إن المصور يُحضر جسمه....quot; فاليري quot;
استهلال
الصورة التامة تُكتمل بعناصرها غير المرصودة، بمد وسيط ٍ عضوي متأرجح فيما بين الثنوية العامة، العقل / المادة. بتقريظ هذين المكونين، وتفعيلهما ليؤسسا الوعي الترسندالي المتضافر من مكوني الخارج / المادة والداخل/ العقل. هذا ما يمكننا استخلاصه من أطروحة quot; ديفيد بوهم quot; حول النظام المنطوي، الذي بناءا عليه ومن خلاله ترتسم أنتولوجيا الواقع. معيدا بذلك الرهافة الإبستمولوجية لفكرة quot; ليبنتزquot;حول تكوّن الموجة من اصطدامات ذرات الماء غير المرئية، لكن بلغة منسجمة كليا مع الكم الفكري الهائل لفيزياء الكوانتم المعاصرة، وذلك بقياسه لموضوع تشكل الوعي على تشكل الجُسيم؛ إذ أن: quot; شكل القُسيم يدوم من خلال التلاقي والتباعد المستمرين لموجات متفتحة عن حقل منطوٍ من الكمون الكوانتي، كذلك يمكن النظر إلى الوعي بوصفه الشكل المنشور الذي يدوم من خلال التلاقي والتباعد المستمرين لموجات متفتحة عن حقل غير واع ٍ من الكمون النفسيquot; (1). فالثنوية الديكارتية (العقل / المادة) تركت مغزى الجسد في إطار آليته غير المحكمة بنظام ترجمة دقيق لتحويل المعطى الخارجي الحسي إلى العقل(2). * فالبنى المحكمة التعيّن صيغة تلاشت مع ارتابية هايزبرغ، وكذلك الأمر بالنسبة لطبيعة العلاقة بين مفهوم البنية وبين مفهوم الكوارك ذو الوجود الشبحي الطاقي. فالواقع مستغلق على حواسنا، لذلك لا بدَّ لإدراكه أن يتضافر مع ما يتجاوزه كمحسوس ومع ما ينظم وجود المحسوس كنظام منطوي أو لامرئي. الأمر ذاته موجود لدى quot; هوسرلquot; في صيغته المشهورة حول الأفق الشامل، الذي يجعل البداهة محملة بما يتجاوزها كظاهر،كون الوجود الظرفي للموضوعات هو وجود لأجل الذات، ولكي يتطابق وجود الموضوعات مع ذاتها، عليها أن تتعالى على ظرفيتها ببناء تعددية الآفاق التي تحيل بعضها إلى البعض في سياق للإحالة، و:quot; كل سياق للإحالة من هذا النوع هو مجال يفتح أمام الوعي القصدي ومعايشاته زاوية للنظر quot; (3) وهذه الزاوية تمكنني من إدراج الأفق الغائب في الأفق المرصود. إقامة علاقة مع اللامرئي المحتجب عن حواسي، عبر المرئي الذي يتوقف تشييد صرحه على قوامه التخيلي المنفتح على الوعي. إذن، للرؤية جانب متأرجح بين ما أراه وبين ما يغيب ـ يستغلق على بصري، لكنه حاضر في الرؤية التي لا تتم بدونه. إنه الثنية التي تخترق رؤيتي بما ينقصها،و بما يجعلني عاجزا عن رؤية نفسي مرئيا. إن الصورة المرآتية جزئية الظهور، لذلك. هي، ليست اكتمالا ولا أيسا، ولا يمكنها أن تجعل ظهري ظاهرا بالنسبة لي في الصورة التي أراها وأكون جزئا مرئيا منها في آن معا، فصوتي الذي أسمعه يتردد داخل رأسي لا يتماثل وصوتي الخارجي المسموع. وصورتي التي أراها لا تتماثل مع الصورة التي أكونها بالنسبة لراء ٍ آخر. هذه الفجوة بين الداخل والخارج، بين الجسد المرأي والجسد الرائي، تفترض لردمها وسيطا ـ حقلا يشمل الموضوع والذات معا. ويتمثل ذلك في مفهوم quot; اللحم quot; الذي اقترحه quot; موريس مورلبونتي quot; كمجال يرتبط فيه المرئي مع بنيته الداخلية. غير أن المرئي ليس هو الذي أراه في الأفق الخاص، بل وإنما هو ذاك المرئي الكلي الإشتباك في الأفق الشامل، لذا لا يجب: quot; أن