يوم الثلاثاء 19 من يناير قدمت آخر امتحان لي في الجامعة، كانت الساعة تشير إلى الواحدة والربع ظهراً، شيء ما في داخلي أنتفض، احتقن وجهي وتلبدت غيوم كثيفة من الدموع، ما أن سخنت حتى ألقيتها إلى خارج المحيط بطرف إصبعي، لكن ذلك لم يشفع للبقية اللاتي رفضن إلا أن يسجلن عبوراً جريئاً، فتقاطرت الدموع دون توقف، شعور دافئ لا يمكنني الآن تصور كتابته، تبدو الأمور صعبة في كثير من الأحيان، حينما تتعلق بمفترق حياتنا، الفكرة تبدأ بفاصلة بعد كلمة واحدة، وتنقسم إلى ألف كلمة دون فاصلة واحدة، وهكذا يبدو لي ماحدث في آخر يوم، أظن أنني كنت بحاجة إلى مصور محترف، كي يختزل كل تلك الظلال التي طاردت عبائتي، وذلك الصبر الذي علكته سنوات دراستي، كنت أحتاج إلى من يؤرخ ذكرى اليوم، دون أن أتكلم أو أعطي مبرراً لشيء لا أملك الخلاص منه.
حينما خرجت من بوابة الجامعة، انطلقت كل الأشباح إلى السماء، فلم يعد هناك من يصوب بندقيته إلى وقتي، أو يحسب أيامي الباقية، أو حتى يهددني بالسقوط، أو يذلني بفرضية نجاح جاء نتيجة جهد غزير بالعرق، كنت كل ما أفكر به أن أكافأ نفسي، فذهبت إلى مطعمي المفضل، رغبت أن أكون وحيدة، وطلبت وجبة غداء شهية، لكن ما أبهجني أن عاملات المقهى السمروات، شاركن فرحتي بإنقضاء غبار الأيام المالحة!
ويوم الأثنين 25 من يناير، كنت أشعر بأني مصابة بكل الأمراض اللعينة والقاتلة، لا أعرف هل كان وهم ماعشته، أما أنني كنت أعاني وقتها من تكابل الأشياء بعضها فوق بعض، فأحسست بأن كل الأشياء إما أنها توقفت، أو أنها للتو بدأت، حينها شعرت بالثقل الكبير على صدري، وبدأت الهزائم المرضية تلحق بي، رسالة من زميلة دراسة تخبرني أن النتائج ظهرت، شعرت بمغص شديد في بطني، حملت قدمّي بصعوبة، وجلست وأنا أرتجف أحاول أن أتذكر كيفية الدخول إلى موقع الجامعة الألكتروني، وما أن وصلت حتى شاهدت بأم عيني قلبي وهو يفر من صدري، تضارب.. خبط.. لزق.. لا أعرف؟ ثمة أشياء مهولة تحدث داخل هذا الجسد المحموم المنذور للتعاطف مع الألم، أصابعي ترتجف حتى أنني لا أقوى على ضغط Enter، يآلهي أين ذهبت شجاعتي التي أتباهى بها، ما أن أصل إلى قمة سفح الجبل، هكذا نحن مجرد سلة خاوية، لاشيء يهبنا القوة إلا الماء، تخيلت أنني فقط بالمآء أكون شيئاً ثقيلاً، لكني لازلت أعجز عن كش الخواء!
ظهرت النتيجة وأخيراً استطعت تحقيق 126 ساعة بنجاح، اتصلت على زميلتي حتى أتأكد، quot;انتصار متأكدة أن 126 ساعة يعني أنا تخرجت..؟quot;، quot; أي والله وربي أنتي تخرجتي ياشيخة.. يالله روحي بشري الأهلquot;، لحظتها اغلقت سماعة الجوال وانتصار لاتزال تتكلم، لحظة.. لا أعرف هل اغلقت سماعة الجوال، أم أنني تركت الجوال على الأرض، وصوت انتصار يتناهى إلى مسامعي وهي تقول quot; آلو سارة.. أنتي بخير ؟quot;، نعم أنا بخير لكنني وقفت عند درج البيت، أصرخ quot; أنا تخرجت أخيييييراًquot;، هكذا انتهت رحلتي الدراسية، وحصلت على شهادة البكالوريوس الثانية في الأعلام -علاقات عامة.
في احتفال صغير تسألني إبنة عمي ذات السادس عشرة ربيعاً، ماذا خرجتي من تجربتك الدراسية؟ قلت لها كثير من الدموع، وكثير من السعادة التي لم أتصورها يوماً أن تكون بهذا الطعم المحلى، والقليل جداً من الأحباطات، وأضفت: لكن لا يتصور أحد أن الأمور تسير دائماً مثلما نشتهي ومثلما نرغب، لا أعرف لماذا تتباهى الحياة أحياناً بضربنا فيما نحن لا نستحق كل هذا الضرب، إن أقسى اللحظات التي مررت بها، كانت في امتحان المنتصف ماقبل الأخير، حينما أخبرني رجل الجوازات أن تأشيرة سائقي قد انتهت، حينها بكيت أمامه بحرقة، فسألني لماذا كل هذا البكاء؟ قلت لهُ: احياناً تصعب علينا أرواحنا ليس لأننا نعتقد أنها طاهرة فقط، ولكن أحياناً نحتاج من الحياة إلى لمسة وفاء. أما أجمل ما سحققه بعد التخرج، أنه اصبح بإمكاني الاستمتاع بمشاهدة مسلسل quot;طاش ماطاشquot; الرمضاني مع عائلتي، فقد امضيت عدداً من الأعوام، أخرج من البيت في رمضان في الساعة السادسة والنصف لاستطيع اللحاق بمحاضرتي التي تبدأ في الثامنة مساءً، كنت أخرج من باب الصالة ويتناهى إلى مسامعي، صوت أخوتي وهم يكركون الضحك مع قفشات الأبطال، ويتبارون في دفع الحلويات إلى بعضهم البعض، بينما أكون في السيارة أبحث عن أي منديل قريب مني لأمسح دموعي التي لا أعرف متى سيحين موعدها لتصمت، وأتناول بقايا فطوري الرمضاني.


الظهران