عبد الجبار العتابي من بغداد: هذه المرة.. كان الموت على موعد مع شيخ المسرحيين العراقيين في محافظة ذي قار ومدينتها الكبيرة (الناصرية) الفنان عبد الرزاق سكر، عن عمر ناهز الثمانين عاما، الرجل الذي امضى اكثر من ستين عاما على المسرح، ويبدو ان الحزن والقهر والبطالة هي التي (قتلته) لاسيما انه لم يعمل منذ وقت طويلا ويشكو من الاهمال الفني والصحي،ومن عدم وجود اي نوع من انواع الرعاية، وكان يجيء الى بغداد عسى ان يسند اليه عمل مسرحي او تلفزيوني ولكنه سرعان ما يعود الى مدينته خالي الوفاض، وفي كل مرة ألتقيه فيها كنت اشعر بالاحباط واليأس يخيمان على كلماته ومعنوياته بعد ان يجد نفسه خارج اقواس الاعمال الفنية، اذ انه كان يعتقد بعد الاداء المدهش الذي قدمه مع المخرج عزام صالح في مسلسل (سنوات النار) عام 2007 وتبعه بمسلسل (امطار النار) عام 2008 انه سيكون مثار اهتمام المخرجين والمنتجين وتستقطبه الفضائيات ولكن النجاح الذي تحقق له ما كان له اي أثر في نفوس الاخرين وان كان الفنانون يغدقون عليه بالثناءات العالية ويمطرونه بوابل من المديح الجميل، مثلما كان يعتقد حين شارك في مسلسل (المتنبي) مع الفنان المصري احمد مرعي عام 1977، ان ابواب بغداد الفنية ستفتح له ويكون مطلوبا من المخرجين، ولكن ظل عائشا في الغياب أمدا طويلا امتد الى ثلاثين عاما، فقد كان (المتنبي) هذا اخر مسلسل تلفزيوني له قبل ان ينظر اليه المخرج عزام صالح عام 2007، وطوال تلك السنوات الثلاثين كان يقول عنها : (سلمت امري الى الله، وكنت اقضي وقتي اقرأ، فلا يوجد غير القراءة للتعويض، انا في الاصل معلم وتقاعدت عام 1985).
الفنان الراحل.. يعتقد ان الفن في بغداد سيفتح له ذراعيه، وفي الحقيقة كان العكس اذ..كانت الايام تمضي، وهو يمضي الساعات في بهو المسرح الوطني وكافتريته فيما الادوار والشخصيات توزع هنا وهناك على من يشاء المخرجون والمنتجون واصحاب العلاقات، وحين وجد ان لا امل في تكون له حصة في الدراما الرمضانية التي انشغل بها الجميع عاد الى مدينته وهو يحمل اطنانا من الحزن والاحباط، كأنه يستعيد اياما خلت اكثر بؤسا ويتألم، انه يريد ان يمثل بعد ان كاد الحزن يقتله على مدى سنوات طويلة بسبب ولدين اثنين له اعدمهما النظام السابق احدهما عام 1986، والاخر عام 2001 لانهما ضد نظام الحكم!.
كما انه اخبرني بحكاية مؤلمة جدا، حيث قال : في عام 2002 كان من الممكن ان اعدم بسبب عمل مسرحي عنوانه (افتراض ما حصل فعلا) تأليف علي عبدالنبي الزيدي واخراج فلاح نوري، لكنه لم يعرض بسبب التقارير السرية التي كتبت عنه فأوقف عن العرض وكان العمل مباشرا يتحدث عن (مارشال) يريد ان يبني نصب (الجندي المجهول) فيعلن الحرب على اقرب جار له ومع ذلك لم يحصل على الجندي فيضطرون جماعته ان ياتون بجندي من الجيش العدو، فينهض الجندي من كفنه ويحاكم المارشال الذي توجه اليه اتهامات كثيرة تؤدي به الى السقوط.