نفكر في اللحم انطلاقا من المواد، والجسد والعقل، لأنه سيكون حينذاك وحدة المتناقضات، ولكن كعنصر ملموس لطريقة عامة للوجود.quot; (4). هذا المفهوم ـ اللحم ـ يتيح للوعي بأن يدرك الكيفية والإمكانية التي بها ينقلب الرائي مرئيا، واللامس ملموسا. يفتح الأفق الداخلي المعتم لجسدي على أفقه الخارجي؛ ما أخفيه على ما أعلنه، ما أجهله على ما أعلمه، ما ألمسه على ما يلمسني، لمسي بملمسي، جلدي بسطح الأشياء، لحمي بلحم العالم، رؤيتي الأولى بالرؤية التي تليها. فالأشياء تراني مثلما أراها، والطبيعة تكون من الداخل، مثلما قال quot; سيزان quot; لأن الجسد هو الذي يستقبلها بطبيعته، يحيلها إلى تصوير في الوقت الذي يحيل نفسه إلى صورة. الصورة بهذا الشكل تمغنط مستويات الإدراك لتشكل الإدراك الأصيل للواقع المنكشف على ذاته وعلى ما يتجاوزه كواقع ظرفي وكامل التحديد. يظهر ما تقدم في تحليل ٍ لـ quot; فوكو quot; بدون أن يمنحه اسما صريحا في quot; الوصيفات quot;. في سياق حديثه عن الظرة المثالية للوحة quot; فيلاسكيزquot; التي تكتمل خارج اللوحة، فيما وراء رؤية الفنان ورؤية اللوحة ذاتها ـ نظرة شخصياتها ـ ووراء رؤية ما يغيب عنها ـ الملك الذي تنظره ابنته في اللوحة ـ، مشكلة بذلك / الفراغ الجوهري ـ فوكو / و/ اللحم ـ مورلبونتي / و/ مسطح التركيب ـ دولوز / و/ الحقل ـ بورديو /. لتتشكل بذلك الرؤية؛ إذ يلتبس هنا أيضا وجود المرئي، متأرجحا في حيرته إن كان مرئيا أو رائيا، لكنه إلتباس تحرري بالنسبة للتصوير عندما يلح على: quot; الاختفاء الضروري لما يؤسسه ـ لما يشبهه ولمن هو في نظرة ليس سوى شبه quot; (5). إذن. التباس الصورة هنا ليس انحرافا بالمعنى النفسي، بل هو انكشاف حدثي لتركيب الجسم من نفس ـ داخل ومن جسد ـ خارج. بهذه الطريقة تنعقد علاقة الفكر بالمكان، ويتقاطع الشرطان المنطقي والأنتولوجي لإدراك الواقع. لماذا إذن يحضر الفنان جسمه.؟ لإظهار الانعكاس المتبادل لتأثير الأشياء بجسمه ولتأثير جسمه في الأشياء، لانفتاح المنطوي على الظاهر، الصحو على اللاوعي، الداخل على الخارج في الجسد الكلي. إنه اقتطاع حدثي لظهور الذات شفافا من الداخل نحو الخارج، لإظهار العمق في قمة السطح، لجعل نمط الوجود المعروض في الصورة مُدركا من عدة مستويات. لأن الصورة تتجاوز ذاتها وتعرض في الوقت ذاته ماهي عليه، وبذلك تكون الرؤية حدثا متأرجحا في المابين، سيرورة لتقاطع النفس والجسد في الجسم الكلي الإحداثي الظهور أو الموجي الظهور أو الذي يعكس في ظهوره نظاما سيبيرناتيكيا منطويا غير مرصود، لكنه حاضر بالقوة في الجسم الكلي الذي تقيم فيه الرؤية.
يقدم الفن التشكيلي الأصيل طبعا، صورا ترتسم بناءا عليها سلوكيات إدراكية لوعي الذات. غير أن ذلك غائب بالمجمل عن المنظومة النقدية التشكيلية، كونها ـ أي المنظومة النقدية التشكيلية ـ وريثة لتركة هجينة في أحسن الأحوال، لذلك تفتقر إلى أدوات التحليل الحقلية للفن، فهي إما جهوية الأداء، وبالتالي تجتر أدواتها وإجرائياتها التحليلية، وإما حكائية الأداء، وبالتالي مغتربة عن التحليل البصري ـ اللمسي للوحة. حتى أن الكثير مازال يستخدم عبارة quot; النص البصري quot; في الوقت الذي توجه فيه الأدب ذاته إلى مصطلح الخطاب الأكثر انفتاحا من مصطلح النص.
