تبدأ رواية "الواحد والعشرون" للكاتب توميسلاف عثمانلي في زمن الحرب في مقدونيا، حيث شهدت الحروب الأهلية أثناء وبعد انفصال دول جمهورية يوغوسلافيا السابقة "كرواتيا - سلوفينيا - مقدونيا - البوسنة والهرسك - صربيا - الجبل الأسود" جرائم حرب وحشية مثل التطهير العرقي وانتهاك قوانين الحرب كما حدث في البوسنة والهرسك، وأنواع من التعذيب ضد السكان العزل في معسكرات الاعتقال، واستخدام المعتقلين دروعًا بشرية أثناء القتال.
&بطل الرواية عالم عجوز يبحث عن ممرات سرية تصل عالم الأحياء بالموتى. و"جوردون" خبير كمبيوتر شاب، وحبيبته "مايا"، طالبة الدراسات العليا في نظرية الأدب. كلاهما بلا عمل، يذهب كلاهما لبلدٍ مختلفة، هو إلى فيينا للعمل وهي إلى نيويورك للدراسة. لكن "جوردون" تواجهه العديد الأحداث الغريبة، بدءًا من ركوبه القطار الذي سيحمله إلى وجهته وانتهاءً إلى وصوله إلى فيينا. الشخصيات التي يقابلها في القطار، ليست من عالم الأحياء، القطار نفسه لم يعد القطار نفسه الذي ركبه في البداية. أمَّا "مايا" التي ذهبت إلى نيويورك للدراسة، فتواجهها صعوبات كثيرة وشعور بالذنب لا تستطيع التخلص منه. وفوق كل هذا انفجار برجي التجارة العالمية، وأثره الذي امتد ليشمل العالم أجمع. والمميز بهذه الرواية هو أنها تدخل بنا في حياة كل من بها، نقترب من جميع الشخصيات ونعرف دواخلهم وما يشعرون به وما يرون به في حياتهم اليومية.
الرواية التي صدرت عن دار العربي بترجمة هند عادل هي الأولى تدور أحداثها في الفترة الانتقالية بين القرنين العشرين والواحد والعشرين. وتصور الفجوة الفكرية الفكرية بين جيلي الشباب وكبار السن. كما تصور تدهور أحوال دول يوغوسلافيا السابقة بعد تفككها بسبب الحروب الأهلية الناجمة عن تعدد العرقيات.
ولد توميسلاف في بيتولا في مقدونيا، وتخرج من كلية الحقوق، وعمل بالصحافة والكتابة في وقت فراغه. هو كاتب سيناريو وكاتب مسرحي وناقد فني وصحفي وكاتب مقال. عمل ناقدًأ فنيًأ لمدة تزيد عن عشرين عاما، وتولى منصب رئيس التحرير لبرنامج "الفن والثقافة" في قناة تيلما المقدونية منذ ثمانية عشر عامًا وحتى الآن. وهو أول من ألف كتبًا مقدونية عن فن السينما والقصة المصورة. فاز بالعديد من الجوائز الفنية والمختصة. كتب 22 كتابًا و11 مسرحية، كما نشر العديد من المقالات والقصص القصيرة.
وقد أشارت المترجمة إلى أن توميسلاف عثمانلي يفخر بكونه تتلمذ على يد والده الراحل ديميتري عثمانلي الذي عوده على البحث والقراءة منذ سن الثانية عشر. والده هو أول مخرج مسرحي وسينمائي مقدوني، وأول أستاذ في كلية الفنون المسرحية وأول عميد لها. كما أخرج أول دراما تيليفزيونية مقدونية. كان كاتبًا مسرحيا وسينيمائيًا وممثلًا. وصف والده بأنه كان رجلًا نشيطًا ومسؤولًا ومنظمًا، كما كان شديد الذكاء وفكاهيًا. درس في باريس وبيلجراد وسافر إلى روما. أعطى محاضرات بالفرنسية والإيطالية.