وحين كنت اسأله عن المسرح يقول : لا توجد اعمال مسرحية في الناصرية كالتي تتصورها، هناك تحضيرات فقط، نحن نفتقر للقاعات ولانتاج هذه المسرحيات وهي بحاجة الى وقت، وكان ما نقدمه من جيوبنا، من الصعب.. تقديم اعمال مسرحية اسبوعيا، لعدة صعوبات وابرزها تتمثل في الانتاج، فأي عمل يحتاج الى مبالغ من اجل استمرار العمل، كما ان الجمهور غير مضمون للحضور، على عكس ما يحدث حينما تأتي فرقة مسرحية من بغداد حيث ترى جمهور الناصرية كله حاضرا، فجمهور الناصرية غير معتاد على فرق من المدينة نفسها، كما ان فناني المدينة لايمكنهم تقديم اعمال اذا لم يتم دعمهم بأنتاج جيد، فالممثل حين يصعد على خشبة المسرح لا تهمه مسألة الجمهور او مسألة الربح المادي الذي يأتي من خلال العمل المسرحي، فهذه تبقى تكهنات غير محسوبة بالضبط، وقال ايضا : انهم يمكن ان يقدموا في ايام الاعياد مسرحية ولكن مع انتهاء العيد ينتهي عرضها، فالجمهور لا يحضر دائما والمسرحي يحتاج الى استمرارية ودعم مستمر وهذا غير متوفر لنا.
وحين كنت ألح عليه بالسؤال اجدني ابتسم من رده حيث قال (اذا لا يوجد لدي نص ولا مخرج، كيف اقدم عملا، هل ان (اهوس) على المسرح وحدي!!)، و يجهر بالقول (كنت اتحرق شوقا للصعود على خشبة المسرح ولكن لا يوجد ما اريده، فما افعل، ومع ذلك كنت ابحث عن الاعمال، المسرح هو حياتي والظروف هي التي ابعدتني عنه، وحوكمت ان اكون هكذا، مثلا بلا تمثيل، فمهما صرخت وقلت.. ليس هنالك من صدى (لقد اسمعت لو ناديت حيا/ ولكن لا حياة لمن تنادي!!)، ومع كل ذلك، كان سكر يقول (لم اشعر باليأس.. قطعا،لانني متواصل وحياتي مع المسرح، حتى لو لم اكن اعمل، وستبقى امنيتي الكبيرة ان احقق شيئا، وبالمناسبة.. هناك شخص هو المخرج ياسر البراك، يحاول دائما ان ينقذني من هذا التعب، وهو دائما لديه عمل لم ينفذه بسبب معوقات، لذلك كنا نعمل ونتمرن الى ان تحين الفرصة، نحفظ النص ونتدرب عليه، المهم اننا شغلنا وقتنا وملأنا الفراغ!!).
وكان يقول ايضا (فنانو المحافظات مظلومون، مظلومون جدا، لان لا توجد جرأة لتتسلط الاضواء عليهم، لماذا..؟ انا اسأل : لماذا لا يتعب المخرجون ويبحثون عن ممثلين في المحافظات، لماذا يريدون الممثل الجاهز والذي امام اعينهم، هذا الهم يحمله كل ممثلي المحافظات ويتمنون لو ان الضوء يسلط عليهم كي يرى الاخرون النتائج، ان هناك المئات من الفنانين الجيدين ولكن لا احد ينظر اليهم)، وكان رحمه الله على الدوام يناشد وزارة الثقافة للاهتمام بكل المحافظات العراقية لانشاء مسارح وقاعات واقامة دورات واي شيء يعزز من الحركة الفنية في العراق.
رحم الله عبد الرزاق سكر، رحم الله الفنان العفوي الكبير، رحم الله ابا عماد، ودمعة حزن ترافقها حسرة على غيابك، فمن المؤسف ان لا نراك في بغداد مجددا.
التعليقات