إيلاف من الرياض: في أول عام 2023 زرتُ الرياض، وأهداني الدكتور حمد البليهد طبعة جديدة من رواية (تماس المدن) لنجيب المانع. طبعة أنيقة أصدرها على نفقته الخاصة، وكتبتُ عنها ما نصّه (بعد طول إهمال من المثقفين العراقيين، ومن المؤسسة الثقافية العراقية، لأحد أهم أعلام الحداثة الأدبية في العراق خلال النصف الثاني من القرن العشرين، وهو الكاتب والمترجم نجيب المانع، تولّى الدكتور حمد البليهد، الأستاذ في جامعة الملك سعود بالرياض، في المملكة العربية السعودية، إصدار طبعة جديدة لرواية المانع اليتيمة (تماسّ المدن). أصدرها بحلّة مميّزة، كما أنه ينكبّ على إصدار كتاب شامل عنه يعرّف به. قام بذلك لشغفه بأدب المانع، ورفع الضيم المقصود أو غير المقصود الذي تعرّض له. أبارك لقرّاء نجيب المانع إعادة بعث روايته من غياهب النسيان، وأدعو النقاد والباحثين للاهتمام بها لما فيها من فرادة سردية.


صورة أرشيفية لنجيب المانع مع ابنه لبيد في لندن

ذلك القول يستوجب الآن تعديلًا؛ فإذ حاز نجيب المانع هوية ثقافية عراقية، وسقط رأسه في الزبير بالبصرة، فقد انحدر بالنَسَب من عائلة سعودية تعود إلى هضاب نجدٍ، فقبلَ محنة الأوطان الحديثة كان للمرء أن ينحدر من إقليم، ويستوطن آخر، ويدفن في ثالث، وقع ذلك بحذافيره لنجيب المانع ذي المنبت النَجْدي، والهوية البَصْرية، والقبر اللنْدَني. وبكلّ المعايير التي عرفها جيلي، والجيل الذي سبقه، فإنّ المانع كان نجمًا ساطعًا في مدار الثقافة العراقية قبل أن يُطبق عليها الظلام، ويفرّ المانع إلى بلاد الضباب وحيدًا، وبالكاد عثر فيها على قبر آوى جسده المُعطّر بالموسيقى والأدب.

ولكن في أول عام 2024 زرتُ الرياض أيضًا، وقصدني حمد البليهد، كما يقصد الصديق صديقه، وأهداني كتابه (الروح الخريفيّة: نجيب المانع على حافة الوجود). كتاب عجيب بما حواه من صبر في الاستقصاء، ودراية في التحليل، واعتراف بالصعاب، وإحاطة بشؤون الثقافة العراقية والعالمية، وفي القلب منها عالم نجيب المانع منذ ولادته حتى وفاته. قرأتُ نصف الكتاب في الطائرة بين الرياض وإسطنبول، وهي المرّة الأولى، في أسفاري العديدة، التي لم أشعر فيها إلا والطائرة تحطّ على المدرج بمحاذاة البحر الأسود بعد أربع ساعات من الطيران، وأكملتُ نصفه الثاني في بيتي حالما تحلّلت من وعثاء السفر.

لا ينبغي أن تُطلق الأحكام جُزافًا بحقّ الكتب، غير أنه لا يصحّ حجبها عن الجيّدة منها تحت أيّ ذريعة من الذرائع. كتاب البليهد مميّز، مكتوب بصبر قلّ نظيره في الإحاطة بتجربة كاتب آخر، وبشغف لا نكاد نعثر على مثيل له. إن قلتُ إنه سيرة غيرية أكون قد قصّرتُ، وإن قلتُ إنه دراسة معمّقة لعوالم المانع أكون قد بالغتُ، ففيه من هذا، ومن ذاك، بل وفيه أكثر: كتاب يقف على الحافات الشائكة للتأليف، ثم يغرف الماء الزلال من الينابيع، وينثره على سيرة رجلّ نذر نفسه للثقافة الرفيعة، وما ساوم عليها قطّ لا في بلاده، ولا في منفاه. أما المؤلّف، حمد البليهد، فهو ناقد سعودي نأى بنفسه عن الأضواء الخادعة، ولكنّه حادّ الذكاء، ودقيق الملاحظة، وهادئ الطبع كأنه يكبتُ وعدًا عظيمًا، وهو صامت كمن يدرأ صخبًا في أعماقه، حتى ليبدو متردّدًا في الافصاح عن أقواله الدقيقة، وأفكاره الجريئة، على أنني لم أقرأ لناقد في جزيرة العرب كتابًا يضارع كتابه عن نجيب المانع، فقد تفجّر صبره عن سِفر نادر بكلّ معاني الندرة.


على الغلاف الخلفي للكتاب، يقول البليهد: حين سألني ابنه البكر لبيد في أول حديث بيننا، لم تود الكتابة عنه؟ أربكني السؤال، ولكني تذكرت أني أحمل في دمي بعض ما حمله نجيب في رحلته الشاقة، وإذا كان هو قد ورث من العمالقة كالمتنبي ودوستويفسكي كبرياء الوجود، ولم يعلو عليهما في كبرياء الإنجاز، فإني قصرت دونه في كليهما، فأردت أن أشير إلى عجزي وكأني أعنيه.

ومع ذلك فبإمكان هذا الكتاب أن ينطوي على أكثر من مجرد إعجاب، بحيث يجد فيه القارئ مشروعًا للقراءة والتواصل، في حدود ما يُتيحه التحليل من إمكانيات لإضاءة اللامرئي، وإظهار المحتجب في شخصية نجيب المانع، وما يفضي إليه ذلك من تنوع في التلقي والتأويل، فالنصوص ليست دائماً معادلاً لما تقول، فالمعنى يوجد أيضاً فيما لا يُقال؛ أي فيما تسكت عنه اللغة.

صدر كتاب "الروح الخريفية: نجيب المانع على حافة الوجود"، عن دار مدارك للنشر.