قصير عمرة، بادية الاردن

د. خالد السلطاني: لا يستقيم الحديث عن منتج عمارة القصور الاموية في بلاد الشام، وهو موضوع كتابنا هذا، مالم تدرك طبيعة وسمات البيئة الحاضنة، لذلك المنتج، التى اسهمت في quot;صناعتهquot;، واوصلته الى مديات جدّ متقدمة، إن كان ذلك لجهة الحلول التكوينية، أم لناحية اللغة المعمارية. و quot;البيئةquot;، التى نتحدث عنها، لا نقصد بها دلالاتها القاموسية، أو معناها الآحادي. ذلك لان بيئتـquot;ناquot;، هي في واقع الأمر، متشكلة من بيئات متعددة: فثمة بيئة تاريخية، وبيئة جغرافية، وآخرى ثقافية ورابعة عمرانية. وسنسبغ مداليل آخرى لمفهوم تلك الكلمة، اثناء تقصينا نماذج عمارة القصور الاموية، او عند تحليلها معمارياً. ومن دون ذلك، اي بدون الأخذ في نظر الاعتبار الانجازات المعمارية المتحققة سابقاً، والتى شكلت قاعدة معلوماتية اتكأت عليها نجاحات عمارة القصور المنجزة في العصر الاموي، ستكون قراءتنا لها غير كاملة، وسيتعذر علينا انتاج رؤى شاملة

صورة جدارية في قصير عمرة، بادية الاردن

وبانورامية لذلك المنجز الحصيف ومعرفته معرفة موضوعية، تكون بعيدة عن تدخلات الاهواء الذاتية.
ثمة، اذاً، حاجة يفرضها النزوع المعرفي الموضوعي، لايلاء أهمية مضافة الى طبيعة البيئات المتنوعة، والتى في كنفها تم تحقيق منجز عمارة القصور الاموية، اسلوباً ونماذجاً. يتعين التذكير، ابتداءاً، بان إطروحتنا، التى نسعى من خلالها إضاءة ذلك المنجز، لا تقرّ، مثلما تنأى بعيداً عن مفهوم الحواجز الزمنية الفاصلة. اذ ليس هنا، في اعتقادنا، من ثمة تخوم او حدود واضحة أو قسرية في صيرورات المسار التطوري للعمارة. صحيح ان ثمة رؤى جديدة، او انعطافات فكرية او ثقافية مغايرة، قد تكون قادرة على اسباغ خصوصية المنجز المعماري المتحقق بسمات جديدة، لكن ذلك quot;الجديدquot; يظل طويلا ينتمي الى ماسبقه.

عند فناء قصر الحلابات في وادي ضليل بالاردن

فتأثيرات طبيعة المواد الانشائية المحلية وquot;تكتونيتهاquot; Tectonic، وسيادة الظروف المناخية والبيئية، فضلا على قوة توافر التقاليد البنائية ووجود البنائيين الماهرين، يجعل من ذلك كله، بمثابة عوامل تحدّ من نشوء quot;القطيعةquot; المعمارية، بصورة مفاجئة او حادة. وأذا أضفنا الى ذلك، تشابه النوعية Typology الوظيفية، ومألوفيتها، عند الحديث عن المنجز المعماري المتشكل تحت quot;سلطةquot; ألافكار الجديدة، فأن حضور quot;القطيعةquot; هنا، سيكون حضوراً رمزياً، لا يمكن له أن يؤثر تأثيرا حاسماً على طبيعة المنتج المعماري ومساره، خصوصاً في سنين التغيير الاولى. بعبارة آخرى، ثمة فرضية تجد لها تمثيلاً في استمرارية معرفية، ستكون ذات إثر واضح على منتج عمارة القصور الاموية الظاهرة في المشهد. وهذه الفرضية تستقي مصداقيتها من قوة ونفوذ طبيعة التأثيرات النابعة عن التقاليد البنائية وخزينها الممتلء عبر

قصر الخرانة، بادية الاردن.

فترات زمنية طويلة بخصائص محددة. ولهذا فان الاطروحة المفترضة، تحرص على تبيان ما تم انجازه سابقاً، كمدخل لادراك موضوعي لمنتج عمارة القصور الاموية، وقراءته قراءة تحليلية، تكون قادرة على اضاءه خصائصه التكوينية وتقييم قراراته التصميمية، وتعقب تأثيراته اللاحقة على سيرورات المنتج المعماري، إن كان ذلك على المستوى النوعي، بخاصة، ام على المستوى المعماري بعامة.
على أن مفهوم quot;الاستمرارية المعرفيةquot;، لا ينبغي ان يفهم كباعث أو أداة لتجريد العمارة الاسلامية من إنجازاتها المتنوعة، وتحديداً المنجز الحاصل في عمارة القصور الاموية. فحضور المعرفة المستمرة، يتطلب وجود مؤثرات وحوافز عديدة، كي يمكن تفعيل نشاطها، ومن ثم جنيّ مكتسباتها. بخلاف ذلك، بخلاف عدم وجود مثل تلك المؤثرات والحوافز، ستضمر تلك المعرفة وتندثر، وقد تتلاشى قوة سلطتها وتأثيراتها، وربما يسدل عليها ستار النسيان، وتدخل، عند ذاك، دهاليز quot;القطيعة الابستيمولوجيةquot;، التى يتعذر معها اجراء

