السيد (فهمان)
ربما يسألني أحدكم عن سبب وضع إسم السيّد أعلاه بين قوسين. أقولها، أن مرد ذلك يعود لإعتبارات عدّة. أولها، لأنه لا مثيل له، لا هنا ولا هناك، فهو ذو شخصية خارقة الذكاء، وشاعر مبدع، وفنان تشكيلي من الدرجة الأولى، لا يضاهيه آخر في الكون كلّه، وهو،أيضاً، إنسان ثاقب الفكر. ومن بين الإعتبارات الأخرى أيضاً، كونه عالماً في كل شئ، أي بمعنىّ آخر كونه جوكراً، حيث تراه مناسباّ، أينما وضعته. وفي إحدى المرّات، كنت قد لمحته، من على بعد، يتوسط مجموعة من الشباب. كان متحمساً جداً، ومنفعلاً وهو يتحدث إليهم بصوت عال. هكذا بدا لي وأنا أحاول إلتقاط البعض مما كان يقول. وعندما إقتربت أكثر من الحشد الملتف حوله، تلقفت أذناي لبّ الخطاب الذي كان يوجهه الى من يعدهم من عامة الناس، فهو الأعلى شأناً منهم بكثير. هذه المرّة كان يتحدث الى ضحاياه عن اللقاء الذي جمعه، مؤخراً، في هوليوود، بالممثل الشهير كلينت إيستوود، وعن تفاصيل الإتفاق الذي أبرمه معه لتصوير فيلم جديد. هنا، لم يك بمقدوري السكوت والإستمرار في الإصغاء الى هذيانه غير المعقول، وقلت من حيث لا أدري كيف، وقد علا صوتي قليلاً، لكن الرجل متوف منذ أكثر من سنتين يا سيّد، يا (فهمان). حينها، خيّم هدوء تام على المكان، حتى جاء صوته، المفعم بالثقة دوماً، حتى وإن كان على خطأ quot; كنت إلتقيته قبل أن يودعنا الى العالم الآخر، يا أخquot;.


الصدمة
تلك اللحظة كانت بالنسبة لي صدمة قوية حقاً. لأن ما رأيته في ظهيرة ذلك اليوم، لم يخطر ببالي قط. فالشاب الذي يعاني من العوق الذهني، لكن بنسبة ضئيلة، أعرفه حق المعرفة. شاب طويل القامة، عريض المنكبين، قوي البنية. مضى على لقائي الأول به أكثر من ستة أشهر. وقيل لي حينها بأنه شرس وشديد العدوانية، أن حاولت أو لم تحاول إستفزازه. صورته تلك كانت قد إنطبعت في ذهني، وفي كل مرة، أحسّه منفعلاً، أتجنبه. ففي ظهيرة أحد الأيام صادف أن تلقيت أمراً بالذهاب الى مقر عمله، عند نهاية الدوام، والعودة به الى منزله. وعندما لمحني إنفرجت كل أساريره وراح يحمل جسده الضخم الى حيث الخزانة التي يحتفظ فيها حقيبته ولوازم وجبات طعامه. وكم تمنيت في تلك اللحظة أن يتوقف الزمن، ويعود الى الوراء، حتى ولو لسويعات قليلة، لأطلب من مديري أن لا أقوم بمهمة الذهاب الى مقر عمل هذا الشاب الذي كنت أخشى دوماً إستفزازه، والذي كان يبدو لي شأن آخر. ففي اللحظة التي كان يحاول مدّ يده لإنتشال حقيبته، دنت منه فتاة نحيلة جداً، يبدو عليها الإرهاق، كما لو كانت لا تقوى على شئ، وربما حتى على حمل العظام المتبقية من جسمها النحيف، والسير بها لخطوات معدودات بإتجاه ذات المكان الذي كان هو فيه. وما هي إلاّ ثوان، حتى رأيته، في حالة لا يحسد عليها، فقد كان يرتعش خوفاً، كما لو أن الرعب قد لبسه، من رأسه حتى أخمص قدميه، وراح مسرعاً ينزوي في ركن ضيق جداً من الغرفة الصغيرة التي إحتوتهما، مؤشراً بإصبعه إليها، وموجهاً نظراته، المليئة ببريق دموعه المتوسلة، إليّ، يطلب مني أن أبعدها عنه وأمنعها من التوجه نحوه، لئلاّ تضربه.


الهدية
كلانا نعمل في ذات الجمعية الخيرية التابعة للحي الذي نقيم فيه. ورغم صلة القرابة التي تربطنا، لكنني لا أطيق إسلوب تعامله مع الآخرين، ولا أستسيغ أحاديثه، وقد قلت ذلك له مراراً، ووجهاً لوجه. فهو ذلك الإنسان الخالي من الكلام الجميل، ولا يحتوي قاموس حياته سوى ما يمكن أن يتحايل به على الناس، وهو الأمر الوحيد الذي يتقنه، ويتفنن ويتلاعب به. وتراه، أيضاً، كثير التبجح والتصنّع في شخصيته، ويحشر بين كل كلمة وأخرى، مفردة أجنبية، رغم أنه لا يفقه شيئاً من تلك اللغة، وإن كان يعيش مع زوجته الأجنبية لأكثر من عشر سنوات. وصادف أنني كنت قد قررت الإحتفال بمناسبة عزيزة جداً الى قلبي، وتمنيت في أعماقي أن لا يحظره، وكان ما أردت، حينما جاءني معتذراً بعدم تمكنه من تلبية الدعوة التي كنت قد وجهتها إليه، بحكم القرابة، لإلتزامات لا بد أن يتقيد بها، مضيفاً لكن هديتي موجودة، وسوف يقدمها لي في الوقت المناسب. ولم تمر سوى بضعة أيام حتى هاتفني ليبلغني بأن الهدية موجودة في غرفتي بالجمعية الخيرية، حيث لم تسنح الفرصة له لزيارتي في البيت. شكرت ربي على ذلك، مع نفسي، وشكرته هو على هديته. وعندما ذهبت، في اليوم التالي، الى مقر عملي، هناك وقع نظري على صندوق كارتوني غير مغلّف، يبدو عليه القدم وآثار غبار، هنا وهناك، مطبوعة عليه صور أواني وصحون. وأدركت، حالاً، بأنها هديته التي حدّثني عنها. وما كان عليّ إلاّ أن أركن الصندوق جانباً، وألصق به ورقة مكتوب عليها هدية من فاعل خير الى الجمعية الخيرية.


سيدني ndash; استراليا
[email protected]
a