يستيقظ الشاب و الذي كان اسمه الحشايشي كل صباح ممتلئا بهواجس كثيرة مخيفة وكأنها مقدّرة عليه دون غيره، تحولت بمثل وحش أسطوري أبدي له قرني عذاب حادة كرمح وأنف ينفث الدخان القاتم و اللهيب المحرق. الحقيقة الحياة متكررة في يومه تحولت مع الزمن إلى شئ مألوف ومقلق أيضا يضغط على إرادته.
يستيقظ الحشايشي وقد يتناول فطوره الذي لا يقترب معناه حتى للكلمة أولا يتناوله، يجد إمتعاظا في عين والدته التي ترمقه بعينيها الحزينتين المتلألئتين كنجمتين حنانا وقلقا على مصير أطفالها. في مرات كثيرة لا يجد حليبا ولا خبزا البتة فلا يظهر ردة فعل مشينة حتى أنه لا يتفوه بأقل كلمة تزعج هؤلاء الإخوة الصغار الذين يتأهبون للذهاب إلى المدرسة وبطونهم تكاد تصرخ جوعا، لا مزيدا من الخبز إلا القطعة التي حصلوا عليها والتي قسّمت عليهم بعدل و بدقة متناهية، الشجاع فيهم من يتوسل أباه ليعطيه ثمن كراسة أو كتاب طلبه الأستاذ منهم إحضاره . المشكلة الكبيرة حقيقة يعرفونها وتجرحهم ؛ الأب الذي يمثل دوره نائما يتحاشى سؤال أولاده حتى لا تسقط رجولته وأبوته أمام أولاده فلا معنى للرجولة أمام عاجز لا يستطيع أن يغيّر من وضعه شيئا، ليس الأمر سهلا على رجل يتوّسله أصغر أطفاله مطالبين إياه ببعض الدنانير التي توفي له غرض شراء حبر أو قلم رصاص أو حتى كراس التلوين. الأب لا يجد الشجاعة ليظْهِرَ نفسه مستيقظا أمامهم إلا بعد خروجهم من هذا الكهف الذي تعاف حتى الفئران العيش فيه. المكان الذي تنتشر فيه الصراصير بشكل رهيب وتطوّقه الرطوبة من كل جوانبه حتى أنه يشبه إلى حد كبير زنزانات للمحكوم عليهم بالإعدام.
يستيقظ الحشايشي على أمل أن لا يلتقي بعيون إخوته التي تطرح كثيرا من الأسئلة التي يراها في عمق الجرح الكامن فيهم،هو لا يذهب إلى مكان تحديدا وليس له عنوان بعينه بل يجول المدينة وأزقتها علّه يجد عملا هنا أو هناك، فقد يحمل أمتعة سيدة منهكة أو ينظف مدخل بعض المحلات القريبة من بعضها البعض في وسط المدينة الثرية أصحابها، أو يتجه إلى المطار فهناك بعض الحقائب الثقيلة التي يمكنه وضعها في صندوق السيارات مقابل بعض الدنانير التي تحفظ له كرامته وتقيه مد يده للناس هكذا يقولها لنفسه.
يستيقظ وقلبه يقبع عليه ثعبان بارد من شقاء، لا شيء يتغير في هذا المكان الذي كرهه حتى الشيطان، هنا يقول المسؤولون أن المال موجود و الرفاهية ستصيب كل الناس دون أن تخطأ أحدا و الحقيقة أن هذه الشعارات التي يقرأها و الموضوعة في الطرقات و على الواجهات الحكومية تزيده ضيقا فيطلق لعناته على الجميع. في الطريق لا يتبادل الكلام مع الناس عرفهم أو جهلهم ويقتصر على الحديث العابر و على اللياقات الاجتماعية لا غير، هو يرى هذه النسخ المتكررة كل يوم تزداد تكرارا حتى أنه فقد الرغبة في الجميع و في محادثة الجميع، لقد فقد التواصل مع كل من يعرفه، تواصله فقط مع من يحصل معهم على أجرة اليوم لا غير والتي يعطيها لأبيه ليرى الحياة تعود إليه بعد موت، يعود الكبرياء في عينيه ويعوّض بهما ذاك الحزن الملتصق بهما و الغائر في عمقهما.