لوحة زيتية في قصر الحير الغربي، البادية السورية.

التواصل، وبالتالي تحقيق الاستفادة. كما، تنبغي الأشارة هنا، بان مفهوم quot;الاستمرارية المعرفيةquot;، ليس مفهوماً، تنطبق تأثيراته على العمارة الاسلامية حصراً. انه يخص جميع quot;العماراتquot; التى عرفتها الانسانية، والذي اعتبر عاملاً حاثاً في إكساب المنجز المعماري العالمي تبايناته العديدة، وتلاوينه المختلفة.
وقبل الحديث، عن خصائص النشاط المعماري ما قبل الفترة الاموية، يتعين، ولو باختصار، التطرق لظهور الحكم الاموي، ذلك الظهور الذي به تنتهي ملامح فترة تاريخية وبالتالي معمارية، وتبدأ فترة تاريخية آخرى.

تأسست الدولة الأموية عام 661م، يعد الحوادث الدراماتيكية، التي رافقـت خلافة علي (رض)، آخر الخلفاء الراشدين، بمبايعة quot; معاوية بن أبي سفيان quot; خليفة للمسلمين في إيلياء (القدس) سنة 660م( في شوال سنة 41هـ على ما ذكره المسعودي. وسنة 40 هـ على ما في الطبري، واليعقوبي ) (فيليب حتي، تاريخ سورية ولبنان وفلسطين، الجزء الثاني، بيروت، طبعة 1983، ص 35 [ لاحقاً : فيليب حتي quot; تاريخ سورية hellip; quot;، ج 2 ]..
لكن معاوية اختار أن يجعل مدينة دمشق، عاصمة لخلافته وذلك لموقعها الاستراتيجي، ولمنزلتها الحضارية. وقـد دام حكم الأمويين quot;ألف شهـرquot;، وهـو ما يساوي (91) سنـة و (9) أشهر و (5) أيام، لحين مقتل quot;مروان بن محمدquot; ـ آخر خليفة أموي، في الديار المصريــة، بقرية quot;بوصيرquot; عام 132هـ (750م). وكان عدد خلفاءهم [14] خليفة (،ثريا ملحس. الخلفاء الامويون، بيروت 1977 ص 3، ص 22). ظل معظمهم يتخذ من دمشق عاصمة لهم، على أن بعض الخلفاء اتخذ غيرها، ولفترات قصيرة، مكاناً للسكن والحكم.
لقد أسست العائلة الأموية، دولة واسعة، مترامية الأطراف، وأقامت نظاماً مركزياً، بسرعة فائقة quot;قلما شهد التاريخ مثيلاً لها quot; (عبقرية الحضارة العربية، ص 18.)، فخلال قرن واحد من ظهورها وصلت الفتوحات الإسلامية على أيديهم، مدى واسعاً جداً، فانضمت إلى الدولة الإسلامية، إبان الحكم الأموي، أقاليم كثيرة، ذات مساحة شاسعة، مثل بلاد فارس وأقاليم ما وراء النهر حتى تخوم الهند شرقاً وتـم إخضاع شمال أفريقيا، وفتح شبه جزيرة ايبيريا، بعبور الجيوش الأموية البرزخ الفاصل بين أفريقيا وأوروبا، ليصل المد العربي ـ الإسلامي ذروته، في ما وراء جبال البرنية، وليتوقف عند معركة quot; تورquot; الشهيرة، التي دعاها المؤرخون المسلمون بمعركة quot; بلاط الشهداء quot; عام (732م). (خالد السلطاني، العمارة الاموية، الانجاز والتأويل، دمشق، 2006، ص. 21-22)

قصر المشتى، بالقرب من عمان/ الاردن.


