بئر الصيّاح
رؤية الرعيان في الصباح وهم يسوقون قطعانهم الى المراعي يثير فيها الفضول، تقف الى جانب الطريق حين مرورهم و هم حاملين الزاد و عصي يلوحون بها فينتظم القطيع.
انتقت زهية الراعية الصغيرة من بين الرعيان، لحقتها و سألتها الى اين تذهبون بالقطيع؟
الى بئر الصيّاح، اجابتها. أتريدين الذهاب معنا؟ سكتت فاهلها لن يسمحوا لها بالذهاب معهم. ستجدين هناك ورودا و رياحين من كل لون، و ينبوع ماء عذب نشرب منه و نسبح فيه و نسقي منه القطيع. بالتأكيد لن يسمح لها اهلها بالذهاب.
رجعت الى البيت و هي تتخيل منظر الورود و الزهور و الينبوع و المرج الاخضر في بئر الصيّاح. نامت و هي تحلم بكل ذلك. ماذا لو ذهبت بدون معرفة اهلها فهي لن تغيب كثيرا.
على مفرق بيتها وقفت تنتظر مرور الرعيان، سأذهب معكم.
أبهجها رؤية القطعان في المراعي و مزاح الرعيان مع بعضهم البعض، و كذلك مشاركتها الزاد و هرجهم و مرجهم. طال بهم الوصول الى بئر الصيّاح و طوال الطريق كانت زهية تحدثها عن الورود و الزهور و الخضرة و الينبوع.
أين الورود و الرياحين و الخضرة و الينبوع؟ و بئر الصيّاح ليس سوى أرض سليخ مليئ بالأشواك و الحصى! ارض جرداء ترعى فيه القطعان عروق البلان و الاشواك و بعض الحشيش .
شعرت بضيق و بأن زهية سخرت منها. لكنها لا تحسن الرجوع الى البيت اذ كان عليها انتظار عودة الرعيان في المساء و مازال المساء بعيد. جلست على حجر ترقب القطعان و الرعيان تحت السماء اللاهبة عطشى و قطعة الخبز الصغيرة التي اعطاها اياها احد الرعيان لم تسد جوعها. كيف ستقضي الوقت . ان هي بقيت بعيدة يمر الوقت بطيئا موجعا.
كان لا بد من الانخراط في لعب الرعيان ومشاركتهم الغناء حينا ومزاحهم حينا أخر. تعلمت منهم البحث عن نبات يؤكل و هو عبارة عن قرون صغيرة لذيذة تدعى quot;القرقرينةquot;، وما تبقى منها بعد الاكل، لعب به الرعيان اذ تجمعوا وشكوا ابرة كبيرة و بدأوا يرمون قرون quot;القرقرينةrdquo; عليها ومن يعلق قرنه في الابرة يجمع كل القرون التي على الارض و تكون من نصيبه يأكلها و يحتفظ ببعضها لاخوته الصغار في البيت.
اندمجت، و كانت سعيدة الى درجة انها لم تهكل هم فيما ستقوله لاهلها عندما تعود.
يمشي القطيع بتثاقل و ترى من بعيد جمع حول بيتها حيث وجدت اهلها مشغول بالهم عليها و يفتشون عن ابنتهم الصغيرة الرعناء. و كان قد اذاع المؤذن خبر اختفائها، و قطع شيخ القرية لسان الوحش عنها كي تعود سالمة الى البيت و لا يتعرض لها حيوان مفترس. في اليوم التالي عاتبها والدها على غيابها برفق.
كبرت و حيثما استطاعت كانت تزرع الورود و عند موسم الفلاحة كان والدها يحرّض الفلاح على تلف زرعها ليس كرها بها، اذ كان يريد ان يزرع التبغ مكانها و لا ماء في القرية كاف كي يزرع الناس الورود.
في حديقة بيتها تزرع الورود و الزهور و الياسمين على انواعها، تنكش و تزرع و تستمتع برؤية حديقتها الجميلة، و الصورة التي رسمتها الراعية زهية لبئر الصيّاح لا تفارق مخيلتها
صديقتان
صورة في البوم العائلة، امرأة حامل في شهرها التاسع تنظر الى البحر بترقب و صديقة التقت بها عندما انتقلت من القرية الى بيروت مع زوجها و قد جاءت من بغداد ترافق زوجها الشاعر و الصحافي الذي كان يعمل في جريدة فلسطين الثورة تقف بكبرياء و اعتزاز.
