ربما لم اكتب عن فنان بسرور و بقناعة بقدر ما افعله الآن عن جودت حسيب. فنادرا ما وجدت بين الفنانين من يمتلك هذا القدر من الاندماج مع فنه. فكرُهُ و شخصُه يدلان على فنه و فنُه بنفس القدر يدل عليه. يشكل جودت حسيب منظومة متكاملة من البناء الفكري و الفني، فأفكاره كما فنه لا تشوبهما مواربة، كرس فنه للحب و الجمال و الدعوة الى التسامح. و بما أن المساوئ كما الفضائل مرهونة بظرف تاريخي و تتنافسان على الصدارة، و بما أن الكراهية و المواربة هما اللتان تتصدران قائمة المساوئ في عالمنا الراهن، فقد وجدت في فنه الواضح الداعي للمحبة فسحة لكي اتنفس هواء نقيا و انفتحت امامي عوالم من الوضوح و الجمال.
تعرفت عليه في المعرض المقام بمناسبة انعقاد لقاء منظمات حقوق الانسان العراقية في برلين في تشرين الثاني/ نوفمبر 2014. في هذا المعرض قدم الفنان العراقي المغترب جودت حسيب لوحة ملفتة، محتوىً و اسلوبا، مثلت شكلا تأمليا لمقتبسٍ من جلال الدين الرومي "دين الحب لا مذهب له". من خلال هذه اللوحة وجدت أنها ليست لوحته الوحيدة الداعية الى المحبة أو المتمثلة لكلمة "حب" بل مترادفاتها، بل إنه كرس نفسه منذ سنين لأعمال مشابهة، و وجدت انه يفكر مثلما يرسم، فلا مكان في نفسه للضغينة.
أسلوبا قامت اللوحة المنفذة على ورق الفبريانو و بخط الثلث على مستويين، الأول: الكتابة باللون بطريقة تشبه التكسرات الصَدَفية بألوان اللازورد، الاسود و الذهبي نفذت كما يبدو بسكين الرسم.
المستوى الثاني، الذي شكل الخلفية، يمثل كلمة "عشق" و قد كتبت مرتين و بخط الثلث ايضا، الاولى أسفل اللوحة و كما هو مألوف من اليمين الى اليسار، الثانية في اعلى اللوحة مقلوبة إلى الداخل، كما لو كانت انعكاسا للأولى في مرآة، لكن حرف العين يكون مقابل القاف في الحالتين و يتقابل حرفا الشين في الوسط. كلمتا عشق، و قد تقابلتا، باتتا أشبه بكفين رءومين مفتوحين بكرم يحملان برفق عبارة "دين العشق لا مذهب له" تقدم لنا كمشاهدين و بمودة اقتراحا بالمحبة، فيما امتدت "عشق" مهتدية بمدلولها بانسيابية و تداخلت و تعاشقت بتواضع مع العبارة الاولى المنفذة بالألوان دون أن تزحمها أو تُربك البناء، إذ نُفذت دونما لون، بالخط البارز (الرليف) فكانت من التواضع بحيث جهدت أن تكون غير مرئية، بيضاء نقية لا يشي بها غيرُ انكسار الضوء الساقط عليها من الجوانب، و لسوف تبدو بطريقةٍ ما خفيةً بسطوع الضوء المباشر، مُخلية الطريق للجملة الرئيسية.
يحدثنا جودت حسيب عن تقنياته: انقع ورق الفبريانو بالماء و اتركه يجف قليلا فيكون رطبا اضغطه على قالب محفور يحمل العبارة التي اود اظهارها (هنا "عشق" كما يشاهد القارئ في الصورة المرفقة)، ثم بعدها اكتب بالألوان المستوى الثاني.

ترادفَ المحتوى فترادف الشكل
أدنى اللوحة اعلاه نجد كلمات عربية بالحروف اللاتينية شكلت بناء اللوحة فيما يقابلها باللغة العربية: حب، الفة، غرام، مودة. و في نفس المكان نجد ايضا اشارة الى انها من مجموعة اعمال " الحب ضد العنف". لو فككنا العمل، و عدنا به القهقرى قبل أن ينجز و هو مازال مشروعا يُشغل بال الفنان سنجد هذه الكلمات منثورةً بالمئات كخيار امامه، في ذهنه او على منضدة عمله أو مخزونة على حاسوبه، يمكنه ان يبعثرها عشوائيا على سطح القماش و يمكنه أن يسير على خطا (ديغا) الذي يخطط للوحة، كما يقول، كما لو كانت مؤامرة، مهتديا بصرامتة. نلاحظ انه يفعل كل ذلك بدراية و صرامة تصميمية و يقوم قبل هذا بمهمة التأسيس، أي أنه يؤسس لشكل كما لو كان من العدم فلا وجود للموديل لكي يسير على خطاه انما هو تكوين ذاتي مطلق.
