بيروت: الموت في لبنان كما الحياة فيه، غال، والغلاء له عوامل عديدة من أسعار الأراضي إلى إرتفاع كلفة الخدمات واللوازم المستخدمة لدفن الموتى، وكما في الحياة كذلك في الموت، إذ إن التكاليف المرتفعة تجعل الفقراء في موقف محرج، فطقوس الموت مفروضة ولوازمه كذلك، إلا أن الكلفة الأدنى لإحياء هذه المناسبة الحزينة لا تقل عن ألفي دولار... الفقراء ممنوع عليهم حتى الموت!

الحياة في لبنان مكلفة، لا بل مكلفة جداً، والفوارق الطبقية واضحة، لا بل واضحة جداً، ومن يبحث عن السكن هو أكثر العارفين، السكن يعني أمتاراً تشترى من أرض لبنان، هي أمتار يحتاج إليها المواطن لتكون ملجأه، لكن ماذا عن كلفة الموت؟ ماذا عن المتر ونصف المتر التي تعد أرضاً إجبارية يدفن فيها المواطن جسده؟ يمكن القول ان كلفة الموت لا تقل عن كلفة الحياة، وشراء بضعة أمتار للقبر مرهق إرهاق شراء بضعة أمتار للحياة، أما الفوارق الطبقية بين الأموات، فهي مدهشة حقاً، فالفقير في لبنان يجب ألّا يموت، وإن مات، فالبلاء يقع على من يتكفل بلوازم الدفن وسعر القبر وأجرة المشايخ والمطارنة والخوارنة، أما الأثرياء، فهم يتفننون بالموت، يزخرفون القبور ويستوردون النعوش وينفقون آلاف الدولارات لضمان صورتهم أمام الأحياء قبل الأموات... إنه لبنان، لا الحياة تفتح ذراعيها للفقير، ولا الموت يريحه من شقائه!

فلنبحث عن سوق دفن الموتى في لبنان، عن حجم العمالة، عن المصاريف، عن الأكلاف، والتفاوت الطبقي في الموت.. حتى الموت.

سوق الدفن... ناشطة

حين يهوي الاقتصاد بسبب الحروب تنشط، حين تتراجع الخدمات الاجتماعية والصحية تنشط، فسوق دفن الموتى تبقى في حراك مستمر، فكيف ببلد لا يكلّ من الحروب ولا يمل من ضرب الرقابة على كل ما يستهلكه المواطنون من دون توفير الحد الادنى من الخدمات الاجتماعية؟ ففي لبنان الموت عادة، فتتنافس شركات تأمين لوازم الدفن والجنائز بشدة في ما بينها، ولمجاراة الطلب الذي يزيد لعوامل عدة، قامت هذه الشركات بتقديم سلة خدمات جديدة، بحيث تتولى كل ما يتعلق بألفباء الجنائز والمآتم، ولكل شيء سعره.

وحتى عام 2011، وصل عدد شركات دفن الموتى الى أكثر من مئة شركة في جميع المناطق اللبنانية، برزت منها نحو 10 شركات محترفة، ولا تتطلب هذه المهنة التي تشغّل نحو 1000 عائلة في لبنان رخصة خاصة لمزاولتها، وبالتالي يشير عدد من اصحاب شركات دفن الموتى لـlaquo;الأخبارraquo; إلى أن الخصائص الاساسية التي يجب أن تكون متوافرة لدى العاملين في المهنة هي laquo;طول البالraquo; والصبر والتأقلم مع الزبائن في حزنهم. ويلفتون الى أن هذه المهنة فيها الكثير من الأرباح، بحيث لا توجد اسعار موحدة بل تتفاوت اسعار الخدمات المقدمة بحسب القدرات المادية لأهالي الموتى، وبالطبع بحسب الخدمات المطلوبة.

أما أكثر الإشكالات التي تواجه هؤلاء فهي اسعار اعلانات الوفيات في الجرائد التي ترتفع بطريقة متواترة وتعد laquo;غاليةraquo;. ومع اختلاف العادات بين الطوائف اللبنانية، تختلف الخدمات المقدمة في هذه المناسبات، في حين أن بذخ المال على المآتم والجنائز ظاهرة موجودة بكثرة في المجتمع اللبناني، وفي المقابل يرمى الفقراء في المدافن بطريقة تذلهم حتى حين يموتون!