بيروت- طريق الجديدة،-الفاكهاني الطابق الرابع و لاحقا بناية القصر ndash; منطقة ابو شاكر.لا هي ولا صديقتها ادركتا كيف في لقاء واحد حصل انسجام و تفاهم بينهما فهما متشابهتان في ترتيب فوضى المنزل و اشتهاء تشريب البامية و سماع الاغاني الحزينة.
هي تركت اهلها و اصدقاءها ووضعت انشطتها الاجتماعية خلف ضهرها و اقتحمت عالما لا يشبهها تجلس في البيت تنتظر عودة زوجها من العمل ليذهب الى عمل اخر او الى الجامعة لينهى دراسته التي قطعت بسبب الحرب الاهلية . الباب مغلق و هي التي لم ترى باب بيت اهلها مغلق سوى في الشتاء و عند النوم تتنقل من غرفة الجلوس الى المطبخ، الى غرفة النوم بتكاسل فهي لا تعمل شيء، لا احد تخرج اليه ولا أحد يزورها و ان خرجت لا تحسن الرجوع الى البيت. و صديقتها وضعها مشابه الى حد ما الا انها ليست وحيدة عند غياب زوجها فلديها ابنة صغيرة تلك التي تظهر في الصورة.
تجلسان بالساعات تتحدثان بالسياسة و بأخبار الابوات، ابو عمار، ابو مازن، ابو جهاد الخ....صديقتها دائمة السباب الانتقاد و الشتائم للسياسي الفلاني او الابو العلاني .
quot;اواه يا ريحة هليquot; .قالت لها : ما هذه الاغنية الحزينة التي اسمعتني اياها، بكت افتقدت قريتها و اهلها في الجنوب و كذلك صديقتها افتقدت بغداد و اهلها و الاحبة.
لم يمنع صديقتها من زيارتها اليومية لها بعد ان انتقلت الى محلة ابو شاكر، لقد اصبح لها سبب اخر فطفلتها اصبح لها صديق صغير.
انقطعت صديقتها عن زيارتها، فطفلتها ترقد في المستشفى، الطفلة الممتلئة حيوية و نشاط و صحة انطفأت شمعتها و احتضنتها ارض بيروت.
الحزن يخيم، كم كان يعذب صديقتها و يعزيها رؤية صديق ابنتها الصغير. كم كان يعذبها رؤية اطفال الشوارع حفاة شبه عراة يرفلون بالصحة و طفلتها ليست كذلك.
لماذا ابنتي؟ لماذا ياربي لماذا انا؟ سيطر الخوف، ماذا لو حصل لطفلها كالذي حصل لطفلة صديقتها، الخوف. لكن الحياة تستمر بعفوية و ترزق صديقتها طفلة اخرى حملت ذات الاسم و الملامح.
كم وقفت صديقتها مع الطفلة تحت بلكون بناية القصر تنادي صديق ابنتهاكي ينزل اذ كان الصعود الى الطابق الخامس صعب عليها. كم جلستا على درجات البناية و صديقتها تحدثها عن الخوف الواقع عليها و على زوجها في بيروت، فالعراقيون يقتلون بمسدسات كاتمة للصوت في شوارع بيروت و اذا رأيت دم في الشوارع في تلك الفترة تقول انه دم عراقي.
هي الاخرى لديها خوفها من الايام القادمة، فزوجها تخرج من الجامعة و يريد ان يسافر الى امريكا، ستبقى بعض الوقت و تلتحق به، لكن صديقتها الى اين تذهب؟ الى المانيا، المانيا ! و ماذا لك هناك؟ سأعمل في اذاعة تبث اللغة العربية .