وقصارى القول، فان الفتوحات الإسلامية في العصر الأموي بلغت أوج عزها وانتشارها، لا سيما في عهد عبد الملك بن مروان، خامس خلفاء بني أمية ( 685 ـ 705م) وأبنائه الأربعة ففي خلافة الوليد (705 ـ 715م) وأخيه هشام (724- 743م) بلغت الدولة quot; أوسع حدودها، فامتدت من شواطيء المحيط الأطلسي وقمم البرنية، حتى حدود الصين. فكانت تفوق باتساعها مساحة الإمبراطورية الرومانية في أوسع حدودها، ولم يسبق للإمبراطورية العربية قبل ذلك العهــد، ولا تأتى بعده، أن تبلغ إلى هذا المدىquot;. (فيليب حتي، تاريخ سورية، الجزء الثاني، ص 64 ).
لقد ضمت، اذاً، الدولة الاموية المترامية الاطراف مناطق جغرافية شاسعة، قطنتها إثنيات متنوعة ذات ثقافات بنائية مختلفة. وهذه الثقافات افرزت منتجاُ معمارياً غنياً ومتنوعاً؛ اثر من دون شك، على تسريع انضاج تكوينات المنجز المعماري الاموي، وذلك لاسباب عديدة، بضمنها تنقل البنائيين بسهولة وآمان، ومعهم خبرتهم المعمارية، الى مختلف الاقاليم ضمن هذه الدولة الواحدة، وتعرفهم على تقاليد بنائية جديدة. لكننا، وبسبب طبيعة موضوعنا المحدد quot;تابولوجياًquot; وتصميمياً، فاننا سنقصر كلامنا على رقعة جغرافية معينة، هي بلاد الشام، والتى على اديمها ظهر وتشكل منتج القصور الاموية، ذي اللغة المعمارية المميزة، المتأثر صياغته التكوينية، كما أشرنا، بتقاليد ونجاحات الموروث البنائي الخاص لهذه المنطقة.
اننا نعي، بان فكرة نجاح منتج تصميمي نوعي، ستكون ذات فائدة قصوى لنجاحات تصميمية نوعية آخرى. بمعنى آخر، أن الانجازات المتحققة في عمارة الابنية الدينية، على سبيل المثال، ستؤثر بدورها على نشاط عمارة الابنية الدنيوية، والعكس صحيح. ان التعاطي مع المنتج المعماري، اياً تكن نوعية quot;تابولوجيةquot; ذلك المنتج، والمحكوم باستمرارية الظروف البيئية والمناخية، وتوفر نوعية خاصة من المواد الانشائية، فضلا على وجود الخبر البنائية المكتسبة، عادة ما يتجلى في مداخلات تصميمية محددة. وهذه المداخلات تشترك فيا بينها في علاقات متشابكة تنحو الى ايجاد أجوبة متماثلة ومميزة لكيفية علاقة الكل مع الاجزاء، والعام والخاص، والداخل والخارج، والامتلاء والفراغ. ويفضي، كل هذا، الى تحقيق منتج معماري يتسم على خصائص معينة، هي في الحقيقة، استجابة لتلك المداخلات.
لا توجد قرائن أكيدة، عن وجود نشاط معماري في بلاد الشام، قبل ظهور الحكم الاموي، يماثل او يشابه نوعية مباني القصور، التى انشئت للخلفاء والامراء الامويين. فهذا النشاط، الذي اعتبر احد تمثلات النشاط المعماري quot;المدنيquot; في العمارة الاسلامية، عد في نفس الوقت نشاطاً فريدا وجديدا في آن. وبحسب quot; اوليغ غربارquot; فان الممارسة المعمارية لمباني القصور الاموية، يمكن لها ان تسد quot;الثغرةquot; النوعية/ التابولوجية، لتلك الممارسات التى توقفت عند بناء quot;الداراتquot; الرومانية quot; الفيلا المدينيةquot; Villa Urbana و quot;الفيلا الريفيةquot; Villa Rustica ابان العصر الروماني. ( تراث الاسلام، عالم المعرفة، الكويت 1998، ص. 338). ببد ان عدم وجود نشاط مماثل لعمارة القصور، في ما قبل الحكم الاموي، لا يعني بالضرورة، عدم تأثر عمارة القصور الاموية، ببيئة الخطاب المعماري، السائدة قبل ذلك الحكم. وهو ما سعينا وراء الاشارة اليه تواً، من إن اي نجاح في ايةquot;نوعيةquot; من المباني، سيسحب وراءه نجاحاً مماثلاً في أنواع آخرى. ونضيف الى ذلك، ايضاً، بأن اي نجاح في جنس إبداعي، يفرض بشكل وبآخر تبعاته على تقدم أجناس إبداعية آخرى، تتعايش معه وتتفاعل ضمن مؤشرات المكان والزمان المحددين.
والآن، ماهي طبيعة العمارة المنتجة قبل الحكم الاموي وخصائصها التى ستؤثر لاحقاً على منتج العمارة الاموية، بصورة عامة، وعلى منتج عمارة القصور الاموية، بشكل خاص؟.
قد يكون جواب هذا التساؤل، ينطوي على سهولة ووضوح، للوهلة الاولى؛ نظراً لتوفر قراءات عديدة، اغلبها تعود الى باحثيين غربيين، تناولت تلك الفترة بكثير من الدراسات الشاملة والتفصيلية، إن كانت من الناحية التاريخية او الفنية او المعمارية، يضاف الى ذلك عدداً آخرا من الدراسات العربية، المحتذية بشكل عام، إطروحات الكتاب الغربيين، والتى تعرضت، ايضاً، لهذه الفترة. لكن هذه السهولة وذاك الوضوح، يبدوان كذلك فقط عند النظرة الاولى، السريعة وغير المتساءلة. أما أذا كان ألامر يسعى وراء إعادة تقييم ما كتب، وينزع الى مساءلة تلك الطروحات، التى لفرط إنتشارها وتكرارها امست جزءاً من quot;حقيقةquot; مكتسبة، فان ألامر سيكون مشوباً بالتعقيد، وستظهر كثير من الشكوك في صدقية تلك الاطروحات. ناهيك أن معظم أطروحات تلك الدراسات الغربية والعربية على سواء، المنتشرة والمعروفة في الخطاب النقدي الفني والمعماري، تعود الى فترات زمنية ماضية، لم يثبت الزمن اللاحق صدقية الكثير من عناصرها. كما إن أدبيات النقد المعاصر وادوات تحليله تجاوزا كثيراً المنطلقات الفكرية التى اعتمدتها تلك الاطروحات. هذا فضلاً، على ما وفرته مدارس نقد ما بعد الحداثة في تفكيك مفهوم quot;التمركز الثقافيquot;، التمركز الغربي على وجه الخصوص، الذي استمدت منه تلك الاطروحات يقينيتها، تلك اليقينية المحتفية بآحاديةالتفكير، والطاردة لتعدديته.
إن أطروحات لإسماء معروفة، في الشأن المعماري والفني، إبان تلك الفترة التى نتحدث عنها، وما بعدها، وما تمخض من نتائج أُعتمدت في فهم انجازات العمارة الاسلامية وفنونها، لاحقاً، ما برحت تمثل للكثيرين مرجعاً مهماً، لا يمكن الاستغناء عنه، فضلا على مقاربات الكثير من الباحثين العرب.

