quot;فليسرع كل شيء بالزوال، ولتتغير على وجه السرعة وبأية طريقة حياتنا اللعينة التعسة quot; (تشيكوف: من مسرحية quot; بستان الكرز quot;)


أحمد كاظم نصيف: تتميز رؤية الفنان عن سواه، اعتمادا ً على الخيال الخلاق المتحرر من قيود المنطق والمعقول، كونه صاحب نظرة حالمة وصاحب نبوءة، وبفعل رؤيته المتفائلة فهو يعمل على استغلال المسرة الكامنة في الحياة ؛ على هذه الخلفية يمكن التعاطي مع الإبداع، بمزية التعبير الواقعي المرتبط بالأفكار، وبلورتها، للتخلص من الشكل الإنساني المستلب، والسعي للتغيير والتحرر من التقاليد الفنية السائدة، والثورة الفكرية الثقافية لابد لها من مناخ يستوعب صنع التحولات، وصد الارتداد المحتمل لها، وليس رفض واقع سلفي فقط، والفنان quot;المبدعquot; مَن ْ يرصد ملامح جسد المجتمع، ويبحر في نبض روحه، (وقد يكون حذراً في خطواته) ؛ فقد أنجز الفنان الألماني quot;كليهquot; عمله التشكيلي quot;ثورة الجسرquot; سنة 1937 (يحتفظ بها متحف الفن في مدينة هامبورغ) واعتبرت من كنوز الفن، لكن اللوحة ليست صورة فقط، إنها صور متتالية تقول أحداثا ً ذات اتجاه وهدف ؛ وهي ليست مجرد صورة لموقعة ثورية مدهشة ذات إيقاع ديناميكي دقيق وذكي، بمعنى آخر ليست مجرد تصوير انسيابي بل هي مدّ درامي، بمعنى إن تكوين هذه اللوحة موجود في ثلاثة أمكنة في آن : المكان الأول هو اللوحة، والمكان الثاني هو ذاكرة المشاهد (مفرد المجتمع - الشعب)، والمكان الثالث هو ذلك الفراغ الذي يفصل بين العين واللوحة ؛ وبهذا ينتقل تأثير الفعل من جماد يتتالى على اللوحة، إلى فعالية تتتالى في عيني المشاهد ومن عينيه إلى ذهنه، ومن ذهنه إلى حياته اليومية، ومن تلك الحياة التي ستكتسب فيما بعد وبالتأكيد طبيعة تغييريه دون ريب ؛ هل بوسعنا أن نقول إن المشاهد بعد مجابهته تلك التجربة لن يكون هو هو ما كان عليه قبل خوض التجربة ؟ هل نحن بحاجة إلى الإشارة إلى أن هذه المشاهدة لا يمكنها أبدا أن تمر من دون أن تترك أثرا حاسماً على حياة المشاهد ؟ لكي تحدث اللوحة هذا التأثير وهذا الفعل فقد غرفت من أرضية الواقع، لان الواقع يخص الجميع ويتكون من تضافر الجميع ويعبر عن هموم الجميع، كان لابد لهذه الجسور أن تحمل إبعادا رمزية لا مراء فيها، كل جسر في هذه اللوحة هو رمز معين يكشف الوضع النفسي والثقافي للإنسان، وهذا ينقله من الواقع المستلب المعطوب إلى صاحب قضية ؛ ومن الرؤيا نفسها أستلهم اللوحة الشاعر السويسري quot;كريس تانسبرجquot;، وقدمها بشكل تفصيلي، وما ينطبق على اللوحة في هذا المجال ينطبق على القصيدة بكاملها، طالما إن اللوحة والقصيدة يتشابهان بالوظيفة نفسها، فاللوحة تخاطب مزاج المجتمع (الشعب) والقصيدة كذلك في مزج نادر وبشكل مقصود، فالقصيدة تعيد تشكيل اللوحة بحواراتها وأدائها وحتى حبكتها، فمن هذا التشابه وهذا الخلق الفني نتج عنهما سوسيولوجيا التلقي لدى المجتمع (الشعب) الذي لا يشعر بالحيادية، تجاه اللوحة وتجاه القصيدة وتجاه القضية نفسها، إنه شاهد متورط ؛ بل هو معني بالتغيير الفكري الثقافي وبشكل مطلق، ويتوق إليه ؛ فهذه الجسور بكل تأكيد ليست تذكارات مجردة بالنسبة له وإنما تعني حركة من أجل الوحدة، وحدة ألإنسان إزاء مصيره وقدره ؛ وهذه الجسور تشير إلى إن الشعب صار يبتعد عن الحياة الحقيقة وعن بعضهم البعض كثيراً، وقد يكون هذا ناتجاً بفعل الهوّة التي تفصل الطبقات المتسلطة (.....) وبين الشعب، في هذه الظروف التاريخية الجديدة، تقول القصيدة:

ثورة الجسر

كان هناك شعب، لم يرد أبدا ً
أن يحيا في علاقة طيبة مع جيرانه،
على الرغم من أن الجسر ظل يصرخ دائما ً
أريد أن أنقلكم للشاطئ الآخر.
الرسام تكلم وقال: الجسر يصرخ،
وبهذا صدر لك الأمر،
وإذا لم تكن على استعداد للذهاب،
فسوف يأتي ويأخذك معه.
الشعب تفكر وقال:
الجسر يشتتني عن أهدافي.
سأبقى منطويا ً على نفسي
وأستطيع أن ألعب اللعبة وحدي.
الجسر الجسر لم يعد يصرخ،
والرسام نفض يديه.
لكن يا للرعب الذي حلَّ بعد ذلك!
لقد أقبل الجسر يترنح
يترنح بسرعة لا يصدقها أحد،
اقبل قطعا ً متناثرة،
وأخذ يقترب كما في الحلم
كأنه جسور كثيرة كثيرة.
الشعب المفزوع يريد أخيرا ً
أن يذهب لجيرانه فوق الجسور.
لكن الأمر الآن في حكم المستحيل
فالجسر تفتت قطعا ً صغيرة...