وقد اشترك الأب ديمتري والابن توميسلاف في العديد من الأعمال. أخرج ديميتري ثلاث من مسرحيات توميسلاف. وكتب توميسلاف نص فيلم تيليفزيوني بعنوان طأحلام سكوبيه" وأخرجه والده ونال جائزةً عليه. وتأثر توميسلاف بأسفار والده وإتقانه عدة لغات، وظهر ذلك في روايته التي تحدث وقائعها في عدة بلدان وشمل نضها العديد من اللغات المختلفة. كما أن شخصية أستاذ الجامعة في الرواية تشبه إلى حدٍ بعيد شخصية والده من حيث شغفه بعمله وثقافته ودقة ملاحظته.
&
وقالت هند عادل أن الناقد الكرواتي بوزيدار نشر مقالة عن الرواية بعنوان "الحياة على حافة القرون". كشف خلالها تجليات الرواية وما تحمله من رؤى تخص مقدونيا، قال أنها نقد اجتماعي ورؤية عالمية. صنع توميسلاف رواية مركبة تجسد فوضى الحياة مع تغير الألفيات". &وأضاف أنها رواية غنية ومتقنة الكتابة. كما أن المؤلف استطاع التحكم بمسارات الرواية المتعددة كل على حدى مما خلق سير الأحداث. وهي خامس رواية مقدونية تنشر في صربيا على مدار الخمس عشرة عامًا الأخيرة.
&
وحول فكرة الزمن في الرواية لفت إلى أن الزمن بالنسبة للبشرية معناه تقدم وتطور واستمرارية، لكن بالنسبة لمقدونيا معناه نقطة الصفر عند الحروب والدمار والانهيار. مما يعني أن الزمن نسبي فهو يعتمد على شعورنا به ونظرتنا إليه.
نسبية الزمن تذكرنا بألبرت أينشتين ونظرياته عن الأبعاد ونسبية الزمن واختلافه من مكان لمكان. هذا الموضوع يثير عقل القارئ ويضيف تشويقًا على الرواية. ذكرت الرواية نظرية شعب المايا عن الزمن، وأن الدورة الماضية التي انتهت عام 2012 استمرت 26 ألف سنة وقد ينتهي العالم أو تبدأ دورة أخرى. لكن ذلك الموقف ذكر العالم بالترقب الذي شعر به أثناء عبور الألفية الجديدة. فالبعض شكك أنها نهاية العالم.
&
ورأى فيما يتعلق بفكرة الأجيال أن المعايير الأخلاقية في مقدونيا اختلفت بين الشباب وكبار السن. الجيل القديم كان متمسك بالتقاليد والأخلاق ويشعر بالانتماء لوطنه وشعبه بغض النظر عن السلبيات والحروب، ويرغبون في الاستمرار على ما تعلموه. أما الصغار فيتمردون على التقاليد وما اعتادوا عليه نظرًا إلى ما لاقوه من ويلات الحرب. فالجيل السابق هو من أشعل الحرب لذلك ربط الشباب بين التقاليد والأخلاق وبين الحروب والاضطراب. رفض الشباب الانتماء إلى بلدهم وشعبهم، فهم لم يجدوا ما يستحق الفخر أو الانتماء. رغب الجيل الجديد بالهجرة والبحث عن مستقبله في بلادٍ أخرى، مثال على ذلك سفر مايا للدراسة في أمريكا بصفتها بلد الفرص والأحلا، وسفر "جوردن" اليومي للعمل في النمسا.
&
وأشار إلى أن تعدد الأماكن في الرواية نتيجة لأن أحداث الرواية تقع في عدة بلدان منها أمريكا ومقدونيا والنمسا. كما يعود هذا التعدد إلى الشعور بالتشتت وعدم الانتماء، فالشخصيات لا تشعر بأن لها وطن مستقر تأمن فيه. مقدونيا هي البلد التي انطلقت منها أحداث الرواية وتم ذكر عدة أماكن فيها، لاحقا انتقلت الأحداث إلى أمريكا التي تجسيدا مناقضا لمقدونيا، فأمريكا اشتهرت في مطلع الألفية الجديدة بأنها أرض الفرص لذا كانت حلمًأ للشباب الذي أرهقته الصراعات.