بناءا على هذه اللازمة التنهيجية، سنتناول أعمال الفنان التشكيلي quot; بهرام حاجو quot;. وأعتقد بأنه بدون المعادلة الجسدية الآنفة، لا يمكن الاقتراب من تجربته التشكيلية إلا على المستوى القصصي المجتر والاختزالي لمستوى التعقيد في كل لوحة.
**الفراغ العضوي
يرسم بهرام منذ أربعة عشر عاما على الكنفاس ـ قماش اللوحة ـ الخَيْش ذو اللون الحنطي، الأقرب إلى لون البشرة الشرقية، بملمسه الخشن المتقاطع مع مسام الجلد الآدمي، محيلا الكنافس إلى الجلد البشري، لذلك يبقى اللون الأساس لأجساد شخصيات اللوحة ـ موضوعه الإنساني، كما هو لون قماش اللوحة بوجهه وظهره. من ثمّ يأتي التلوين التحويري للجسد، بتحريكه لعيني المتلقي على سطح الجسد، الذي تتعدد مستويات رؤيته وتموقعه، أو إقامته في المجال البصري، مفجرا بذلك الإمكانات الشكلية لتشكيل الجسد باللون والخط،. وبما أن حجم الأشكال في لوحات بهرام قريبة من حجم جسد المتلقي، وبما أن لوحاته بدون إطار خارجي يحد من إمتدادية العمل، وأجساد جمسع الأشكال في لوحاته ممتدة إلى خارجها، حيث يظهر قسم من الجسد فقط. كل ذلك ينزع الشكل في أعماله من تحديدها النسقي، ينتزعه من إطاره الآدمي ليجعله شكلا دائم التحول في الهيئات الإنسانية والحيوانية والنباتية. يرسم بهرام القوى التي تتقاطع في الشكل الإنساني، لذلك لا يتمحور الفارغ في أعماله حول قوام هندسي للضوء، إذ لا يتوزع الضوء في حزم تعامدية لتحييز ـ إنتاج حيز ـ تتموقع الأشكال فيه، والطاقة لا تنتقل عبر الإشباعات اللونية بين هنا والهناك. فالعمق مبأر وطبقات التبأير متقاطعة في آن معا، حيث يظهر العمق على سطح جسد الشخصية / الشكل، ليغدو الشكل داخل عمقه الخاص وحاملا لعمق آخر يتجاوزه إلى خارج اللوحة، لذلك تأتي تركيبة الفراغ في أعمال بهرام بتراكم عفوي لعدة طبقات لونية حركية التنفيذ، ولسطوح لونية متباينة بخط اتجاهها، فتتقاطع مسارات السطوح اللونية بطبقاتها المتراكمة بكثافة وبحركية تنفيذها، لتتلاقى عشوائيا في نقاط لامكانية ولازمانية، تجعل من المستوى النفسي والمادي في اللوحة متراكبين في صيغة الجسد الكلي، المتمثل ههنا بجسم الذكر والأنثى والفراغ الذي يحايثهما ويليهما في آن، وطبعا يحايثهما لا هندسيا، بل وإنما عضويا. فالفراغ في لوحاته ليس سوى امتدادا لجسد الكائنين الطبيعي، إنه مجال انكشاف الكمون النفسي برغباته وذكرياته وتدرج مستوى الذكرى، وتحولاتها، وصورها على الجسد الظاهر، الذي يجعله بهرام ظاهرا في كليته، لكن في الوقت ذاته، دون تحديده في ثبوت يقني لهويته. فأشكاله لا تطمئن لما هي عليه، لذلك تنكشف من الداخل بأعماقها التي تظهر الجسد الكلي متدرجا بأطوار ظهوره الحيوانية واللإنسانية في الشكل البشري.يضع بهرام طبقة لونية باستخدامه لقماشة عادية ملفوفة ذات سطح واسع. يضع فوقها سطح لوني آخر عريض يعكس حركية جسده المتدفقة داخل اللوحة، فتظهر آثر قدميه على اللوحة، ثم يعالجها لتصيح جزءا من موضوع العمل ذاته. بعدها يرسم أشكالا صريحة، أو أشكالا مموهة القسمات، ثم يضع سطح أبيض حركي آخر على الشكل والطبقات اللونية الأخرى، تاركا اللون البني الفاتح لقماش اللوحة ظاهرا وجليا في الحواف أو في نقاط مبثوثة ولا محورية وسط العمل لكن عليها مسحات بيضاء تقهقرها للخلف قليلا. هكذا يتشكل التلاقي والتباعد بين حركة الطبقات التي تنتج أشكالا وتعينات لا إنسانية للفراغ العضوي ـ الجسد اللامادي بأدراجه المرئية واللامرئية المتباينة الظهور، معمقا مستوى التجسيم للجسد/ الشكل في أعمال بهرام التي تكشف عن عمق غير قابل للتعين،و بالتالي عن وجود متدرج لللامرئي.