&نعم إنه يجد امامه شكل الحرف المُؤسسِ قبله و لكن هذا لا يحل المشكلة الاكبر التي تشغل ذهن الفنان التشكيلي "التكوين"، فالتكوين أو بناء العمل من عناصره الاولية هو الاكثر صعوبة دائما، فكل ما يتعلق بالفن التشكيلي هو انعكاس لواقع ما، تتوفر عناصره و خيارته و تبقى المهمة الاصعب ربط هذه العناصر مع بعضها بتناغم. نجد هنا في مركز اللوحة شكلا مستطيلا ممتدا من الاعلى الى الاسفل يمثل انثيالا لكلمات تدل على الحب و مترادفاته متعاشقة و متداخلة مع بعضها في وحدة تشكيلية بالأبيض على خلفية سوداء مطرزة هي الاخرى بكتابات رمادية.
لقد تزاوجت في هذا العمل و في اعمال اخرى امكانياتٌ تقنية و ممارسات فنية مختلفة و متآصرة مارسها جودت حسيب في حياته: البوستر، التصميم، الخط العربي، الفن التشكيلي، مضافاً لها خيار فكري حاسم و هادٍ، فقد عمل في السنوات من 1984 - 91 : رئيسا لقسم التصميم في دار الثقافة التابعة لبلدية مدينة موستوليس (اقليم مدريد)، ثم بعدها عمل كمصمم في مشغله لسنوات عدة.
الانتقال من الأسود/ الخلفية الى الابيض خُفف بكتابات رمادية مثلت انتقالة ذات مستويات ثلاثة: الخلفية السوداء، ثم المستوى الاول الرمادي ثم كتابات متداخلة بالابيض، فيما "حب" و "مودة" في اعلى العمود الابيض تخرج عن القاعدة بلوني البنفسج و اللازورد بتخطيط محكم لإخراج العمود الابيض عن سكونيته و انقاذه من اي شكل من اشكال الرتابة، فيما الالفة بالاحمر و الغرام بالاخضر تشذان عن القاعدة الرمادية. تمثل اللوحة بناء مركبا غاية في التعقيد و لكنه في نفس الوقت غاية في الانسجام.
يستخدم جودت حسيب المترادفات الدالة على الحب، يكتب: "هكذا ابتدأت أولا بالبحث في الذاكرة وفي مصادر اخرى عن المترادفات العربية لـ الحب وما يحيطه فوجدت التالية : حُب (ككلمة جامعة)، مَوَدّة، هيام، ألفة، غرام، دَلَه، وصال، تَيْم، ود، عشق، صبابة، هوى، إلف، وَلَه، شَغَف، كَلَف، محبّة، وَجْد، وداد، (ولابد ان هناك اكثر) وجعلت من هذه المرادفات مضمونا لعدة اعمال"
&يواصل " اختياري لمضامين اعمالي وقع على ما يتناقض تماما مع كل ما يحدث من عنف : الحب بكل مفاهيمه التي تؤدي دون شك الى احترام الآخر، الاقتراب منه كمماثل، التفاهم معه حتى وإن اختلف في ما هو مذكور آنفا".
هذه الرصانةُ الفكرية قادته، في خضمٍ متلاطم لعالمنا و وطننا الذي يشهد تصاعد الكراهية و انكار الآخر، للبحث عما هو مخزون و لكنه مغفل في تراثنا، مرتكزات فكرية بسيطة لا تتضمن تفاصيل و لا بنية آيديولوجية أو أية تعقيدات و لكنها بالقدر نفسه صعبة كنهج " المحبة و التسامح"... يكتب: " كل هذا دفعني الى البحث في قواميس أخرى : قواميس المتنورين ضمن تراثنا العربي – الاسلامي فوجدت فيها من كان متقدما قبل قرون عديدة بأشواط كثيرة على "الثقافة" الحالية السائدة في بلداننا. كان المفروض – حسب التطور الحضاري المتعارف عليه – ان يكونوا متخلفين، ولكن كان العكس."
"فإبن حَزم الاندلسي... بالاضافة الى علومه الغزيرة ومؤلفاته العديدة، كرّس كتابا كاملا عن الحب أسماه "طَوق الحمامة"... محيي الدين ابن عربي... كان متصوفا لقّبه اتباعه وآخرون بـ "الشيخ الأكبر"... له قصيدة عظيمة مشهورة يحتضن فيها كل الانسان ليعتبره أخاً مساويا له إذ يقول : " لقد كنتُ قبل اليوم أنكر صاحبي إذا لم يكن ديني الى دينه داني / فقد صار قلبي قابلاً كلَّ صورةٍ، فمرعىً لغِزلانٍ، ودَيرٌ لرهبانٍ... أما مولانا جلال الدين الرومي...فقد كان متصوفا ايضا. أستل من اقواله ما يقترب كثيرا من كلام ابن عربي إذ يقول : " مسلمٌ أنا ولكني نصرانيّ وبرهميّ وزرادشتيّ، توكلتُ عليكَ أيّها الحَقّ الأعلى فلا تنأ عنّي، لاتنأ عنّي. ليس لي سوى معبدٌ واحدٌ، مسجداً كان أو كنيسة أو بيت أصنام".