ولفتت الناقد الكرواتي إلى أن مقدونيا تتكون من عرقيات مختلفة منذ كانت جزءًا من حكومات أخرى مثل الدولة العثمانية وصربيا وأخيرًا الاتحاد اليوغوسلافي. لذا من الطبيعي أن شعر الشعب بالارتباك بسبب وجود معايير وصفات مختلفة لكل عرق. كما أن هجرة الشباب زادت من هذا الشعور، فقد كانوا غرباء في بلادٍ غريبة. عجزوا عن التأقلم، فهم يرفضون تقاليدهم لكنهم في الوقت نفسه عاجزون عن استيعاب الأمور الجديدة والمختلفة، مثال هذا في الرواية هجرة مايا إلى أمريكا وشعورها بالضياع والوحدة.
وأكد أن ثمة تعدد اللغات في الرواية يشير أيضًا إلى تشتت الهوية. استخدمت الرواية حوالي سبع لغات مختلفة على لسان الشخضيات: سلوفينية ومقدونية ويونانية وتركية وألمانية وفرنسية وإنجليزية.
وقال "ينظر الناس للشعوب والإمبراطوريات القديمة نظرة تعظيم وإجلال، فقد اتسمت بسعة أراضيها وقوة جيوشها وسلطتها. لذلك ربط الناس بين المجد وبين الماضي. في الرواية كان البروفيسور كليمنت كافاي يبحث في تراث الماضي عن دلائل لمستقبل أفضل.اعتمد بحث البروفيسور طوال الرواية على إيمانه الراسخ بأن القادم أفضل ولا شك. ظهر في الرواية أيضًا أطياف رموز بارزة أثرت الفكر مثل سيمون دي بوفوار وسارتر وقسطنطين ملادينوف الأديب المقدوني الشهير، وكأن تلك الشخصيات أتت من الماضي لإعطاء الأمل للبشرية.
&
الفصل الأول من الرواية
زحف الغروب على الجبال في "سكوبيه" عاصمة مقدونيا، في الوقت الذي أسرع فيه "جوردن كويف" لاهثًا إلى الصالة الكبيرة في محطة القطار. أمَّا المبنى المكون من المعدن والزجاج الملون كان معرضًا لحرارة يوليو الحارقة، وقد صار الآن قذرًا بشكلٍ رهيب. انبعثت رائحة أمونيا قوية من خلف أبواب حمامات المحطة المتهالكة. في الواقع، يبلغ عمر المحطة الجديدة عقدين من الزمان، وهي مكونة من طابق أرضي يعلوه طابقًا آخر تحت مستوى الأرصفة. تقع المحطة في تلك المدينة المتهالكة، فتمتد قضبانها الحديدية على أعمدة خرسانية ضخمة مفرقة بين المنازل الصغيرة. أمَّا مدخلها فيقع على الطريق الأساسي المؤدي إلى المركز. وكما هو الحال دائمًا مع الطرق المزدحمة التي تخنق المدن مترامية الأطراف، يمتد هذا الطريق أسفل بوابات محطة القطار الخرسانية الضخمة واصلًا بين قسمين في تلك المدينة غير المتناسقة والمترامية لتلك الدولة الصغيرة. على هذا الطريق يتحرك المرور البطئ للمدينة، كأنه وريدٌ متورمٌ ينبثق من أعمدة المحطة المعلقة. حافلات حمراء قديمة تنشر التلوث الخانق، تسير في فصل الصيف فاتحة أبوابها التي تعمل بالضغط الهوائي. سيارات عتيقة ذات إطارات ملساء، وهياكل وأرضيات صدئة. مواكب مسرعة من الجيش والشرطة، وأيضًا سيارات الدفع الرباعي السوداء الضخمة الخاصة بحديثي الثراء.