تكاليف الموت لدى الطوائف

وبسبب تطور الخدمات، تطورت الطقوس الاجتماعية ولوازم الدفن، وأصبح هنالك متطلبات جديدة تعمل الشركات على تأمينها... وفي رصد لأكلاف الموت في لبنان، تظهر فروق بين الطوائف، وفروق بين موتى الطائفة نفسها، لكن الأكيد أن كلفة الموت لا يمكن أن تقل عن 2000 دولار لدى العائلات الفقيرة، فيما تصل الى 5 آلاف دولار لدى العائلات المتوسطة، وصولاً الى 20 ألف دولار لدى العائلات الميسورة. ويعلّق أحد أصحاب الشركات قائلاً laquo;في لبنان كلفة الجنازة مثل كلفة الزواج، والمشترك أن كليهما يشكوان من أسعار الأراضي المرتفعةraquo;.


والخدمات الأساسية المستخدمة في مناسبات الحزن هي: سيارة لنقل الموتى، عمال لحمل النعش ولتوزيع القهوة وغيرهما من الخدمات، اوراق النعي، زهور، كراسي، اعلانات في الجرائد، خوارنة أو مطارنة او مشايخ، استئجار او شراء أماكن الدفن، اضافة الى التوابيت (لدى الطائفتين المسيحية والدرزية).

وإن كان لكل طائفة أكلاف موتها، فكلها تتطلب عدداً من الخدمات المشتركة، اذ لنقل الموتى سيارة خاصة لا يمكن الفقير كما الغني الاستغناء عنها، أما إيجارها فلا يقل عن 150 دولاراً داخل بيروت ليرتفع السعر بحسب المسافة ان خارج بيروت. أما الزهور المستخدمة كأكاليل فهي تبدأ بـ20 دولاراً وترتفع بحسب نوع الزهور والورود المستخدمة لتصل الى 500 دولار.

وتأتي أكلاف متفرقة لا تقل كلفتها عن 500 دولار للفقراء لتصل الى آلاف الدولارات لدى الميسورين، منها مثلاً إكراميات لغسل الموتى، وثياب جديدة للموتى (لدى بعض الطوائف)، وكراس لاستقبال المعزين في المنازل، وطبع اوراق النعي وتوزيعها.

اما النعوش التي يستخدمها كل من الطائفة المسيحية والمذهب الدرزي، فهي تصنف الأموات طبقياً كذلك، إذ يبدأ سعر التابوت من 300 دولار ليصل الى 10 آلاف دولار، وذلك بحسب حجم النعش ونوع الخشب المستخدم، والزخرفة المنقوشة عليه، وإن كان هذا النعش محلي الصنع او مستورداً.

ولإعلانات الجرائد قصة أخرى، اذ إن النعي أصبح يُعمّم عبر استخدام الجرائد عادة، الا أن كلفة الإعلان لا تقل عن 55 ألف ليرة لخمسة أسطر في الجريدة لليوم الواحد، ويزيد السعر كلما يزيد عدد الأسطر، اضافة الى اختلاف السعر اذا ترافق الخبر مع صورة. ويروي أحد أصحاب شركات دفن الموتى، أن إحدى العائلات طلبت وضع اعلان وفاة في 7 جرائد لمدة 5 أيام، فإذا بها تفاجأ بأن كلفة الإعلان وصلت الى 4000 دولار. واشار الى أن العائلة لم تكن تتوقع أن تكون اسعار الاعلانات مرتفعة الى هذه الدرجة!

بين المدافن ورجال الدين!

يختلف المثوى الأخير للموتى بحسب اختلاف الطوائف، الا أن المشترَك هو الكلفة الخيالية للدفن وما يستتبعه من أماكن للصلاة وغيرها... ويشير صاحب احدى مؤسسات دفن الموتى في الأشرفية إلى ان أجرة صالون الكنيسة لا تقل عن 200 دولار لليوم، لترتفع الى 700 دولار في الكنائس الكبيرة، علماً أن استئجار قاعات الكنيسة يكون لثلاثة أيام، اي نهار الدفن ويومين بعده. أما الكهنة الذين يصلّون في الكنيسة فيتقاضون أيضاً أتعابهم، إذ يأتي ثلاثة خوارنة يتقاضى كل منهم ما لا يقل عن 100 أو 150 دولاراً، في حين أن العائلات الثرية تطلب مطراناً للصلاة، وهو لا يتقاضى أقل من 700 دولار، وترتفع القيمة الى 1200 دولار عادة.

