يشترك مارسيل بروست مع ريتشارد فاغنر في ان كل منهما ابدع عملا اشتهر عالميا من السعة والعمق بحيث يتردد الآخرون في استطلاعه. ولكن التعقيد والغموض يجب ألا يكونا عقبة أمام الاستشكاف الفكري لا سيما عندما تكون النتيجة متعة وتنويرا بالحجم الذي يقدمه هذان الفنانان. تعتبر حلقة فاغنر التي تستمر زهاء 16 ساعة من الدراما والموسيقى في اربع اوبرات منفصلة من أكبر المنجزات الموسيقية ومن أكثرها متعة. وكذلك سلسلة الروايات السبع لعمل بروس "البحث عن الزمن المفقود" التي يصفها الكاتب البريطاني سايمون هفر بأنها "افضل عمل روائي كُتب بأي لغة"، من يقرأه يتغير فهمه لطبيعة الواقع والعلاقات الانسانية.
كتب بروست الروايات السبع بين 1909 ووفاته في عام 1922 عن 51 عاما. ويتساءل المرء عما كان سيحققه لو عاش عمرا طبيعيا. وكان بروست بمعنى ما ضحية متأخرة للحرب الفرنسية ـ البروسية في 1870 ـ 1871. إذ ولد بعد فترة وجيزة على رفع الحصار عن باريس لأم لم تنفعها ثروتها الطائلة في تلك الظروف في إيجاد ما يمسك رمقها خلال فترة الحمل. فولد طفلها ضعيفاً حتى انها خافت ألا تُكتب له الحياة. وكان بروست معتل الصحة طيلة حياته وتفاقم اعتلال صحته بوسواسه الشديد بالمرض.
يروي جورج بنتر في سيرة حياة بروست التي كتبها قبل أكثر من نصف قرن عن حفل زفاف روبرت شقيق بروست في عام 1905 ان روبرت قرر الزواج في الشتاء الذي كان بروست يقول انه الفصل الذي يجعله فريسة كل مرض موجود في باريس. ولحماية نفسه من الاصابة بالزكام طلب من خياطه ان يصنع له عدة معاطف ارتداها معطفا فوق آخر كالدمية الروسية المؤلفة من دمية داخل دمية حتى ان حجمه اصبح كبيرا لم يتسع له ممر الكنيسة حيث أُقيمت مراسم الزواج. والمفارقة ان هذا النمط من الحساسية اللامعقولة هي التي تجعله روائيا عظيما، كما يكتب هفر في صحيفة الديلي تلغراف.
ترسم روايات بروست صورة العالم الذي نشأ فيه. إذ كان والده طبيباً معروفاً في فرنسا حيث جرى تكريمه على عمله. وهو الذي اخترع "طوق الحَجْر الصحي" الذي أسهم في منع انتشار الكوليرا ، تلك اللعنة الذي ابتلت بها كل المدن الاوروبية في القرن التاسع عشر. وكان آل بروست يخالطون الارستوقراطية ونخبة باريس الفنية ، وحين بدأ بروست ينشر رواياته قبل الحرب العظمى مباشرة حاول افراد حلقته ان يجدوا أنفسهم بين شخوصها. وجُرح البعض بتصويره لهم واستاء البعض الآخر لعدم تصويره لهم في رواياته.
تأثر كتاب في سائر انحاء العالم تأثرا عميقا بروايات بروست التي أوجدت فكرة الكتابة عن "تيارات الوعي". ومن خلال راوي بروست الحاضر في كل مكان لا تنقل روايات بروست تفاصيل ما يمكن اداركه فحسب بل وما يمكن تذكُّره ايضا ، والعلاقات المتكررة والدائمة بين الادراك والذاكرة. وحتى مَنْ لم يقرأوا رواياته على دراية برحلة الذاكرة التي يُقدم عليها الراوي عندما يتذوق طعم كعكة المادلين المغموسة في الشاي التي اصبحت "اللحظة البروستية" ، على حد تعبير الكاتب هفر. البعض سيرتدع من قراءة عمل بهذا الحجم الضخم الذي لا يبدو ان فيه الكثير من الاثارة ولكن الاثارة فيه دائمة ، توصف بأدق تفاصيلها. فان دراسته للشخصيات دراسة متميزة ـ ليس دراسة ارستوقراطيين متغطرسين فحسب بل استعراضيين تافهين وخدم مستغَلين ومنارات للرحمة والانسانية في ما يبدو عالماً بلا رحمة ولا انسانية في احيان كثيرة. وكانت الفترة التي يكتب عنها بروست فترة غليان عظيم في فرنسا بخلع من ولدوا مرفهين في هذا العالم بعد سقوط النظام الملكي البونابرتي في عام 1870. ويتناول السرد الحدث الفاصل في تلك الفترة من تاريخ فرنسا وهو قضية دريفوس. إذ كانت أم بروست يهودية ورغم تنشأته الكاثوليكية فانه سبح ضد التيار بدفاعه عن دريفوس. وتُختتم الاثارة بالحرب العظمى التي يصورها بروست على انها عالم آخر بالكامل. ويرى هفر ان من الاسباب الكثيرة لقراءة هذه الروايات ، الصورة التي ترسمها لـ"العصر الجميل" في فرنسا ، ذلك العالم الذي دمرته الحرب الى الأبد.

&