بدت المحطة غير ملائمة مع ما يحيطها، ولا عجب في ذلك فقد بُنيت خلال موجة من الحماس لمستقبل استمد أفكاره من التخطيط الحضري الياباني الذي ظهر عقب الزلزال الذي أصاب المدينة في نهاية يوليو 1963، ذلك الزلزال الذي أودى بحياة العديد من مواطنيها وتقريبًا جميع مبانيها المهمة. غيَّرت عملية إعادة الإعمار شكل المدينة بطريقة مؤسفة تمامًا. تدمرت معظم أجزاء محطة القطار القديمة أثناء الكارثة وتم بناء المحطة الجديدة في موقع جديد. ما تبقى من المحطة تم استخدامه نُصبًا تذكاريًا للزلزال مع ساعة ضخمة على واجهته الرخامية، تشير عقاربها إلى وقت حدوث الكارثة في 5:17 صباحًا. اكتملت المحطة الجديدة بعد ذلك بعدة سنوات، معلقة على صف من الأعمدة الخرسانية بطول كيلومتر وتبدو كالدودة من بعيد. أخذ عدد القطارات التي تصل للمدينة – أو للدقة تعبر فوقها - &يقل شيئًا فشيئًا مما جعلها تخدم فقط عددًا محدودًا من المناطق المحلية وفقط الخطوط الدولية الأساسية المهمة. صارت المحطة وقضبانها الممتدة الآن مجرد ذكرى ضخمة، ذكرى للحلم بأن تنهض مدينة أكثر جاذبية وتحضرًا بعد الكارثة التي وقعت، مدينة تلد سكانًا أكثر سعادة وعصرية. والآن يجري السخام في المدينة المتهدمة والمتهالكة أسفل المحطة. يجري في اتجاهين: أحدهما إلى وسط المدينة والآخر إلى الضواحي، ناحية بيت "جوردن كويف". لكن قبل اكتشاف أسباب إسراع الشاب نحو المحطة نود أولًا أن نتحدث قليلًا عن الضاحية التي غادرها الشاب للتو.
كان يُطلق على تلك الضاحية اسم "غرفة نوم المدينة" لأن آلاف الآلاف من سكان المدينة كانوا يقضون ليلتهم فيها ثم يغادرون في النهار من خلال أعمدة المحطة وكأنهم يدخلون البوَّابة الخرسانية للمدينة في نهر من السيارات والحافلات المتجهة إلى وسط المدينة. وفي الظهيرة يعودون لبيوتهم بعد قيادة طويلة في الطريق المزدحم نفسه وقد صار ذلك سمة أساسية تحدد نمط أيامهم وحياتهم بمرور الوقت. صار اسم تلك الضاحية المكتظة الآن "إيرودروم" (Aerodrom) ومقطع (إيرو/aero) يعني هوائي، ويرجع ذلك الاشتقاق إلى استخدام المنطقة ميناء جوي فيما سبق. لكنه اختفى منذ زمن، وتم تجاهل المنطقة. نمت الأعشاب الضارة في الحقول الشاسعة، وأُهملت النجيلة ونباتات السرخس. ثم بعد الزلزال انتشرت المآوي الخشبية الجاهزة واحدًا تلو الآخر، ثم المباني السكنية. وهكذا أصبحت المنطقة حضرية مأهولة بالأزواج الشباب الذين تمثلت آمالهم في مستقبل أفضل في شققهم الجديدة تلك.
لاحقًا بربع قرن تقدَّم العمر بهؤلاء الشباب. كان والدا "جوردن" من سكَّان الضاحية المعروفة بـ"غرفة نوم المدينة" التي شهدت يومًا أزواج الجيل الجديد المقيمين حديثًا بنضارتهم وحيويتهم. تبادلوا الحب وأنجبوا أطفالًا يشتعلون حماسًا، إنهم نفس الأزواج الذين يأوون إلى فراشهم الآن وهم يتذكرون الماضي، ويعانون من صداع سن اليأس وآلام الظهر. تلك الضاحية التي شهدت طفولة "جوردن" المرحة تحوَّلت الآن إلى واجهات مباني متهدمة لم يعاد طلاؤها قط، خلف تلك الواجهات حياة أناس يختبرون معاناة منتصف العمر.