بالطبع، لا يمكن التقليل من أهمية ما اجترحه كثر من الباحثيين الغربيين والعرب على حد سواء، فيما يخص العمارة الاسلامية وما قبلها. ولولا عملهم ودأبهم وشجاعتهم، وحسن اهتمامهم بموضوعهم المهني، فمن الصعب بمكان تصور بلوغنا المستوى الذي بلغته الدراسات الخاصة بالعمارة الاسلامية. وخصوصاً ذلك الجهد الممّيز في الدراسات الوصفية للشواهد المعمارية، وأعمال مسحها ورسمها وتخطيطها وتوثيقها من مواقعها مباشرة؛ في وقت لم يكن احد يهتم بها، أو يجرؤ على القيام بمثل ما قام به اؤلئك العلماء الدراسيين. لقد وفروا بعملهم المهم والضروري وعالي المهنية، المادة العلمية والتوثيقية للكثير من الباحثيين، وشجعوا القيام بمثل تلك الدراسات. quot;ولهؤلاء العلماء، فوق ذلك ndash;كما يقول احمد فكري- أفضال كثيرة، أخص منها رعايتهم للآثار الاسلامية، وتدخلهم لدى الهيئات المسئولة في حكومات الدول العربية، للعمل على حفظ تلك الآثار، وإظهار ما خفى عنها، وتدعيم ما هوى فيها، وتوجيه النظر اليها، والدعاية لها وإثارة الاهتمام بها.quot; (أحمد فكري، مساجد القاهرة ومدارسها، المدخل، القاهرة، 1961، ص. 8). وكما اعتمد كثر من الباحثيين على تلك الرسوم والمخططات، فاننا نقرّ باننا سنعتمد عليها، ايضاً.
لكن ألامر ألان، وكما نود ان يتم، سيكون امراً مختلفاً لجهة التعاطي مع تلك المواد والوثائق العلمية الاولية. ذلك لان هذا التعاطي سيعتمد على مساءلة مقاربات الآخرين لهذا الموروث المعماري، وإعادة قراءته قراءة (وربما قراءآت)، نأمل أن تكون ذات صدقية، تستمدها من نتائج التقدم الحاصل في مدراس النقد المعاصر.□□


مستل من بحث واسع يقوم الكاتب باعداده في الوقت الحاضر.

د. خالد السلطاني
مدرسة العمارة/ الاكاديمية الملكية الدانمركية للفنون