في اللوحة حرف (A) وفقا لترتبها المعتمد في هذه الدراسة، نجد بأن الوضعية الجسدية بين ثنوية ذكر/ أنثى، هي وضعية تصالبية، غير أنه تصالب بنحاز بدلالته عن متخيلنا الجذري المتمثل في الرسم البياني لعامدية الذي وأفقية المرأة؛ إذ تظهر المرأة شاقولية هائلة في مقابل الرجل الممتد أفقيا، أو بالعكس، وهذا الإستبدال لموقعيهما في تقاطعية الصليب، لا يترك من الصليب سوى واقعة وجود متقاطع. لذلك لا نقيس خط جسديهما على حالة الصليب وفقا لتحليه المقترح لدى quot; شون ميكر quot; حول تقاطع الشعاع وخط مسار الأرض. إذ أن التصالب هنا يعدل من واقعة الجسم ويعدد مستوياته، وهذا التعديل يتناول أول ما يتناوله، العري. عري الأجساد في هذه اللوحات لا يشكل انفتاحا فيما بينها، بل وإنما هو تثبيت لانطواء المتعريين، لتقاطع مثني بفجوة هائلة لا يردمها الوجود معا متعريين. كيف ذلك..؟. رسم بهرام المرأة هنا بوضعيةشاقولية ضخمة متجاوزة لمساحة اللوحة، لكنه عدّل هذه الضخامة بتحويره للعلاقة بين لون الجسد واللون الذي لوَّن به بهرام الجسد وفتح فيه عمقا شاقوليا بخط أسود عريض، وكذلك بتحوير علاقة الحجم وخط الجسد، فالخط غير موجود إلا وفقا لزاوية النظر، والزاوية التي يظهر خط الجسد منها، زاوية هشة ومتعرجة جدا، ووضع خط أسود عريض في وسط الجسد وعلى امتداده، يغير من هذه الإمتدادية الضخمة، ويحصر الشكل في خط إنكساره الأسود، الذي يتباين مع خلفيته البيضاء، ليزداد بروزا نحو الأمام، فاتحا بذلك فراغا خارج اللوحة من داخلها، وهو مستقل بوضعه عن الفراغ العضوي للوحة. لذلك يشكل جسد المرأة هنا مدخلا فضائيا. نحن إذن أما نوعين مختلفين من الفراغ، بتضافرهما تتمكن الرؤية من لحم المرئي باللامرئي، من أن تغدو حقلا للرؤية. ومن جهة أخرى يوجد على ذراع المرأة من الأعلى خط أفقي ذهبي اللون، يقطع الحركة العامودية لوضعيتها الجسدية، ويبرز بدرجة إشراقه للأمام كختم للتابو الذي مُهِرَ به جسدها، مناقضا بذلك رمزية الصليب المرسوم في أسفل يمين اللوحة والذي أخمدت طاقته بمسحات بيضاء. إذن جسد المرأة ذو ثلاث مستويات: مستوى خارجي شاقولي، وآخر داخلي بارز بعمقه الفضائي للأمام ومنفتح على خارج اللوحة، والمستوى الثالث هو وضعية الجسد التي تضاعف قيمة اللون البصرية، فالوضعية تظهر كتلة الجسد الكبيرة في انسجام تام مع ألوانها التي تكسرها نحو الداخل وتبهتها نحو الخارج، فتظهر رغم الضخامة، كنواة لانهيارها في الخطوط المنحنية بتعرجات خفيفة للوجه المائل كليا حتى في نظرته الموجهة بكل ثقلها نحو المتلقي خارج اللوحة، وعندما تلتقي نظرتنا بنظرتها في ذلك الفراغ الجوهري ونرى نحن ظهر الرجل الذي ينظر مثلنا في عمق اللوحة، نغدو مرئيين من قبل اللوحة، ونتلمس أنفسنا في نظرتها التي تلمسنا، فيتضاعف حضورنا بداخلها كعنصر طبيعي من تركيبها، ونزداد التصاقا بالكمون النفسي لهذه الشخصية التي تلمسنا بنظرتها، فتتحرك عيوننا في الفراغ العضوي كأنه يظهرلنا من العمق اللامتعين للوحة ولأعماقنا المتحررة ـ عبر الرؤية، تماثل الهيئات اللإنسانية لجسدينا اللاماديين، هناك في الطبقات المتراكبة والمتراكمة والمتقاطعة كتعينات وحشية وحيوانية ونزقة لرغباتنا ولكموننا النفسي. آنئذ، ينقلب ظهر الرجل في اللوحة لظهر المتلقي ويتأرجح الرائي في المجال الرؤيوي. الأمر ذاته ينسحب على