كتابة السيرة مثل روح تحمل معها روائح الأشياء وصور الأمكنة والعودة لأيام وسنوات مضت بأفراحها وأحزانها وحوادثها وتسجيل لحظات وقوعها ونفض غبار الزمن عن مواقفها ومحطاتها وإعادة رسمها، فهي رحلة أعادة الحياة الى أمكنة وبشر كان لهم وجود في أيام تلك الأمكنة والمدن والبيوت ولكنهم تلاشوا مع الزمن ولم تبق سوى رائحة ذكرياتهم مثل حبات ضباب طائر.
قد يقول قائل وما فائدة هذا التاريخ القديم المعاد، لكنها فرصة أن يلتقي المرء بوجود متجسد متكامل يتجمع حول عاطفة مشتركة واحدة واستعادة أمكنة مفقودة نود أن نعلم عنها وعن حيثية تواجدها واختفائها قبل أن نكون قد ولدنا، وأن كنا قد عرفنا شيئاً يسيراً عن مجرياتها ووجودها، فهي مثل مسرحية تمر أحداثها ونعرف نهاياتها، فنحن نعلم مسبقاً أن يوليوس قيصر سيموت على يد بروتوس، والملك لير سوف يأسره الجنون، ولكن خطوات العمل الدرامي ستحول لنا هذه الأحداث المتوقعة الى أحاسيس خاصة وتيارات من المتعة والأنجذاب وأجواء فائقة من تواتر اللحظات والأزمان الشاعرية منذ لحظة وقوعها حتى انفراجها على هذا النحو او ذاك كأننا نتجول في مشهد طبيعي لتلك الأحداث، ونكملها من ذواتنا كأنما نستعيد وجودنا.
فأن شعورنا نحو الحياة الإنسانية التي نتأملها من خلال سيرة ما سيكون كشعورنا تجاه شخصيات رواية نقرؤها أو كما لو أننا نتأمل مشهد غرق سفينة في لوحة مرسومة دون ان نحس بالحاجة الى ان نعوم او ان نتعلق بالأشجار المجاورة.
والذاكرة حقول خصبة نضرة لكنها بعد مرور أزمان تتلاقفها مناجل النسيان وان لم نسجل وقائعها تذوي كفاكهة أهملت في مكان، لكن الدكتور صاحب الذهب بادرنا وأتحفنا بما سمحت ذاكرته باقتناص شذرات من حياة طويلة مليئة بالمتاعب والمنغصات والأزمات ولحظات الانفراج وأيام الهناءات، سجل معها تأريخاً للأوقات الماضية وسجلاً حياً للأماكن التي عاشها من قبل وصورتها لنا ذاكرته في استعادة شديدة التفصيل بعض الأحيان وبراعة في أظهار الملامح والإشارات الدقيقة للشخصيات التي عاصرها أو رافقها او ارتبط ارتباطاً مباشراً بها.
ومنذ أبتدائه مع رحلة التكون الأولى والبيئة النجفية التي سرد لنا ملامح ثرية لعصرها وتأريخها الميثولوجي البعيد الذي استرجعته ذاكرته بأسلوب شيق يجذب القارئ الى مزيد من الذكريات خصوصاً وقت النشأة الأولى واعوام الطفولة، وان صادفنا حدثاً يسبق عمره ويهتم بالشؤون الكبيرة قبل شأن لذاته وبعيدا عن اهتماماتهم بمسافات طويلة، أهلنه ان يشق له طريقاً علمياً واهتمامات دراسية وطموحات فاقت أقرانه ومن عاشوا مرحلته ورحلته.
كانت لأيام القاهرة والحياة في العهدين الملكي والجمهوري تفاصيل وأسرار دقيقة لا تؤتى الا لمن عاشها بعمق ورأى أحداثها رؤية العين وعرف الشخصيات المساهمة في تلك الأحداث، فنقلها بأسطر العارف والمتمعن يمكن مراجعتها لمن أراد الأستزادة من تأريخ تلك الحقبة المثيرة للتساؤل والجدل، وشغل الدكتور أماكن ومناصب أتاحت له الرؤية ومسايرة الأحداث الخمسينية عن قرب كوظيفته في الجامعة العربية وصندوق التعاون العربي، ومن القاهرة الى بغداد حيث شغل منصب أستاذ جامعي في فرع الاقتصاد، ثم وظيفته الأخير في الأمارات ومنها انتقاله الى الولايات المتحدة كاليفورنيا ومشيجان ورحلته الأدبية الطويلة وعشقه للشعر في دواوين عديدة وترجمات أصدرها خلال مسيرته الأدبية ورسائله المتبادلة مع شخصيات أدبية معروفة بالإضافة الى إنشائه دواوين وصالونات أدبية للمعرفة وعشاق الأدب في كل مكان يحل فيه ويسمح له الوقت ان يستأنف رحلته الشعرية، نتمنى لأستاذنا الكبير دوام الصحة والعافية وعمراً مديداً لأستئناف حياته الشعرية متطلعين الى دراسة اصداراته الجديدة التي تعتبر إضافة جديدة لمكتبتنا العربية.