ألمانيا هي بلاد الفلاسفة بامتياز. ومنذ القرن الثامن عشر وحتى هذه الساعة، ظلّت الأكثر اشعاعًا على العالم فلسفيّا. وفي التسعينات من القرن الماضي، أي في نفس الفترة التي كان فيها يورغن هابرماس يحتلّ مكانة بارزة في المشهد الفلسفي العالمي، برز بيتر سلوتردايك المولود عام 1947 ليتربّع ملكا على عرش الفلسفة الألمانيّة.

وكان كتابه الأول الذي حمل عنوان :"نقد العقل الكلبي" هو الذي أتاح له الشهرة الواسعة لا في ألمانيا وحدها، وإنما في جلّ البلدان الغربية، وحتى في اليابان والصين والهند، وبلدان أميركا الجنوبيّة.

وقد اعتبر يورغن هابرماس الكتاب المذكور "أهمّ حدث ثقافيّ وفكريّ عرفته ألمانيا منذ الحرب الكونيّة الثانيّة". وخلال العقود الثلاثة الماضية، أصدر بيتر سلوتردايك العديد من المؤلفات التي تطرح قضايا فكرية وسياسية عميقة ومختلفة. فقد كتب عن الفلسفة الكلبيّة في زمن الإغريق، وعن نيتشه، وعن التحولات التي تشهدها أوروبا الموحدة، وعن العلاقات الفرنسيّة-الالمانية، وعن الغضب في السلوك الإنسانيّ عبر التاريخ...

وفي كتابه الذي حمل عنوان:"الرمادي"، اختار بيتر سلوتردايك هذا اللون الحزين ليصف حضارة الغرب التي بلغت ذروتها فما عاد بإمكانها أن تقدم الجديد، وحداثة وما بعد حداثة أصبحتا معطوبتين وعاجزتين عن اضاءة الطريق، وعالما يتخبط في الاضطرابات والحروب والنزاعات المدمرة والقاتلة، وكوكبا أرضيا يعاني من التلوث من الاضطرابات المناخية، ويختنق بسبب كثرة عدد سكانه، وبما أفرزه التقدم الصناعي من غازات سامة...

ويرى بيتر سلوترديك أن الرمادي هو اللون المفضّل للتفكير وللفلسفة في مفهومها العميق. وهو يعتقد أن التكونولوجيا التي تفاخر بها الإنسانية راهنًا هي في الحقيقة "افراط وتضخّم في السحر". وأن الرمادي هو اللون الذي يليق بألمانيا الموحدة بعد أن تهشمت الأوهام والأحلام. لذلك كثرت السيارات الرمادية في ألمانيا بسبب الاقبال الكبير عليها. ويقول بيتر سلوتردايك بأن "الحقيقة رمادية لأنها ناتجة عن اختراق الضوء للعتمة الكثيفة".

لكن كيف يمكن للقارة الأوروبية الفخورة جدًا بأنوارها، وبتاريخها، وبتطورها الثقافي أن تشكو وتتألم من شيخوختها؟ عن هذا السؤال يجيب بيتر سلوتردياك قائلاً بإن الأوروبيون وجدوا أنفسهم عام1914، في قلب دوّامة لم يتمكنوا من الخلاص منها أبدا. والأحداث الفاصلة بين عام1914 وعام1918، وبين عام 1939و عام1945، سُمّيت بالحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية. وفي الحقيقة الأمر يتعلق بحربين أوروبيتين. والحربان هما في واقع الحال نفس الحدث الذي يمتدّ-إذا ما نحن احتسبنا فترة ما بعد الحرب-إلى عام1989.

وفي روزنامته الشخصية، يحتسب بيتر سلوتردايك فترة أوروبية منسجمة مع نفسها وتمتد من عام1945 إلى عام1989. وتلك هي فترة التدمير الأوروبي الذاتي، والتي إليها تنتسب بشكل مثير للفضول فترة إعادة البناء التي تتناسب مع سيرته الذاتية. فهو ولد في مدينة كارلسروه عام1947، وهو ابن نموذجيّ لفترة ما بعد الحرب. وقد تنفّس هواء ألمانيا لتلك الفترة إلى أن جاء الوقت الذي اكتشف فيه من حسن حظه أجواء وأنماطا أخرى من الحياة بفضل الأسفار . وتنفسه لهواء آخر هو الذي جعله يكتشف معنى التسمّم. انطلاقا من تلك اللحظة، تخلّص كليّا من جرمانيتيه، وأصبح خائنًا هوائيا لوطنه. وكان سعيدًا بالتخلّص من المؤامرة الهاوية للبؤس الألماني في فترة ما بعد الحرب. ولم يتحقّق له ذلك إلاّ بفضل تجاربه الرائعة والسعيدة.