اللوحة حرف (B)، حيث تعكس وضعية جسد المرأة قيما بصرية ضخمة وامتدادية وفيها سطوة إعتلاء دموي مرعبة، لكنها مع ذلك وضعية هشة بتعرجات وانحناءات خط الجسم العام، وباللونين الأسود والأحمر الداكنين، اللذين يجران هيئة الجسد نحو نقيضها. فالتباينات بين لون الجسد الباهت ودكنة الألوان التي تخترقه، وبين حجم الجسد وخط زاويته المتعرج، تفسح لتقاطع خارج اللوحة بادخلها، أن يحمل رؤيتنا للوحة بما يكسوها من الداخل، مكسوة بما وراء الرؤية في علاقة الخط واللون والشكل. غير أن بهرام لا يكتفي بذلك، فاللامرئي كما أسلفنا ذو أدراج، واللاوعي ذو أدراج، والواقع محتبس على حواسنا، لذلك هناك تدرج في ظهور الصورة التامة للواقعة النفسية/ الجسدية الإنسانية، التي يقوم بهرام بتركيبها من عدة طبقات تصويرية، لذلك تجد المتلقي لأعماله يؤشر باستمرار إلى جزء من اللوحة على أنه لوحة كاملة، لكن ذلك ليس صحيحا إلا على نحو ٍ جزئي؛ إذ لا يتشكلن الشكل إلا بناءا على ترابطاته التي تمده بالقوة الدلالية المضاعفة، وتبدأ هذه الترابطات ـ الإمدادات البصرية في الفراغ العضوي اللامكاني الذي يرفد الجسد بطبقات ـ سطوح متشاكلة عشوائيا، لتجعل من الرغبات والمكبوتات والعوالم المضمرة أو المقموعة للشخصية الإنسانية، ملموسة على مستوى البصر بهيئاتها اللاإنسانية. وباستخداد بهرام للمسحات البيضاء التلطيفية وللون الأبيض في تركيب السطوح، وباستخدامه لتقنية تلوين مناطق محددة من الجسد بأغوار لونية داكنة، يسوغ بصريا عملية الإنفتاح بين المنطوي الظاهر، وإنقلاب المرئي رائيا أو بالعكس. ففي هذه اللوحة نجد ظهورا باهتا لبورتريه ابيض في أسفل يسار اللوحة. الوجه هنا لا يعكس أية نظرة، لذلك فهو ليس استنساخا لذات الوجه، بل هو رسم لإحدى ممكناته التي كانها أو التي قد يكونها، إنها صورة تعويضة لردم فجوة الشكل المحسوس.
الموت والأيروس
إن المضي عاطفيا أو أدبيا في القول بأن أعمال بهرام متمحورة حول الوحدة، هو ضرب من العجلة أو من الإكتفاء ببساطة إسقاط الأحكام عبر نظام من الجمل الأسمية العامة. غير أن هذا الأمر ليس دقيقا. كيف ذلك..؟. الملاحظ في جميع لوحاته، هو ان حركة اتجاه الأيدي متعاكسة تماما، أي لا يوجد خط التقاء فضائي لتقاطع مسار الأيدي، والإنفصال المفترض عبر هذا التعارض، معوض بخط الجذب الكتفوي داخل فضاء التعرية. كما هو واضح في اللوحات / A- E -F B- /. إذن تعارض حركة اليدي يعدله نظام الجذب المائل للجسد، مما يعني وجود ميل للإنفتاح بين جسديهما، إلا أنه جذب ٌ بدون طاقة، ودائم التباعد، لذلك لا يمكنهما أن يكونا في وضعية أيروسية منفتحة؛ إذ أن من طبيعة الأيروس تحطيم البنية المنغلقة للكائن، بانفتاحه عبر جسد الآخر على ذاته وعلى الكون في آن معا. أما في هذه اللوحات، فالعجز عن التواجد في وضعية أيروسية هو الذي يتم تعزيزه، إنهما قائمان تحت وطأة إنطوائهما، موجودان معا بدون انفتاح جسدي، لذلك لا يكون هذا الـ quot; وجود معا quot; اشتراكا في الوجود، بل وإنما هو اشتراك في التعرية خارج كل أيروس، إنهما بذلك عاريين وليسا متعريين، عاريان من ورقة التين الرمزية، ومنكشفان على ضعفهما وعجزهما الذي يمتص لامرئيا طاقتهما على الانفتاح. هكذا تتأسس علاتهما الجسدية مع الموت بالمعنى الأنتولوجي. فالمساحات البيضاء الكبيرة التي تحجِّم كتلتهما وتخمد