كذلك تنفق العائلة ما لا يقل عن 60 ألف ليرة لكل عامل يقدم القهوة والطعام. إذ يترافق الجناز مع عرض الطعام على المعزين، وتراوح الكلفة بين 400 دولار للسندويشات العادية وصولاً الى 4000 دولار لمن يشتري مآدب من المطاعم، وبالطبع ترتفع هذه الكلفة إذا كان المطعم معروفاً.

اما المدفن، فهي كارثة حقيقية، إذ إن أرخص مدفن في مقبرة في بيروت بمساحة 3/3 أمتار يكلف 15 ألف دولار، بحيث يتم شراء الارض لحفرها ووضع التابوت، وترتفع هذه القيمة بحسب اسعار العقارات في المناطق، في حين ان متوسطي الحال يلجأون الى ما يسمى laquo;الجواريرraquo; بحيث يوضع الموتى في laquo;جارورraquo; خاص مرتفع عن الارض، وكلفة الجارور بين 2000 و3000 دولار... لكن ماذا عن الفقراء الذين لا يملكون هذه المبالغ؟ الحل هو مدفن عمومي يستأجر لمدة سنة تقريباً بـ200 دولار، حيث يوضع الموتى معاً، وفي نهاية العام يزال الرماد ويحرق ليتسع المدفن للموتى المقبلين!

أما لدى الطوائف الاسلامية، فلا مفر من رسم المدفن وهو 500 دولار اضافة الى 800 ألف ليرة لتعمير القبر ووضع البلاطة، فيما تتقارب التكاليف الأخرى مع تلك التي يدفعها المسيحيون بحيث يتقاضى الشيخ الذي يصلي في الحسينية مبلغاً يبدأ بـ100 ألف ليرة، ويزيد بحسب قدرة الأهل على الدفع، وكذلك يلقي الشيخ ما يسمى laquo;الشهادةraquo; للمتوفى قبل دفنه ويتقاضى 50 ألف ليرة تزيد بحسب ما يريد الأهل. وفي العادات الاسلامية يضطر اهالي الفقيد الى توزيع الأكل والدخان والقهوة laquo;عن روحraquo; المتوفى على المعزين، وتبدأ كلفة الطعام بـ300 دولار وتزيد بحسب الأصناف المعروضة.

أما لدى المذهب الدرزي فيوجد من 4 الى 5 شيوخ يصلّون عن روح المتوفى في دار الطائفة الدرزية، أو في القاعات المخصصة لذلك في القرى، فيما يحضر الأهالي laquo;ندابينraquo; وهم من فرق الزجل، وتصل أجرة غالبيتهم الى 1500 دولار ترتفع الى 3000 دولار بحسب شهرة الفرق، وكذلك يدفعون laquo;حسناتraquo; الى المعزّين بحيث توضع هذه الحسنات في دوائر الطائفة للمعزين كل بحسب منطقته، وأقل مبلغ يدفع للحسنات هو 1000 دولار يرتفع بحسب قدرة الاهل على الدفع... كذلك يدفع الاهالي رسماً للقاعة في دار الطائفة يبدأ بـ300 دولار ويصل الى 1000 دولار كل حسب قدرته، فيما تتوافر مدافن قديمة للموتى من المذهب الدرزي من دون مقابل.

ويروي أصحاب مؤسسات دفن الموتى غرائب في ما يتعلق بالمآتم والجنائز، بحيث إن الأغنياء كثيرو التطلب، وهم مستعدون لإبقاء الموتى في برادات المستشفيات الى أن يجدوا توابيت بألوان محددة وبأنواع معينة من الخشب، كما يهتمون بشكل الورد ونوعه، وتزيد مطالبهم من ناحية عدد العمال الذين يحتاجون إليهم للمساعدة، ويهتمون بتفاصيل غريبة مثل تنسيق اكاليل الزهر على التابوت مع الاكاليل التي توضع قرب القبر.