افترقتا. هي الى امريكا و صديقتها الى المانيا. و تمر السنوات. رسالة واحدة وصلتها من صديقتها، سلام و اشواق . هل ردت على رسالتها؟
لا شيئ في الغربة سوى الحنين، طاحونة دائرة لا تتوقف، اذ لا مجال لكي تشعر كم انت حزين و كم انت وحيد وسط جمع كبير. من اين تأتيك الكابة و الخوف ما ان تسمع هاتفك يرن تأتيك فكرة ان احدا من احبتك اصابه مكروه، ما ان تسمع زمور سيارة الاسعاف حتى تظن ان ولدك او زوجك هو من ينقلونه الى المستشفى و تتسارع دقات قلبك و تتعرق و تشعر بالدوار و كأنك على وشك السقوط و تتخبط تنقل رجلا من وحول الكابة لتعلق اخرى، و لا احد يمد يده لك أو يقول لك انا معك، فالاخر مشغول بعمله، بدراسته و باشياء اخرى سواك، و انت تدور حول محوره تعبا من الحنين و من الطاحونة الدائرة.
رغم ذلك في الغربة تنام بدون ان تهرع الى الملجأ احتماء من القصف المدفعي فامريكا و اسرائيل اصدقاء. و صديقتها ترتاح من كوابيس الخوف المباشر اذ لا خوف في المانيا سوى خوفها الموروث.
و تدور بها الارض و تذهب مع زوجها الى الكويت و كان قد تجمع لديها قهر متراكم، احيانا لا تستطيع الذهاب في الصيف لزيارة اهلها خوفا على اولادها من القصف الاسرائيلي،و بغداد قريبة من الكويت قرب جغرافي فقط و صديقتها ليست بموجودة فيها و لا اخبار عنها. ويجتاح الطاغية الكويت و يخسر زوجها عمله و يعود الى القرية بلا عمل و لامال و حيث تقصف القرية من الاسرائيليين بشكل يومي.
بيروت مرة اخرى، و فيها كونت صداقات جديدة متعددة و متينة، و كلما مرت بمنطقة الفاكهاني تنظر الى شقة صديقتها في الطابق الرابع حيث رمى و لدها اثناء زيارة لها كل ما لدى صديقتها من بطاطا و بصل و ثوم الى سطيحة الطابق الاول و هما في غفلة عنه، و حيث كانت صديقتها تساعدها على تجفيف شعرها و تسمعها الاغاني العراقية و حيث كان زوج صديقتها يستعد للخروج و هو يغني quot;حرامات،حرامات العمر شلون ينقضي بساعة حراماتquot;، و حيث عرفتها على والدتها و كان اول مرة ترى فيها سيدة ترتدي عباءة سوداء تغطي رأسها و كامل جسدها.
في بيروت تطوعت للعمل في مركز سرطان الاطفال في مستشفى الجامعة الامريكية. اصدقاءها و معارفها و حتى عائلتها تساءلوا ما لها و لهذا العمل المضني نفسيا. عندما ملأت بيانات التطوع و ضعت في خانة لماذا تريدين التطوع للعمل في المركز كتبت بعد تردد لانها تحب الاطفال و تحب ان تخفف عنهم، و في الحقيقة انها تريد ان تواسي و تشارك هموم امهات المرضى لانها قصرت عن مواساة و مشاركة هموم صديقتها في الوقت المناسب و تريد ان تخفف عن الاطفال المرضى لانه لم يتسنى لها ان تلاعب و ان تخفف عن ابنة صديقتها.
كيف يتراكم القهر و كيف تتخفف منه و بغداد تبتعد كل يوم اكثر و ما ذا يجري للاحبة. العائلة تكبر و تكبر المسؤولية و الغربة تجلدنا بسياطها و لا منقذ منها و لافكاك، و حيدة تجابه امواج الغربة المتلاطمة و اخبار بغداد لا تفرح و لا امل حتى في زيارة الاهل. في الغربة عائلتك الصغيرة هي وطنك، اصدقاءك وطنك، و حتى سائق الباص اذا ابتسم لك يكون جزء من وطنك. و بغداد بالحديد و النار يسوسها مستبدون و غيوم الكابة تتراكم و لا احد يهتم.
هي، أم صديقتها قالت للطبيب : اوصف لي دواء يذهب بكابتي و يزيل عن صدري الهم و الغم. اريد ان اجلس في داري مطمئنة، اريد ان انام في سريري و انا غير قلقة و لا تراودني الكوابيس، اريد ان اجلس على كرسيي أقلم اظافري و الونها و ان اتأمل وجهي في المراة و ابتسم و ارى في داخلي ضوء حتى لو كانت السماء مكفهرة . اريد ان اداعب طفلي بلا خوف من المجهول، اريد ان امازح زوجي و ان اشعر معه بالامان، اريد ان يكون لي سلام .