طاقة فراغهما العضوي، بكونه أبيضا ميتا ومميتا في آن، حيث تأتي اجرائية التلطيف اللوني بالمسحات البيضاء لتمتص طاقة الألوان الأخرى التي وضعت على سطحها، ليكون الفراغ العضوي من حيث قيمته الضوئية، لجاما لمفعول العري في اللوحة، لذلك يفقد العري جنسانيته المفترضة، وينفتح على الموت ـ العجز الجسدي على الإتصال أو على الإنفصال. نجد في اللوحة (E) شخصين / ذكر وأنثى / أحنيا برأسيهما نحو داخل اللوحة. يظهر فوق رأسيهما مربعا لذاكرتهما، يتذكر الرجل صورة امرأته داخل نافذته التي يطل فيها على واقعه الداخلي المتمثل في صورة أنثوية مرسومة بخطوط سوداء داكنة وعليها شبكة خطية أخرى حمراء متقاطعة في زواية حادة دامية، ومن خلال هيئة الصورة وملمسها وألوانها، نستخلص حضورها وزمنها والوضع الراهن لداخل الشخصية. أما فوق رأس الأنثى، فتظهر نافذة الذكرى في صورة مربع على أرضية قماش اللوحة، وبالتالي تزداد غورا بزمنها داخل كمون الشخصية النفسي، لذلك تظهر باهتة بخطوط بيضاء خفيفة. إذن. ما هو حصيلة جداء هذه اللوحة غير العجز على أن يكون أحدهما وحيدا ومنفصلا عن الآخر..؟ وهذا العجز الانفتاح يضع الأيروس في لوحات بهرام، خارج وضعية العري. تتجلى هذه الحالة بوضوح في بورتريهات بهرام كبيرة الحجم، حيث يظهر تخطيط وجه المرأة داخل وجه الرجل في اللوحة (D) ويتطابق عيناهما في ذات النقطة، لتكون نظرة الرجل الموجة إلينا هي ذاتها نظرة المرأة التي تحدقنا من داخل وجه الرجل. يجعل تطابق العينين والنظرة الموجهة نحونا، وجود المتلقي حائرا أما التباس الصورة التي تحدقه بنظرتها المربكة، فالبورتريه يجسد مبدأ الهوية وفقا للمنطق الأرسطي، وبالتالي لا يمكن للبورتريه أن يعكس إلا صورة شخص ٍ محدد، وهو أمر تجاوزه بهرام بتهديم واحدية الصورة، بتلوينه حنك الصورة باللون الأسود الذي يمتتد جليا للأعلى، منتهيا بلون ٍ أحمر داكن عند أسفل الصدغ، معمقا بذلك سطح الوجه باتجاه الداخل الذي يرشدنا لصورة الأنثى في الداخل. فيتحرك عين المتلقي من الأمام إلى عمق الوجه حيث يقيم وجه آخر بقوامه المستقل والمتطابق في نقطة العين ـ النظرة الموجهة نحو الخارج. فهل يعكس وجه هذا البورتريه وجهه..؟. إنه وحيد وبداخله شخص آخر، بوجوده ـ أي هذا الآخر ـ لا تكتمل وحدته ولا تنعدم. مرآته تعكس تناذره. والبورتريه لا يكون صورة شخصية إذا ما كان محمولا يتعددية ما، لذلك، فإنه حتى في لوحات البورتريه، تخفق الوحدة من أن تكون وحدة. وتلتبس صورة الجسم في النظرة التي تربك موقعنا داخل مجال الرؤية. من هنا فإن الحديث عن الجنس في أعمال بهرام ضرب من العبث. فالممارسة الجنسية التي تظهر في قلة قليلة من لوحاته، تناقض الجنس حتى في مستوياته الإباحية، إذا يبقى الجسد في وضعيات الإباحة مستقرا في حيوانيته، وبالتالي يكون لديه هيئة. أما في لوحات بهرام،فالوضعية القائمة إنما هي وضعية افتراسية سوداوية، لذلك لا يظهر الجسد في نقطة التصاقه بجسد آخر في اللوحة (C)، حيث يكون قد تلاشى في كتلة سوداء ضبابية يضيع فيها الجسد كواقعة ويتمثل كحالة، فلا غمعكاس لأية ملامح أو ترميز لجنس المفترس أو لموقع الضحية ؛ إذ من المستحيل الجزم بهيئة أحدهما أو بموقعهما. الهيئة الوحيدة التي تظهرها الكتلة السوداء التي تتطاير الأطراف حولها، هي هيئة الإفتراس ذاته. الجنس كمفترس والضحية كلاهما.