الخلاصة هي أن محطة القطار الجديدة تلك كانت بمثابة بوَّابة يجب أن تعبر من خلالها الحياة في ذلك الجزء من "سكوبيه". كانت "إيرودروم" أشبه بالقلب النابض لتلك المنطقة الحضرية، يضخ الدماء لأعلى ثم الأسفل وللأمام ثم الخلف مصدرًا صوت النبض الرتيب البطئ الموجود لدى أي عضو حي، وقد بدا ذلك لـ"جوردن" متعبًا ومرهقًا.
وهكذا في منتصف صيف 2001 دخل "جوردن كويف" المحطة مصممًا على إنهاء ذلك التيار الرتيب، كما ظل يقول طوال الاشهر الأخيرة لـ"مايا" التي يحبها بالطبع وربما تبادله الشعور نفسه لكنه لم يستطع التأكد من ذلك أبدًا. أحب ذهنها الحاد وذكاؤها، كما أحب ملامحها المتناغمة بشفاهها الواثقة وعينيها الزرقاوين، ونظراتها اللامبالية، نهديها المستديرين وحلمتيها الصغيرتين الشبيهتين بتوت العليق، لطالما أحب مداعبتهما بعينيه وبأصابعه. الطريقة التي تقبّله بها وتجذبه نحو قبو منزلها أسفل تلك السلالم العشرة تخلق ملجأ وهميًا حين يظهر ظل داكن لأحد السكان وهو ينزل السلالم أعلاهم وحين تضاء أنوار المبنى. في تلك الأوقات يستندان إلى الحاجز الحديدي لباب القبو وتصل إليهم رائحة الرطوبة، فيكتمان أنفاسهما بانتظار جيران "مايا" الصاخبين كي يدخلوا أو يخرجوا من خلال أبواب المدخل الأمامية. ينتظران حتى يغادر الجيران وتهدأ الأمور مجددًا وتنطفئ الأنوار الأوتوماتيكية كي يعاود تقبيل نهديها العاريين النضرين.
أخبر "مايا" أنه ضجر من كل هذا، من تلك المدينة المنهكة، من تلك الدولة الخاملة التي تنتظر معجزة لكنها لا تبذل أي جهد في صنعها، من بطالته، من برامج الكمبيوتر التي يصممها ويضطر لبيعها بثمن بخس بينما شركات البرمجيات تجني المزيد والمزيد من الأرباح، من والديه اللذين يستمران بسؤاله متى سيتزوج، من خطتهما لتحويل الشرفة إلى غرفة أخرى في تلك الشقة الصغيرة، من ممارسة الحب السريعة في الممرات أو على ترابيزة الحساب في محل البقالة المظلم الخاص بوالده إن سنحت الفرصة، بعد أن يحركوا آلة الطباعة الضخمة القديمة التي يطبع عليها والده الحسابات والفواتير والطلبات، كما يحرك أقلام الجاف والرصاص حتى يتم الأمر بهدوء وسط الأشياء العديدة التي يعج بها محل البقالة الموجود في الطابق الأرضي للبناية التي يسكن بها، ثم يعيد كل تلك الأشياء إلى مكانها بعد أن ينتهيا. لقد أخبر "مايا" بالفعل أنه لا يستطيع الاستمرار في هذا الوضع أكثر من ذلك.
كانت أحيانًا ترد عليه قائلة: "أين تظن نفسك بحق الجحيم؟ تتصرف كشخصية رومانسية مثيرة للشفقة!" كانت تشير بذلك إلى الصنف الأدبي الذي طالما عشقته أثناء دراستها للأدب المقارن، والذي جعلته موضوع رسالة الماجستير على الرغم من محاولة الجميع ثنيها عن ذلك قائلين أن هذا الأدب مبالغ فيه ومثير للشفقة وصار قديمًا بموضوعاته التي تدور حول الكوارث والخلاص عن طريق الشعور بـ"آلام العالم"، وكانت دومًا تحب أن تنطق هذا المصطلح باللغة الألمانية.