ايها الطبيب خذ بيدي فامي صبية كانت حين غادرتها، هي الان عجوز و اخوتي في الليل اردد اسماءهم و اسماء اولادهم كي لا انسى احد منهم، اريد ان اخذ بيد اختي الصغيرة و نتعلق بطرف عباءة امي و نذهب معها الى السوق او الى زيارة جدتي.
ايها الطبيب اريد ان امشي في الطريق بمفردي بلا خوف و ان لا تتسارع دقات قلبي، اريد ان يرن جرس الهاتف و ان اسمع زمور سيارة الاسعاف و لا اخاف من ان مكروه حدث لاحبتي، اريد ان انام و لا يراودني حلم اطفال يتعلقون باطراف ثوبي حيث اجهضت طفلي في عيادة الدكتور زاهي حوا، ايها الطبيب اريد ان اخرج من بيتي و لا يراقبني احد، اريد ان اشاهد التلفزيون و اشرب قهوتي بامان و لاأخاف ان المح ظلا لمتخف في الحديقة، اريد ان اكتب اسمي الحقيقي بالكامل بلا خوف، اريد ان اخرج مع اطفالي بفرح، اريد ان اخبرهم ان لهم وطنا و احبة في ارض اخرى و ان اقدم نفسي لمن القاه بانني فلانة الفلانية من بغداد و انني اكره الظلم و الاستبداد وانني احلم بوطن اكتب فيه اسمي على مدخل بيتي بدون ان اخاف من زوار الفجر او من العابثين و ان اسكن حيث اريد في وطني و بين اناس يعبدون الله كل على هواه.
هي مشت من كورنيش عين المريسة الى كورنيش الرملة البيضاء و هي تحضر الكلام الذي ستقوله عندما تزور الطبيب،و عند عودتها الى البيت لمحت زهور متفتحة و معرشة على شبابيك عين المريسة و رأت ابتسامة على وجه ناطور البناية،حيته، دخلت بيتها، استحمت و عملت لنفسها كوب شاي ارتشفته على انغام موسيقية .
صديقتها دخلت الى عيادة الطبيب، لم تستطع ان تتفوه بكلمة، لم ترد و لا على اي سؤال طرحه عليها، احست بضيق عظيم، تريد ان تبكي لكنها لا تحسن ذلك فهي لم تبكي قط في حياتها فحسب اعتقادها ان الضعيف هو الذي يبكي و هي لن تضعف، ما بها تريد ان تخرج و ان تتخلص من وجودها في عيادة الطبيب، الى اين تذهب، لمحت مدى اخضر واسع خلف نافذة العيادة و جدت نفسها تهرع خارجا و تركض حافية في المدى الاخضر ركضت و لم تدري بنفسها الا و هي تركع بجانب شجرة تصرخ و تقول ذاك الكلام و يتداخل الكلام و الصراخ و ربما البكاء، قد يكون هيئ لها انها تركع بجانب شجرة نخيل في دارهم في بغداد، لم تتمالك نفسها و تسيطر على انفعالاتهاالى ان طرق اذنيها و بقوة صفق يدي الطبيب ان كفى و يدين الممرضة الحنونتين تحتضنانها. ران الصمت لفترة من الزمن، لملمت شعاث شعرها رتبت ملابسها و عادت مع الطبيب و الممرضة ساكتة صامتة، قد تكون سمعت صوت تغريد عصفور يرتجف من البرد قد تكون ابتسمت، قد تكون تذكرت ان طفلتها ليست الوحيدة التي ذهبت ضحية المرض و انها ليست الام الوحيدة التي فقدت طفلتها فهناك امهات يفقدنا احيانا طفلين او ثلاثة من العائلة و بنفس المرض بكبرياء و تسليم. و تذكرت ان امها رحلت كما ترحل كل امهات العالم و اننا قد نعيش غرباء في اوطاننا و بان الظلم و الاستبداد لا يدوم
التعليقات