إلى روح الفنان الخالد جورج هومه

رأيته بأمّ عيني
وهو يعصر القصيدة في زجاجة اللحن
فتتفتّق أكمام زنابق الضوء على رؤوس أصابعه
وتتناسل جياد البرق بين يديه.

كلما كان صوته ينساب راعشا في وهاد الصدى
كانت العنادل تبكي طربا
والسنابل تنحني خشوعا
والأسماك ترفرف صادحة بين الغيوم
والنوارس تتلألأ في مرايا البحر
ونواقيس الكنائس تقرع من ذاتها
والحقول والتلال تهبّ من نومها
وصهيل حصانه المجنّح
يدوّي في جنبات السموات السبع
بينما كان الله يضيء شمعته اللازوردية
في الكوّة المفتوحة على مراعي الليل.

أيها الطفل السماوي اليانع
هاقد عدت إلى حضن أمك تحت دالية النجوم
في جنائن آشور المقدّسة
(بين المروج الخضراء)
مفعما بالطهر... مضرّجا بالألق
متوّجا بهالة من بهاء الشفق
ملاك يتأبط العالم ويثب على مدارج السماء
يرشقه القديسون بالقبلات
ويستنشقون من مسامات روحه
أريج التراب بعد مطر التشارين
كلكامش يفرش تحت قدميك سجّادة السندس
على طريق الأبدية
وأنكيدو يعدّ لك مراسيم الدخول إلى قاعة العرش
وسيدوري تفتح لك حانة النبوءات
ليتاح لأحلامك وطموحاتك متسع في ربوع الأزل
في حين كان الله
يطلّ بشوشا من شرفة مقصورته السرمدية
ليعلن عن ولادة هزار في السماء.

أيها الكناري العابق بترانيم الآلهة
كنت تغزل الألحان على أنوال الغيم
وتعزفها على أوتار المطر
فتعشوشب الصحارى... تزهر الأحجار
وتثمر الغابات عناقيد طيور والهة مرهفة
تلتقط الحب من بيادر النجوم
وتتأرجح جذلى فوق غصون الريح.

يارونق غيمة تمطر فوق غابة تحترق
لاأحد يشبهك سواك
الآن... وبيدك بوصلة الموت
تستطيع الغور في مجاهل المستحيل
لتكتشف الطقوس المهيبة في مملكة الغيب
بعد أن أضأت مابين الأرض والسماء
واتكأت على أريكة الشمس.

ظللت تتألق لأكثر من أربعين عاما
كغيمة تحترق على مشارف قوس قزح
وشعبك في قلبك يقطر دما وضياء
لقد سموت من دون أن تترفّع على أحد
وخطوت قدما في كل الاتجاهات
من دون أن تطأ على قدم أحد.
كل الجداول تفيض في الربيع
أما أنت
فقد كنت تتدفق بالفيض في كل المواسم والفصول
في كل لحن من ألحانك
تنعكس أحاسيس الله في مرآة روحك
وعلى يديك
كان يتحوّل العوسج إلى قرنفل يتضوع عطرا.

كنت حين تتلوى على الكمان
نسمع رفيف أجنحة الفراشات
هسهسة القبّرات فوق لهيب الثلج
عنين النواعير على شلالات الخابور
همسات العشاق وراء الأسوار والحيطان
صدى أنين الناي في ربوع المراعي على سفوح الجبال
زقزقة العصافير فوق شجرة التوت في فناء الدار
نسائم صباحات الصيف
وهي تهدهد النائمين فوق سطوح المنازل
حكايات الجدّات حول المواقد في الشتاء
تراتيل العذارى في الكنائس التي لم يبق لها أثر
ثم نشمّ حريق الأوتار
وهسيس النار في مجمرة البخور.

أيها الملتصق بسرّة الوطن
لما وجدتك ملطخا بالموت... طلق المحيّا
شعرت بانهيار دعائم الليل والنهار
استيقظت من موتي
حملقت في السماء
وبصقت على أيقونة الأرض
لعنت تضاريس الحياة
وأوغلت في الحزن حتى الهزيع الأخير.

ياأميراً زفّته الأرض إلى السماء
لقد حرّرت ذاتك من حرائق الجسد
ومضيت كفارس من ومض أنيقا بهيّا
من خلفك بنات نعش يزغردن
وفي استقبالك ربّة العذارى
تفتح لك ذراعيها... وتغمرك برحيق الخلود.

أيها النغم المنساب على ضفاف الأنهار
جئت إلى عالمنا مسكونا بكل مواهب وطموحات الآلهة
لم تلبث طويلا
امتطيت صهوة الحلم
وتواريت في مهجة الشمس
تاركا بصماتك على غبار الطلع... وشفاه الأزهار.

مع مرور السنين
سترتدي حلّة الماضي
ولكن اسمك سيظل يتلألأ على واجهة المستقبل
وستظل تترقرق في نسغ الحياة
في كل عصر... وفي كل زمان
وستظل نابضا في قلب الأجيال
وسيظل وجهك يتوهّج في رماد السنين
وستظل تتنزّه في حقول الذكريات
لاتتسع لخطواتك مساحات القلوب
ستتجسّد ذكراك في ابتسامة الياسمين
في هديل الأقحوان
وفي نشيج الكمان
وفي كل نجمة
وفي كل غيمة
وفي كل ساقية
وفي مطلع كل فجر
ستأتي إلينا كحلم جميل
لنستفيق على رنّات قبلاتك.