يلح المحتوى على الفنان ليبحث عن اكثر اشكال التعبير تواؤما مع المحتوى/ المغزى. اعتماد الحب بكل مترادفاته كمضمون يسوقه بالحاح للبحث دائما عن الشكل الذي يتناسب معه و بمترادفاته ايضا، فنجد في لوحاته: النقاء، التوازن، الموسقة، الايقاع، التناغم، التلاؤم، الانسجام... و هكذا فرضت مترادفات المحتوى مترادفاتٍ في الشكل ايضا، فعلى غرار ما صار اليه من مترادفات الحب صِيرَ به إلى مترادفات الشكل.
ثم ما نلبث أن نجده يخرج من البناء المعقد الى تكويناتٍ اكثر بساطة تتوفر على فضاءات اوسع. الحرف مقرّبٌ مقطوع، الجملة غير تامة، الحرف في كامل اناقته، مقطع من واو، قاف او فاء. ففيما يكون مقطع الحرف بالاسود، نجد إنه رسم فيه أو عليه حروفاً متداخلة بايقاع شكلي و لوني، فيما خارج مقطع الحرف الاسود تكون الخلفية المحيطة بيضاء، و لكنها ليست سلبية غير فاعلة انما انطوت على تلميحات في الشكل او الحرف خفف من درجة التضاد اللوني و اضفى هارموني على كامل التكوين.

الكوفي و الحواف الحادة
استعمل جودت حسيب الخط العربي الكلاسيكي في الغالب كوحدات تكوين و لكنه خرج بالتكوين الى شكل مُؤسس و خاص من التحديث مبتعدا عن التكرار واضعا بصمة خاصة. يقول " اعترف بأن ممارسة الرسم والتصميم جعلتني غير ميّال الى الخط بالقصبة والحبر على الورق، فأساتذتنا وأساتذة أساتذتنا انجزوا اعمالا رائعة وخالدة بهذه الطريقة، والاستمرار على منوالها سوف لن يكون اكثر من محاكاة لأعمالهم. لكنني كرسام ومصمم أجد ان اللون يجب ان يصاحب الحرف، والتصميم يجب ان يجعل إنشاء العمل متماسكا ومتماشيا مع النزعات الحديثة في الفن التشكيلي مع الاحتفاظ بمقوّمات الخط الكلاسيكي."
و رغم ان لوحاته تشي بأنه مغرم بتدويرات الحرف العربي و خصوصا في خط الثلث أو الاجازة الا ان هناك العديد من الاعمال التي انجزت بالخط الكوفي بحواف حادة مفاجئة و لكنه حتى في مثل هذه الحالات رسم الخط الكوفي بألوان متألقة متناغمة و لكن على خلفية من الرمادي و الاسود مثلت تداخلات لحروف و كتابات رمادية على خلفية سوداء بخط الثلث لا تزاحم البنية الرئيسية كما لاحظنا في عمله الاول و لكن بطريقة اخرى و انما على العكس تعزز كامل البنية مضفية عليها تدرجا.

من هو جودت حسيب ؟
&رسام، مصمم و خطاط، ولد في الموصل عام 1943، حصل على الدبلوم من معهد الفنون الجميلة في بغداد، درس سنة واحدة في اكاديمية الفنون في روما ثم دراسة حرة في المدرسة العليا للفنون في مدريد، اشتغل في التصميم في العديد من المؤسسات العراقية قبل أن يهاجر و يستقر في أوربا 1976. عمل في اسبانيا رئيسا لقسم التصميم في دار الثقافة التابعة لبلدية مدينة موستوليس في اسبانيا ثم واصل عمله في مجال التصميم في مشغله الخاص و عمل منذ 2006 كفنان متفرغ كرس اعماله للخط العربي الكلاسيكي بأساليب حديثة. شارك في العديد من المعارض الجماعية في العراق و بيروت و موسكو و المعرض المتجول في الدول الاشتراكية، ايطاليا و اسبانيا، شارك في معارض للبوستر منها البينال العالمي الثالث للبوسترات – وارشو (بولندا) و في دول اخرى منها سوريا، بلغاريا، المغرب و اسبانيا و معارض للخط العربي في الشارقة و سويسرا. اعماله مقتناة في العديد من الدول و قبل أن يغادر العراق شغل موقعه في العام 71 كنائب رئيس جمعية الفنانين العراقيين. ثم في العام 1974 كسكرتير عام جمعية الفنانين العراقيين.
برلين في 26 ديسمبر/ كانون الاول 2014
&