كان الحشايشي كلما عاد من بحثه عن قطعة الخبز في المساء يقصد مكانا يستهويه كثيرا خارج البلدة التي يضيق بها كثيرا، وعلى حافة الطريق العتيق الذي كان مخصّصا لعربات الأحصنة والذي لا يسلكه أحد والذي غرست بالقرب منه بعض أشجار الكافور الشامخة العالية و القديمة والتي يمتد زمنها إلى الاستعمار. يستهويه هذا المكان وهذه الربوة المرتفعة التي يراقب منها الطيور التي تصنع في الغالب أعشاشها وتتزاوج، منظرها الباهر وهي تجتمع صادحة تغاريد عذبة تمّتع السامع و الناظر معا. كان يحب الجلوس متكئا إلى شجرة الدردار التي كانت بين أشجار الكافور الشامخة، يراقب طائر السنونو وهو يصنع عشه رواحا ومجيئا، هذا المنظر الذي يمده ببعض القوة والصبر. والغريب أنه في هذا المكان من سنين والمشهد نفسه يتكرر مع باقي الطيور التي تصنع أعشاشها على أغصان الشجرة الكثيرة الفروع وتتكاثر بصورة مذهلة. يقول quot; ليتنا مثل الطيور بغريزتها ومثابرتها وبتغريدها وصبرهاquot; ثم يخرج صوت الأسف من أعماقه، يقف عائدا إلى البيت و قد غسل باطنه بمكاشفته لأغواره ماسحا الهموم التي استوطنت داخله، آيات الله في هذا الكائن اللطيف الضعيف وفي هذه الطبيعة الفاتنة التي ترّد إليه ثقته في الحياة، يمتلأ قلبه إيمانا تعمره السكينة حتى أنه حين يدخل البيت الشبيه بالكهف لا تُرى على وجهه آثار الشكوى والتعب والهموم والقلق. يضحك في وجه إخوته، يبتسم لوالديه، ويخرج من جيبه أجرة اليوم و ما رزقه الله في هذا النهار وبمنطق القلب العامر بالخير والقانع يحمد الله على مسمعيهما وبما يزرع الفرح في قلبيهما.
يرقد وفي مراجعته لأحداث اليوم وما سمعه من أخبار الموت و السرقة يرى الحقيقة التي عرفها عارية أكثر، حقيقة أن الخبز يقتل و الجوع يقتل والفقر و الفاقة لا تقتل فقط بل تدفعك أن تقتل وتتمرد على نفسك و على غيرك و قد تجعلك ترى الإنسان ذبابة تحطّ على جدار متسخ يقول هذا ورأسه على الوسادة الباردة التي لا تدفأ أبدا، يقول هذا حين يعود إلى أغواره، متجادلا في غيظ وحنق مع نفسه لكن تنتصر إرادة الخير على هذه الوساوس التي تلتف على خاطره كثعبان الأمازون القاتل، تنتصر إرادة الخير كلما تذكر تلك الطيور.
يستيقظ الحشايشي دون أن يتحكم في صوته و لا في حركات جسمه، تارة يتمتم كلاما يشبه أغنية حزينة بلحن يدندنه وتارة ترتجف أصابعه فلا يجد لها هدفا إلا فمه و أسنان تقلّم أظافره، إنه يدخل سياقا جديدا من الفوضى، الرأس و التفكير في مستقبل لا يرى فيه بارقة أمل .
يقول في نفسه وهو يرى بعض الذين يعرفهم بمثل سنه أقل منه تعلما حتى أنهم لا يملكون شهادة. يسمعهم وهم متجهين إلى عملهم راكبين سياراتهم مستمعين لصوت المذياع؛ هؤلاء الذين سمع الكثير منهم يتحدثون عن اجتماعات رسمية مع بعض المسؤولين من معارفهم كيف يهيئونهم لمراكز جديدة ووظائف جديدة أخرى وكيف سينتقلون إليها فيما بعد، وكيف شاركوا في احتفالات رسمية و أكلوا الكثير من الحلوى و البيستاش وكيف استمتعوا بمشاهدة مسرحية أو فيلم وثائقي تزامنا مع مناسبة وطنية، حتى أنهم حضروا الموسيقى و الغناء الذي أتحفهم به المطرب المصري المشهور والمطربة اللبناينة النجمة ذات الحنجرة الذهبية التي لا تقبل بأجرها إلا بوزن الذهب، والممثل الكوميدي المشهور الذي قدمت به إدارة الدولة المسيّرة للثقافة ودفعت له الملايير؛ تفننوا على مسمع منه كيف الموسيقى زرعت فيهم النشاط والغبطة وكيف الستارة فتحت على هتافات الحضور و كيف أنتبه الجميع لكلمة الوالي ورئيس دائرته والرجل الثري عضو الشعب، لقد وصفوا له نهاية الحفل المصحوبة بصور تذكارية وبعض العروض و الطلبات أيضا. المشكلة حين يستمع لهؤلاء وهو يقوم بمسح سياراتهم المركونة على جانبي الطريق يشعر أنه بمثل فأر، يرجع إلى باطنه يريد الانتقام من نفسه بمعاتبة القدر على هذا الوضع القاتم القائم معه والذي لا يريد أن يتغير لكن ما بداخله يجعله يعرّج دائما على هذا الذي يراه بعينيه و يسمعه بأذنيه، إنه يتجاوز هذا حينما يسمع بقلبه ويرى بعقله ويبحث داخله عن جوهر الإنسان فيه ساخرا من الأشياء التي تقيده أحيانا كثيرة. يتجاوز هذا حين يتذكر الطيور و ربوته المحببة، يتقرب من خلالها إلى الله حين تحف به دوائر الزيف وتريد أن تفقده ذاته وكي تزيد ثقته في زخارف الحياة التي لا قيمة لها . هو متيقن بجدوى الأشياء التي جُعلت للعيش، ما تبقي على العيش لا غير؛ يعرف ما يمقته والذي يكاد يفقده إيمانه فيرجعه إلى الله فيرى ما يقع وراء كل ما يسعى الناس إليه.