النازع الشرجي
إن الخروج الكلي على الوضعية الحيوانية، أمر غير ممكن مع الإرث والأثر الجسديين. فالجسد نقطة لتناسج عدة سيرورات لا مرئية. لذلك حدد quot; دولوز quot; وظيفة التشكيل برسمه للقوى اللاإنسانية في الإنسان، ويتلقى هذا المفهوم معادله البصري في كامل تجربة بهرام الفنية، وعلى نحو خاص في متتالية لوحات القرفساء (G- H- I- J) التي يجدد تفاصيلها إجرائياتها التكوينية، لتتساتل في سياقها البصري الخاص بها. يضع بهرام سطح ابيض على السطح البني، لكنه هنا أبيض آخر، مشبع ولا يعكس أي طبقة لونية أخرى تحته، وبالتالي لا يكون الأبيض هنا وسيطا ظليا كما هو الحال في لوحاته الأخرى التي يكون الفارغ فيها عضويا ـ جسديا. يتباين هذا الأبيض الجلي فراغيا مع السطح البني ليزداد العمق الفضائي للشكل الذي يتضاءل ويزداد انكماشا أمام شساعة الفراغ. إذن الفراغ في هذه اللوحات حيزي، واللون الأبيض الجلي لا يخفي تقاطعات وحركات وهيئات أخرى تراكمية، وبالتالي لا يخمد هذه القوى، بل وإنما يعكس مرآتيا وجود الكائن المقرفس، الذي يظهر متألما بوجهه وجذعه المموهين بلون ٍ أسود داكن. في وضعية القرفساء هذه، لا يطرح الكائن غائطا، وبالتالي يكون موضوع النازع الشرجي غائبا. ومحاولة إسقاط الجنسية الشرجية على وضعية القرفساء ستكون اختزالا للواقعة الجسدية التي تبدأ في لوحة وتستمر زمنيا إلى لوحة أخرى، وعدم ظهور أي غائط في مشهدية اللوحات، لا يعني أنه إمساك مازوخي للبراز، كإوالية نكوصية طفولية، أو قبل تناسلية للذة الشرجية وفقا لما حلله quot; فرويد quot; في إدراك القضيب: quot; بوصفه شيئا يمكن فصله عن الجسم، وتُعقل هويته بوصفه نظيرا للبراز الذي كان أول قطعة من مادة الجسم تعيَّن على الطفل أن يتنازل عنها.quot; (6). وبالتالي المضي طويلا في ترتيب الصورة على أساس من انزياح للرغبة الجنسية، كتعويض لنقص الممارسة مع الآخر المختلف جنسيا؛ إذ حتى يكون هناك نازع شرجي، لا بدّ أن يكون هناك متخيل اجتماعي يحول الغائط إلى موضوع، ويضفي على الشرج نوازعه المتخيلة، فالبراز وفقا لـ quot; كاستورياديس quot; هو كموضوع غير موجود إلا بناءا على ابتداعه الاجتماعي التاريخي و: quot; الحساسية الجنسية للمنطقة الشرجية غير مفهومة خارج كيمياء التخيل النفسيquot; (7)، لذلك لم يترك بهرام في هذه اللوحات أي مؤشر تخيلي ـ اجتماعي يصعد بالقرفساء إلى وضعية متحللة دلاليا في الفلترات الاجتماعية، ولم يضع أي منبها بصريا لترميز النازع الشرجي. فاليد التي نجدها ممدودة للأمام، الظل المنعكس هلاميا بلا أيحاء جنسي ـ إنساني أو حيواني ـ فقط هيئة ظلية هرمسية مرسومة بدكنة على فراغ أبيض جلي يعكس لامرئي الشكل في ظله الهلامي وفي وضعيته الجسدية التي تتحول في لوحة أخرى إلى حيوان مفترس متاهب بقوائمه الأمامية للإنقضاض. يشكل كل ما تقدم تقنيات بصرية تكونية خاصة بتجربة بهرام، تجعل الصورة متجاوزة لما هي عليه، بما هي عليه. بهرام بذلك يواجه الإنسان بممكناته التي يحجبها عن نفسه، يهتك هذه الممكنات في الجسد الكلي. وهي مواجهة شفافة ومعزولة عن صور التصعيد الاجتماعي لوقع النزوات، لذلك يترامى الفراغ في هذه اللوحات شاسعا حول الشكل المتضائل الأعزل تحت ضربات الفارغ، حتى ان إحدى اللوحات تظهر صورة قدم إنسان مرفوعة الكاحل في هيئة حركة خروج من اللوحة، تاركة الشكل أعزلا في مواجهته للفراغ. بهذه الإجرائية التكوينية للون وللشكل وللفراغ في لوحات القرفساء، جرَّد بهرام هذه الوضعية من الإسقاطات الإختزالية للنوازع الجنسية الشرجية، بتنويعه الهائل للقيم الفراغية وللسبب الربط داخل تجربته التشكيلية الفريدة، مظهرا قدرة الشكل على التجدد المستمر عبر تحوير العلاقة البصرية بين خصائصه التكوينية.
