايا، ملاءاتٌ بيضاء تغطي عدداً ضئيلاً ممن تعرَّت أجسادهم، جثث لأطفال ومراهقين تغطيها قطعٌ من الكارتون و ورق المقوى تتكدس في واجهة باب كبيرة لأحدى المدارس المهنية، أعدادٌ هائلة من الذباب تتهادى وسط هذا الخراب، و تواصل رقصها فوق سكون الجثث ودماء الجرحى. وحده البوق السماوي المدوي هو الغائب عن ذلك المشهد، كان على الملائكة أن تنفخ فيه لتسدل الستار و تعلن عن نهاية كلِّ شيء.
لقد تجلت صفة الشجاعة والصبر و مبدأ الإنسانية والتكافل بين الناجين بشكل لا يصدق، وكان عدد من الفقراء الذين لم يهلكوا من أكثرهم تصميماً وحرصاً على ضرورة التمسك بإنقاذ حياة الجرحى، كانوا يقولون لابد لهؤلاء من أن يعيشوا حياتهم حتى وإن كانت في مدينة ميتة. على إن آخرين أذعنوا لرائحة الموت وإنقادوا لغرائزهم الجامحة فأخذوا يمارسون السلب والنهب، ظاهرة لا مفر من حدوثها من قبل أناس لا وزن لهم في مثل هذه الظروف، وإن ركزت عليهم الصحافة و وسائل الإعلام.
لقد وجدت في وقت لاحقٍ من هذا الدرس ومن مجموع ما تحتفظ به ذاكرتي مقولة لألبيير كامو، كان أحد أصدقائي قد أرسلها لي مرة كجزء من رسالة، يقول كامو: (والآن نحن على دراية تامة بماهية الأسوء. ولكن هذا سيساعدنا كثيراً على مواصلة الكفاح.). لايبدو لي ما حصل في هايتي هو نتيجة حركة موازين الأقدار أو المصائر ضد الإنسان كما يلوح بهذه التأويلات كثيرون (ولا أريد الحديث عن هذه التفسيرات التي لا يتبناها غير أولائك الذين يغطون بالكسل والتنصل عن أداء دورهم في الحياة فيعزون كل شيء الى مؤمرات خفية تنسجها ضدنا الطبيعة) بل هو نتيجة لسلسة من العوامل التي جعلت هايتي في مركز هذه الكوارث والتحديات، وربما في هذا درس جديد لها لكي تتعلم إشتراطات الحياة العصرية وماهية الإمكانات البشرية في تحويل هذه الحياة الجديدة الى واقع معاش. إن الكارثة التي خلفها الحادث الجيولوجي الكبير الذي وقع على جزيرتنا غير المعروفة بالوقوع على خط الزلازل يجب أن يجعلنا نعيد النظر بواقعنا الحياتي والإجتماعي و بالأسباب الموضوعية لوقوع مجتمعنا تحت خط الفقر، ذلك المجتمع الذي عانى قرون طويلة تحت وطأة الإضطهاد وقدم أداءً ثورياً لا يمكن تصوره للإنعتاق من نير الرق والإستعمار. إن ثورتنا من أجل حريتنا فضلا عن الثورتين السابقتين عليها، وهما الثورة الفرنسية والأمريكية أثبتت أن ليس للون بشرة الإنسان أو لموقعه الجغرافي أثر في صنع قدراته أو تحجيم أرادته في بناء مستقبله. إن ما حصل لنا في هايتي يدعونا للثورة من جديد على السلطة التي إبتلينا بها، والى الدعوة الى نبذ القتلة والحلفاء لهم الذين تآزروا مع فرنسا ضد شعبنا، ومطالبة هؤلاء بتعويض شعبنا عما لحق به من أذى خلفه له الإستعمار، و أننا لابد أن نعود الى تاريخنا كأناس رفضوا القيود بكل أشكالها وأختاروا الحياة.
لابد لشعبنا من أن يقوي أسس التضامن الفعال مع كل التجارب التاريخية التي حرصت على الكفاح من أجل الحياة الحرة الكريمة ومنها، تجربة سيمون بوليفار في بداية القرن التاسع عشر في أمريكا اللاتينية، ولابد له من أن يؤسس تعريفاً ومفهوماً جديداً للمواطنة ينسجم مع حبنا وحرصنا على مستقبل بلادنا ولا يتخذ من هذه الكارثة فرصة للرحيل أو للبحث عن الحصول على الجنسية الامريكية أو الفرنسية، إننا في جزيرتنا صغيرة الحجم هايتي نعيش زمناً عصيباً يمكننا من خلاله أن نكون رمزاً يحتذى به وتشير إليه كل الإنسانية إذا أثبتنا الإخلاص لبلدنا و القدرة الى البقاء برغم كل التحديات. علينا أن نجد إجابات على وجه السرعة لتساؤلات ملحة في وجودنا في هايتي ومنها سؤال العلاقة بين الشمال والجنوب، وسؤال السلطة الحاكمة، التي أصبحت الحاجة الى محاسبتها الآن أكبر من أي وقت مضى، ولاسيما على طرائق وسبل تعاملها مع ما ترتب عليها من واجبات وإلتزامات تجاه مواطنيها حين إنهارت على رؤوسهم السقوف و وقفوا على حافة الهاوية. إن واجبنا الآن هو أن نبدأ البناء بشكل وبإسلوب صحيح يتناغم وما لجزيرتنا من قدرة على مقاومة كل ما تعرضت له من شرور على مر تاريخها، وعلى ما تميزت به عن سائر الناس بكونها قادرة على قلب وتحويل الألم الى إبداع. أنا لا يساورني أي شك في أن شعبي الهايتي سوف يستمر في مواجهة التحدي وسيكون كما يقول رينيه شار (مكتشف الحالة الصحية للكوارث).


* Yanick Lahens ولدت في بور او برنس (هايتي)عام 1953، ودرست الأدب في جامعة السوربون في باريس. تعمل إستاذة للأدب في دارالمعلمين العليا في بورت أو برنس، فضلاً عن كونها صحفيَّة لوسائل الإعلام المطبوعة والإذاعية منذ عام 1994. أصدرت عدة مجلدات من القصص القصيرة المنشورة. روايتها الأولى quot;رقص الأسلافquot; نشرت باللغة الألمانية في زوريخ دار Rotpunkt - للنشر.
*نشر هذا المقال للكاتبة في جريدة Neue Zuuml;richer Zeitung في عددها الصادر اليوم 21.1.2010.
[email protected]