أيها المتقيّل في أرجوحة غيبوبته الورديّة
كل شيء تلاشى كالسراب
ولم يبق غير غيابك ساطعا كمعبد الشمس
مهما توغلت في رحاب الرحيل
ستعود مرحا كطفل يلهو بجدائل الموت
ويجرجر خلفه تابوت العاصفة.

أيها الفجر البازغ في ظلمة الليل
تعوّدت أن أراك دائما تسير بمحاذاة القمم
وهاأنا في انتظار أن ينشقّ الكفن
لتلوح كيمامة من نور فوق سارية القبر
لايراك إلا الضالعون في الرؤيا.

أيها المسكون بأسطورة الخلق
أنت... لم تمت
لقد توشّحت برداء الأبدية
ودخلت حجرة نومك الملوكية
لترتاح من صخب الكائنات وضوضاء الكلمات
ولتضع رأسك على وسادة من ريش الملائكة
وتذوب في الحلم الذي لايشبه الأحلام
وتتوارى في ملكوتك الأزلي.

لم تمت
إنك تجرّب الموت
لتعود مكتظا بطقوس الطوفان وأنغام القيامة
عذبا... نقيا
ممتزجا بأحلام الأطفال
ومناغاة الأمهات
وأنين المعذبين في الأرض
لتضع اللمسات الأخيرة على سيمفونية الموت والحياة.

يا سليل الحضارات
في كل ليلة تطلّ من شرفة الموت
لتتوسّد أجفاني
وتغفو بين الأهداب
سيظل اسمك يتأجج فوق لساني
ويتمرّغ في غبار دمي
وستبقى ساطعا كوردة الصباح
تتوهّج في القلب والذاكرة
إلى أن ينحدر من جبل الوحي نبي
يرث الأرض من بعدك.

أيها الذي سيتبارك باسمه الآتون

سنفتقدك
وستبكيك أوتار الكمان
وستظل صورتك تنعكس في بحيرة الذكريات
وسنظل نسمع صوتك منهمرا من خلف زجاج الآفاق
مخضلا بقداسة الأمطار
وعبير الشعر
وسحر الألحان
وتسابيح الكمنجة بعد منتصف الليل.

أيها العندليب المتألق في دوحة القلب
لقد حلّقت مع سرب الملائكة
ونسيت جسدك على الأرض.

ياراعي قطيع غزلان السماء
أصداء نايك تبعث في أجساد الموتى قشعريرة الحياة
بعد رحيلك
زحف اليباس على كل شيء
على القلوب والأشجار والأنهار
جميع أصدقائك ومحبيك
تحلقوا كالفراشات حول قنديل موتك
جميعهم كانوا شهودا
وأنت تتسلق سلالم النور
وتغيب في بهاء مملكة الموسيقا.

كل المشيعين تدفقوالإلقاء نظرة الوداع عليك
أما أنت
فكنت كما كنت خجولا... وشامخا
أبيت أن ترافق جسدك إلى المقبرة.

ياحبيب عشتار
ألمحك من بين سحابة الدموع
جالسا على عرش مجدك الأسطوري
تنهلّ من سرّة الأقحوان خمرتك االإلهية
من فوقك تصدح أسراب النايات
ومن حولك تحوم فراشات الشعر
ومن خلاياك تنطاير يراعات الذهول
بينما بلابل السماء ترعى من سنابل ألحانك
وحمائم الأنبياء تبني أعشاشها فوق سطوح قصائدك.


ياصياد ظباء الومضات الشاردة
كانت جعبتك لم تزل حبلى بالأقمار
ولكنك في غفلة من سادن الزمن
رحلت
وألقيت بجميع أوراق ذكرياتك من نافذة قطار الموت
في سلة التاريخ.
رحلت على عجل
حتى أنك لم توّدع نينوى
التي كنت تدجّن في مقلتيها أطيار قصائدك وألحانك.

أيها الأرقّ من وشوشات النسيم
وأرهف من الشعاع
وأنقى من ندى الفجر
وأطهر من خمر التقديس
وأعذب من ماء دجلة والفرات
وأجمل من أرض مفروشة بآلاف الطواويس
وأشهى من خبز التنّور الطازج
لماذا لملمت جميع زنابق الفرح من رياض قلوبنا
ورحلت
وتركتنا أيتاما على قارعة الحزن والبكاء والألم؟.

قلوب كثيرة كانت تتمنى أن تلتصق بقدميك
وأنت تحلق في الآفاق اللامرئية.

أتمنى أن أقبّل وجنتك
وألثم جبينك السامق
ولكني أعلم
بأنك أعلى... أعلى بكثير
من أن تطالك شفتاي.

ياقمر الأمنيات الكسيرة
من بعدك تشظى قلبي
وذوت ورود أحلامي دفعة واحدة... وإلى الأبد.
لكنني سأظل أحسد القبر الذي يضمّك بين أحضانه.

أيها الحبيب السرمدي
أنظر من عليائك إلى هذه الأرض
أليست مجرد سنبلة فارغة في حقل من الأوهام؟.

******