هوامش:
1- توماس.ج.جرمين. الميتافيزياء الكوانتية لديفيد بوهم. موقع معابر. على الرابط التالي:
http://www.maaber.org/issue_january04/epistemology_1a.htm
2- ديكارت. العالم أو كتاب النور. ترجمة: أميل خوري. دار المنتخب العربي. بيروت 1999. ص 51.
3- إدموند هوسرل ـ الفينومينولوجيا الترنسندنتالية: البداهة والمسؤوليةـ بقلم كلاوس هيلد. ترجمة: د. اسماعيل المصدق. مجلة مدارات. العدد 4. على الرابط التالي:
http://philosophiemaroc.org/madarat_04/madarat04_01.htm
4- موريس مورليبونتي ـ المرئي واللامرئي. ترجمة: سعاد محمد خضر. وزارة الثقافة والإعلام. بغداد. 1987. ص 134
5- ميشيل فوكو. الكلمات والأشياء. فريق الترجمة: مطاع الصفدي. سالم يفوت. بدرالدين عرودكي. جورج أبي صالح. كمال اسطفان- مركز الإنماء القوميز بيروت. 1990. ص 38.
6- فرويد. الحياة الجنسية. ترجمة: جورج طرابيشي. دار الطليعة. بيروت. الطبعة الثالثة 1999. ص 157.
7- كورنيليوس كاستورياديس. تأسيس المجتمع تخيليا. ترجمة: ماهر الشريف. دار المدى. دمشق. 2003. ص. 442.
* وجد ديكارت في حاسة اللمس الأكثر يقينية مرتعا لضلال إدراك الواقع، وعلل بها خطأ إدراك المحارب لجرح ٍ تحت حزامه. غير إن ذلك ليس سوى خلل سايكولوجي في جعل حواس المحارب محملة بما يتجاوزها، بالمتخيل الحربي الذي يجعل من صورة الجرح مصدرا لكل ألم، حتى لو كان زردة تحت الحزام. وهذا الأمر يدركه خبراء التعذيب في السجون بشكل عملي جدا، فقد كان العمل على خيال السجناء المجال الأكثر تدميرا في الحقل التعذيبي، إذ أنهم كانو يضعون قضيبا حديديا على النار أمام السجين العاري ومن ثم كانوا يحملون القضيب الحامي بحركة دراماتيكية من أمام عينيه، وبعدها كانوا يضعون قالبا ثلجيا على مؤخرته التي لم تكون تدرك أنها لا تكتوى سوى بالثلج. لذا لا يمكن اتخاذ هذه العوامل الظرفية شروطا ترسندالية لاختبار حاسة اللمس.
**: يختلف الفراغ العضوي عن الفراغ الهندسي بكونه لا يوزع الشكل على خطوط الطاقة، بل هو يظهر العمق الداخلي للشكل في اللامكان وفي اللازمان. لذلك يأخذ الفراغ قيمته الضوئية ـ الطاقية من الشكل وليس العكس. وهو يفتح العمل على خارجه بطريقة مختلفة من الفراغ الهندسي الذي يعتمد استراتيجية تخفيف اللون ـ الطاقة في حواف اللوحة لتنفتح على مكان العرض وبالتالي على المتلقي في وحدة عضوية خارج وحدة اللوحة المعمارية. بناءا عليه، أعتقد بأنه من الضروري بمكان أن ندخل مفهوم الفراغ العضوي في قاموس النظرية الفنية، لكي نتمكن من دراسة بعض الأعمال صعبة المراس، التي تكون مقدماتها البصرية قليلة ودقيقة جدا ومن غير الممكن اختزالها، كأعمال الفنان وليد سيتي وكذلك أعمال المونوكروم ـ مدحت كاكئي مثلا ـ حيث يكون الجسد فيها فراغا سميكا.
التعليقات