كان قد إنسلّ، من حيث لا يدري، الى الشارع، مخترقاً طوابير المارة، في الناحية أو البلدة التي ولد فيها، قبل سنوات عديدة. أحس بخطواته تتسارع في إيقاعها، كما لو أن كارثة ما على وشك أن تقع. أجواء الحرب تسود كل مكان تطأه قدماه، ووجوه الناس قد أخذ التعب منها الشئ الكثير، بينما تتجمع، هنا وهناك، وحدات عسكرية بجنودها وبزاتهم الكاكية، لم يستطع معرفة مصدرها، غير أنه كان على يقين إنها قادمة من خارج الحدود. في خضم الإزدحام الذي كان يعيق خطواته المتسارعة الإيقاع، حاول أن يتذكربعض الوجوه التي كانت تصادفه في طريقه، لكن محاولته تلك باءت بالفشل، إذ ليس هناك من وجه مألوف لديه، لا من قريب ولا من بعيد. كل شئ يبدو غريباً، حتى الأماكن والأشياء التي ولد فيها وترعرع بين أحضانها، أضحت معالمها والمسافة بينه وبينها شديدة البعد.
لم تثبط عزيمته أو تقل همّته، على رغم الغربة التي خالجته وهو في طريقه للقاء من كانوا في يوم ما أهله، بكل ما تعنيه كلمة الأهل من معنى، ولم يشأ أيضاً التوقف عند التجمعات العسكرية التي تصادفه كل عدة أمتار، إذ لا شأن له بها، وإن كان في قرارة نفسه يمقتها، ويتمنى لو أفرغ كل لعنات الدنيا عليها، فهي من شوّهت معالم مدينته الجميلة، وكانت السبب في مقتل مئات الآلآف من الناس.
من بعيد لمح وجهاً مألوفاً، وكان عليه أن يستدير قليلاً ويسير في إتجاه من بدا قريباً إليه، وفي داخله رغبة جامحة لإحتضانه وإطلاق صرخة فرح عالية، غير أن الأمر لم يكن كما كان قد خطط له، قبل لحظات، وأن الشخص الذي تصوره من أقربائه، حمل نفسه فجأةً، تسبقه خطواته السريعة جداً.
هكذا يبدو أن ما بنى عليه من آمال، لم تكن مرسومة سوى في مخيلته، وأما على أرض الواقع، فالحياة هنا تبدو بعيدة عن ذلك، وليس هناك ما يمكن أن يشبه أحلامه، وكل ما توقعه أضحى الآن من وحي الخيال، وصور الأشخاص التي رسمها في ذهنه قبل أن تطأ قدماه الأرض التي ولد فيها، أصبحت محض خيال لا غير. ورغم ذلك، أصر على المضي قدماً، بحثاً عن تلك الوجوه الطيبة، والقهقهات الطفولية البريئة، والتي رافقته على مدى خمسة عشر عاماً.
عندما حطّ عند آخر محطة من رحلته الطويلة، والتي إستغرقت ساعات طوال سيراً على الأقدام، لم يلتق بمن كان متوقعاً أن يلتقيهم، فقد إضمحلت كل الوجوه، وغابت عن مدينته الصغيرة تلك الأزقة التي طالما إحتضنته مع أقرانه من الأصدقاء، ولم يبق منها إلاّ أطلالها، وأما البشر الذين عاشوا على أرضها، لم يعد لهم أثر، كما لو كانت المخلوقات الغريبة، القادمة من خارج الحدود قد إبتلعتهم جميعاً، وداست عليهم بعجلاتها.
عاد بقلب ينزف دماً، وجسد أنهكه الزمن، وليس أمامه، في الأفق البعيد، غير الرغبة العميقة للعودة ثانية، الى ذات مدينته، والبحث عن الوجوه التي إفتقدها اليوم، والمدينة التي لم يبق منها سوى أطلالها.
تشرين الأول ( أكتوبر) 2010
سيدني ndash; استراليا
[email protected]
التعليقات