بعد أن تستمع إليه كانت توبخه قائلة: "أين تظن أنك تعيش؟!" بينما تنظر إليه بحيادية وكأن تحسراته المتكررة فشلت في الوصول لأذنيها. في نهاية تلك النقاشات التي تشارف على الجدال، كانت تقرر أن تجذبه من سترته إليها لجولة جديدة من القبلات التي تنسيه تعاسته، والقبو، ورائحة الرطوبة السائدة بينما يستسلم هو لملاطفاتها.
لكن بينما كان يصر على أن بداية القرن الجديد لن تشرق عليه في هذه المدينة المتداعية – تلك المدينة التي تنبعث فيها رائحة شجر الزيزفون شهرًا واحدًا فقط في العام بينما تنبعث رائحة القمامة طوال الأحد عشر شهرًا الباقية- وجد أخيرًا فرصة عمل. إحدى الشركات التي استخدمت برامجه سابقًا عرضت عليه أن يعمل بديلًا لإحدى مبرمجيها التي غادرت في إجازة أمومة، في الوقت الذي انهالت عليهم الطلبات لإجراء إصلاحات في الأنظمة التي أصيبت بـ"فيروس الألفية" (Millennium Bug). تحوَّل هذا الخوف إلى ذعر في نهاية العقد الأخير من القرن المنصرم. هدد فيروس الألفية ذاك بإحداث دمار في عالم الكمبيوتر في اللحظة والثانية نفسيهما في جميع أنحاء العالم. في منتصف ليلة 31 ديسمبر 1999 أي في اللحظة الأخيرة من العام، أو للدقة، أي في الانتقال الحسابي من القرن القديم إلى الجديد، ومن الألفية القديمة إلى الجديدة. تمت بحث مشكلة "عام 2000" (Y2K) ومناقشتها إلى حد الهستيريا.
رأى "جوردن" على شبكة الانترنت الاستثمارات الضخمة التي تقوم بها شركات المعلومات في محاولة شاملة لإيجاد حل لتلك القنبلة الزمنية التي ستنطلق عام 2000 (تعرف سنة 2000 لدى الغرب بـY2K &كاختصار) وذلك لتأمين الانتقال إلى العصر الجديد، العتبة الفاصلة بين النظام القديم وبين الفوضى المتوقعة. من الواضح أن المشكلة قد تحدث في الثانية الأولى من يوم الأول من يناير 2000 حيث أن جميع الآلات الإليكترونية مبرمجة على تسجيل فقط آخر خانتين من رقم العام بدلًا من الأربعة جميعها. ومع بداية الألفية الجديدة ستسجل الأجهزة عام "00" بالتالي سيظن الكمبيوتر أنها السنة الأخيرة من أي قرن سواء من الماضي أو الحاضر. وهكذا بدلًا من دخول عصر جديد ستعود الثانية الأخيرة من القرن الماضي بالزمن إلى 1900 أو 1800 أو 1000 أو أي سنة تنتهي بصفرين. استمعت "مايا" إلى تفسير "جوردن" بانتباه شديد. قال لها:
- إن الفارق بين الأول من يناير 2000 والواحد والثلاثين من ديسمبر 1999 يمكن حسابه بقرن كامل وليس يومًا واحدًا. إن الفيروس يهدد بإحداث الفوضى في كل الأنظمة التي تعمل بالكمبيوتر مثل الخدمات العامة، والإنتاج، والأنظمة المصرفية والمالية، والاتصالات عن بعد، وخطوط الطيران، كما يهدد بإخلال ليس فقط حساب الوقت بل أيضًا سيره المنتظم التقدمي.
لم تطرف عينا "مايا" وهي تستوعب تلك المعلومات التي يلقيها "جوردن" على مسامعها. قالت فجأة:
- أممم
ثم أضافت:
- هذا يبدو صعبًا للغاية.
&