يستيقظ في هذا المكان الذي حاصرته كل مسافات العالم والذي لا يشعر به أحدا سواه، لا أحد معني على الإطلاق بما تعانيه أسرته من الإذلال، العيش الذي لا يرضاه الحيوان بكرامته الفطرية .
تمضي الأيام وتنقضي أيام الحشايشي في ذهاب و مجيء ولا شيء يتقدم في حياته أو في حياة أبيه الذي اقترب منه الهلاك، مرضه النفسي أخذ منه الشيء الكثير حتى أنه فقد الأمل في هذه المدينة التي تنفث النفاق و التي يتكاثر فيها البوم و الغربان.
قال له والده ذات يوم وهو يزرع فيه الأمل : لا زال مكتوبك ورزقك لم يأتي بعد فصبرا يا بني.
يصمت الحشائشي وهو يعرف أن الله يرزقه من حيث لا يحتسب، و لأنه لا يريد أن يشغل والده أكثر فالمرض يأكل جسده، لا يريد إخباره بأن الله لم يخلق هذا الوضع القائم، لا يريد أن يخبره بالواقع العفن وعن العائلات النافذة التي قضت على كل فرص العمل وحتى الامتيازات الأخرى التي هي حق المواطن العادي صارت في قائمتهم، النافذين الذين يستولون على كل شيء حتى على أبسط استفادة اجتماعية من سكن أو إعانة، لا يشاء إخباره أن بعض الناس تُكتب أسماؤهم دائما على القوائم منتفعين بأسماء وهمية أو أسماء أخرى ينالون منها رشوة، أن هؤلاء المدققين كالمسامير والذين يلمعون كالخناجر الطائرة المميتة هم من يصنعون البأس، هو واعي بالحياة ويعرف كيف يسير الفساد ويعرف أن أباه لا يريده أن يهتم بالسياسة ولا حتى أن يكون من البطّالين الذين يجتمعون جماعات في الأحياء يصّبون لعناتهم على هؤلاء المفسدين.
الحشايشي لا يقوى على التحديق إلا إلى أعلى السقف الذي ظهرت منه الشقوق، ينظر في لوحات واقعية أمام ناظره، تمر أمام عينيه أكاذيب الجرائد اللعينة التي تمتص الغضب من القلوب وتنشر أخبارها الكاذبة عن الوعود المغلوطة وعن السم القاتل الذي تبثه في القلوب؛ في الزمان نفسه وفي الجرائد نفسها ينظر في أخبار القتل و السلب؛ من المفروض أن يترك الناس بدون أمل خير من أن يوعدوا بأوهام منومة تجعلهم يتعلقون بحبالها إلا أن يصيروا منحرفين أو لصوصا أو قتلة وتنتهي الحياة عندهم بحد الموت .
في كل يوم من حياته المتماثلة المتطابقة والتي لا تتخللها مسارات ولا تغّير من وضعه شيء، أيامه التي تمضي من عمره دون هدف، الزمن قصير وساعاته معتادة والقلق يجره إلى هاوية تفكير وتكفير، إلى حفرة عذاب. بدأت تتحرك فيه مشاعر و أفكار في اتجاهات متشعبة لا حصر لها كان المؤشر فيها يدعو إلى الخوف و الخطر، ولكم بحث عن حياة الاستقرار والتكيّف في هذا الوسط فلم يجده فحيثما ذهب أو قصد إلا وسدت الأبواب في وجهه، لقد أدرك الواقع حوله وبطرق مختلفة وفهمه أكثر لأنه نشأ في وسط لا يبعث على التفاؤل و لا يحفّز أبدا و لم يجد فيما رآه وسمعه أن يستهديه في مشوار الحياة، لقد رأى كيف يحقق الناس مصالحهم بالجشع والنفاق و الفساد.
