مع حلول أيام القيلولة بدأت النشاطات الفنية والثقافية تطرق أبوابنا وتستفزنا بإعلانات لا حصر لها. في كل مرة إغراء جديد للخروج في الهواء الطلق والتمتع ببرنامج ترفيهي ينسينا الأحداث المزعجة ويبعدنا ولو لبضع ساعات عن أخبار الساعة التي لا تعرف الكلل أو الملل، سيما أحداث الأسطول البحري المؤسفة لفك الحصار عن غزة. اغتنمت الفرصة للتوجه إلى مهرجان النور في القدس الذي شارك في إعداده وتصميمه 70 فنانا واستقطب على مدى أسبوع حوالي ربع مليون زائر. هذه هي السنة الثانية التي ينطلق فيها هذا المهرجان، بعد النجاح المنقطع النظير الذي حققه في السنة الماضية. وما إن اقتربت من باب الخليل التاريخي، من العصر العثماني، حتى وقعت عيني على حزم من الأنوار الملونة امتدت عاليا نحو السماء في مناجاة مرهفة. ووفقا لتعريف القائمين على المهرجان :quot; فأن الأنوار اعادت تعريف البنايات القديمة في القدس العتيقة بأبراجها الشامخة وكنائسها العريقةquot;. لقد انتابني شوق عارم إلى التهام المزيد من الصور الخلابة، فرحت أطوف الأزقة بتعطش بالغ، وسط قوافل الزوار من كل طرف وصوب. أكثر ما مسني إن البلدة القديمة ارتدت حلة أصيلة من السكون والتسامح، وسط مزيج من اللغات التي تبعثرت هنا وهناك كأنها لوحة شعرية متجانسة. بدت علامات الرضا على وجوه التجار الفلسطينيين، الذين سوقوا بضائعهم بلهفة بالغة وحنكة. عدد من المقاهي فتحت أبوابها لمواكبة الصرعة الرياضية الجديدة في المونديال أمام المتفرجين من كل بقاع العالم. فيما انتشرت هنا وهناك عربات البائعين على قارعة الطريق، يعرضون ما تيسر من الأكل الخفيف مثل الذرة المسلوقة والكعك المشبع بالسمسم مع حبات الفلافل الشهية!
هذه الليلة تذكرت ليالي بغداد على الكورنيش عندما كنا نقضي أيام الصيف الحارة في المقاهي المنتشرة على امتداد دجلة نأكل سمك المسكوف ونحمده على نعمته. فجأة يقرصني الم الفراق، يليه شعور بالحسرة على كل ما يدور اليوم في العراق دون أن تنتفض شعوب العالم ضد إراقة الدماء. غير أن التفاؤل المزمن الذي أعاني منه، لفت نظري إلى الأمور الايجابية التي تدور حولي.
هذا الأسبوع رأيت لأول مرة الصحفي والكاتب العربي الإسرائيلي سيد قشوع الذي لمع نجمه في الصحافة والتلفزيون العبري، نظرا لأسلوبه الهزلي المتميز، الذي استحوذ على قلوب الجميع، يهودا وعربا،لاسيما ألمسلسل التلفزيوني الساخر quot;شُغل عربquot;. فاز قشوع بـجائزة رئيس الحكومة الإسرائيلية للكتّاب الشباب العبريين بعد صدور كتابين له بالعبرية احدهما رواية quot;العرب الراقصون quot; التي أثارت اهتمام الفنان العالمي عمر الشريف وأعرب عن رغبته بالمشاركة في بطولة فيلم روائي طويل. كان ذلك في مقابلة تلفزيونية بمناسبة صدور كتابه الجديد باللغة العبرية بعد نجاح الكتابين الأولين نجاحا منقطع النظير. أسلوبه الهزلي الساخر يسهل على القارئ تقبل النقد، سواء كان موجها للعرب أو اليهود. هذا الأسلوب هو الأكثر شيوعا في الدول العربية عموما. والمثير للإعجاب أن سيد قشوع متمكن جدا من اللغة العبرية، الأمر الذي يمكنه من الكتابة بالعبرية في إنتاجه الصحفي والفني.
إن تعامل عرب إسرائيل باللغة العبرية في الحقل الفني والصحفي، أصبح ظاهرة أكثر انتشارا، مع دخول جيل جديد من الشبيبة إلى معترك الحياة الحقيقية. ذلك ينعكس في أسبوع الكتاب العبري في البلاد، وهو عرس ثقافي يتم إحياؤه كل عام. الإنتاج الفكري في إسرائيل يضاهي الإنتاج الفكري في فرنسا التي يبلغ تعدادها السكاني 60 مليون. وتشير الإحصاءات ان في عام 2009 تم إصدار 5000-6000 كتاب جديد وان معدل الكتب التي يقرأها الفرد سنويا تبلغ 5 كتب. فرحت جدا لملاحظة كاتب عربي جديد عودة بشارات من يافا الناصرة يصدر أول باكورة له quot;ساحات زتونياquot; باللغة العبرية بعد أن كان قد أصدر الرواية باللغة العربية. لقيت الرواية ترحابا في أوساط النقد وتم إدراجها في قائمة الكتب التي تصلح لأفلام سينمائية. النتاج الأدبي يلقى تشجيعا خاصا من قبل صناديق دعم الإنتاج السينمائي المعنية برفع نسبة الأفلام المستقاة من الأدب التي تشكل 10% فقط من مجموع الأفلام المنتجة سنويا.
وذكرت دارا لنشر لدى تقديمها للكتاب: quot;ساحات زتونيا، هي رواية مشوقة، بأسلوب ساخر، ولكن بمشاعر من التعاطف الحميمة، يتمكن القارئ العبري من إلقاء نظرة نادرة على حياة عربية في البلادquot;.
كما لفتت نظري مجموعة شعرية سياسية صدرت لسما شقرا ومحمد اغواني من شباب يافا. لغتهما العبرية تفوق قدراتهما في العربية. بوادر دخول الشاب العربي الى الquot;مين ستريم quot; الإسرائيلي هي مدعاة للتفاؤل وهذه الظاهرة تعكس تحولا في العقلية يترك أثره على الشكل والمضمون. ولاشك أن هذا التوجه يساعد في بناء جسور ثقافية جديدة تشجع على تعميق التفاهم بين العرب واليهود بسبب المضامين الجديدة التي يتطرق إليها. صحيح أن إسرائيل وقعت في أخطاء كثيرة لدى تعاملها مع العرب لكن هذه الأخطاء تختزل من مجموع الإمكانات للخطأ. ولا بد من التذكير هنا بروح النص مما قاله واطسون لاستاذه أيدلسون مكتشف الكهرباء: quot;إنني استغرب كيف انك على استعداد لتحديد موعد للانتهاء من مهمة توفير الكهرباء بعد الأخطاء العديدة التي وقعت فيها. أليست هذه مجازفة؟ فما كان من واطسون إلا القول : صحيح إننا أخطأنا 250 مرة لكن هذا يعني أننا ادخرنا 250 غلطة إضافية على الطريق، والسلام عليكم.
ليندا منوحين عبد العزيز كاتبة وناشطة في المجتمع المدني الاسرائيلي، من اصل عراقي، عضو مجلس ادارة شرق اوسط حكيم وجمعية السلام بين اسرائيل وسوريا
التعليقات