يستيقظ الحشايشي كما العادة متيقنا أن الله جاعل له المخرج و رازقه كما كل يوم، فما دام الإنسان حي فإن رزقه موجود حي معه كما تخبره دوما أمه جميلة، يكفي أن يسعى إليه لا أن يسعى الرزق إلى الإنسان و لو أنه يعلم أن الكثيرين يجلسون و ينامون و الأموال و الأرزاق تتهاطل عليهم دون فعل أو حركة، هو لا يأبه لهؤلاء الذين أخلطوا حياتهم فصارت بلون الرماد.
كان يومه شاقا كما العادة فليس من السهل أن يحصل على أجرة دون مسحه لزجاج السيارات والركض و راء أصحابها الذين تارة يدفعون و تارة يهربون و يمتنعون عن الدفع، بل أكثر من ذلك يسمع التجريح والأمر برفضهم لمسه لسيارتهم بالكامل، وحتى تلك النظرات المحتقرة لشخصه البشري أكثرها إيلاما. يدوس على قلبه لأجل تلك الدنانير التي هو بحاجة إليها أكثر . الكرامة أن يشتري خبزا و حليبا و زيتا و حاجيات دون الاستلاف أو الاقتراض من صاحب المحل خوفا من أن يوضع اسمه في كراس المدانين، و أي إهانة حين يفتح البائع كراس الديون و يقرأ اسمه البارز و الجلي وبلون قلم أحمر مكتوبا بين أسماء أخرى لسكان شارعه المليء بالفقراء و التعساء البؤساء.
أنهى الحشايشي يومه الشاق و هو لا يفكر إلا في المكان الذي ألفه و صار جزء من حياته، راح يقرأ في جريدة النهار التي سيحتفظ بها بعد ذلك لمسح الزجاج وهو يتسلى بالأخبار الكاذبة و المغلوطة و الملفقة، لولا مهنته في مسح الزجاج ما كان ليشتري هذه الجرائد التي مستها الرداءة فصارت الأقرب إلى حكايات العجائز القديمة. وصل للمكان ولا يزال منهمكا في تقليب صفحاتها، اتجه مباشرة إلى شجرة الدردار حيث يجلس دائما، جلس على الأرض سخية التربة، طوى الجريدة الصفراء ورفع رأسه كما العادة إلى حيث الطيور التي لطالما رآها تبني أعشاشها، بهت للمنظر الذي رآه، كانت جثة شاب تتدلى من حبل مربوط في غصن وعنق يبدو مكسورا، هذا شاب من أهل الحي يعرفه جيدا اسمه الباهي، لقد أقدم على الانتحار واضعا حدا لحياته، كان شابا في الثلاثين من عمره. أسرع الحشايشي وهو مفجوعا مصدوما لهول ما رأى، أبلغ أهل المنتحر الذين انتقلوا على جناح السرعة إلى عين المكان، كان مشهدا مهولا لم يره من قبل ؛في يوم الغد قرأ الخبر في الجرائد التي تطلع كل يوم من مخبئها كالثعالب.
لقد صار المكان موحشا بعد الذي حدث، مفزعا، لم يسأل نفسه لما أقدم هذا الشاب الباهي على الانتحار لأنه كان يعرف الإجابة مسبقا كما يعرفها كل أهل الحي.
لم يتردد على المكان الذي أحبه شهورا، قرر زيارته مجددا، الحنين إلى تلك الطيور جعلته يتجاوز خوفه لأجل هذه الطبيعة التي تمده بالراحة و القوة. حين وصل هناك و كأنه لأول مرة يرى هذه الطبيعة المنفتحة كلية على هذه الألوان من ثمة راح يبحث بعينيه العميقتين كبئر عن طيور العنادل والسنونو الظريفة، كانت هناك مجتمعة تقفز في خفة على الأغصان وتعود مجتمعة على عش من جديد في منظر يوحي بحيرة و حزن كانت الطيور قلقة للغاية، دقق النظر في ذاك العش فإذا بطائر سنونو مخنوقا يتدلى وخيط سميك في عنقه، كان الخيط قد ألتف على عنقه و هو يصنع عشّه، فهم الحشايشي الدرس ضريبة الحياة والمقاومة، حتى أضعف المخلوقات تعطي دروسا في الحياة، الطائر يموت لأجل بناء عش تخرج منه طيور أخرى.
صعد الحشايشي الشجرة، طارت الطيور، رأى البيض الصغير في العش بحجم حبّات الحصى، أنزل طائر السنونو من عشه، دفنه في التراب ثم عاد إلى البيت يعظّم الله في سره ويحمده على أجرة اليوم التي سيعطيها لأبيه، ناظرا في الوجود مفكرا في فناء يحفُ الجميع ويطوّق خصر حياة البشر، عاد تاركا أمر الرزق على الله، وفكرة الطائر مؤجلة ليوم الغد الجديد، فكرة غيرّت ما بنفسه لقد تجلت وآن لها أن تظهر.
- آخر تحديث :
التعليقات