تقدم جزر أدالار، موطن القصور والمساجد الكبرى، لمحة عن ماضي اسطنبول متعدد الثقافات بالإضافة إلى توفيرها ملاذا هادئا من المدينة الضخمة والفوضوية.

تحلق النوارس حول برج جالاتا الشهير في إسطنبول وويرتفع ضجيج أبواق العبّارات في مضيق البوسفور، وتعتبر محطة كاباتاش البحرية مكاناً دائيما للازدحام والنشاط الصباحي، و وينتر بائعوا الصميت بين الركاب الذين يتوافدون على بوابات المحطة الدوارة.

كانت الشمس مشرقة، ولكن عندما كانت العبّارة - وهي واحدة من السفن البخارية الصغيرة ذات اللون الأصفر والأبيض والأسود، وتربط بين أحياء إسطنبول المنتشرة بين قارتي أوروبا وآسيا – تتهادى في بحر مرمرة، هزتها تيارات يناير كما لو أنها تتمايل كشخص مخمور.

مررت بالمآذن والمجمعات السكنية الشاهقة في كاديكوي وفيني باهتشي، متوجهاً نحو أدالار، وهي مجموعة من تسع جزر – أربعة منها فقط مأهولة بالسكان – وكان بإمكاني رؤيتها بالفعل من خلال نوافذ العبارة التي غطاها رذاذ الماء.

تُعرف جزر أدالار باللغة الإنجليزية باسم "جزر الأميرات" ، حيث قام الأباطرة البيزنطيون والسلاطين العثمانيون بنفي الأمراء والأميرات والأعداء السياسيين إلى تلك الجزر، وكانت الموطن الأخير للمجتمعات اليونانية والأرمنية في الإمبراطورية العثمانية أيضا، واليوم، أصبحت الجزر الخالية من السيارات، والواقعة على بعد ساعة فقط بالعبارة العامة من إسطنبول، تقدم لمحة عن ماضي إسطنبول متعدد الثقافات بالإضافة إلى كونها ملاذاً هادئاً وطبيعياً يمكن اللجوء إليه هرباً من ضجيج أكبر مدينة في أوروبا.

كتبت المؤرخة بيتاني هيوز في كتابها ، إسطنبول: قصة ثلاث مدن، إنه "رغم التألق وسط البحر، والضوء الخافت في المكان والمُنبعث عبّارات اسطنبول التي تبدو وكأنها ثعالب بحر تعكس الضور، إلا أن جزرالأميرات لها تاريخ مظلم للغاية". "لقد فقد الأمراء والأميرات بصرهم هنا، وعانوا من التعذيب والسجن، الرحلة بالقارب إلى هذا الأرخبيل اليوم تحمل ذكرى مؤلمة من القرون السابقة".

تقع جزر الأمراء على بعد ساعة بالعبارة العامة من إسطنبول
Richard Collett
تقع جزر الأميرات على بعد ساعة بالعبّارة من إسطنبول

لحسن الحظ، اختفى التقليد المؤلم المتمثل في اقتلاع عيون المنفيين، لكن دليلتي السياحية، أوزجه أجار من استوديو إسطنبول للسياحة، أوضحت كيف تطور الأرخبيل منذ ذلك الحين ليصبح منفى اختياري.

في عام 1930، لجأ ليون تروتسكي، الذي كان هارباً من قادة الاتحاد السوفيتي إلى أدالار، كما قالت، بينما قام عدد كبير من الكتاب والفنانين – بما في ذلك الروائي ابن إسطنبول أورهان باموك، الذي تمتلك عائلته منزلاً هنا – بالانتقال إلى هذه الجزر بحثاً عن الإلهام، واختارت أجار الجزر كمنفى اختياري، عندما عاشت شهوراً في عزلتها على الشواطئ النائية في كيناليادا، وهي أصغر جزيرة مأهولة في أدالار.

وقالت بينما مررنا بالجزيرة التي تبلغ مساحتها 1.3 كيلومتر مربع: "في الشتاء، يعيش 500 شخص فقط في كيناليادا"، "لم أكن أرغب في التعامل مع اسطنبول، لذلك ذهبت إلى المنفى الطوعي. لا تضطر إلا لقول خمس أو ست عبارات في اليوم، فأنت ترى نفس الوجوه، وتتحدث إلى نفس الأشخاص، وتعرف قصصهم".

وأشارت أجار - وهي ليست مجرد مرشدة سياحية، ولكنها كاتبة ولديها معرفة قوية باللغات القديمة - إلى الجزر الأربع المأهولة بالأسماء التركية الحديثة وألقابها اليونانية الأصلية من الأصغر إلى الأكبر، هناك كيناليادا (باليونانية "بروتي" وتعني أولا)، بورغازادا (أنتيجوني)، هيبيليادا (هالكي) وبيوك أدا (برينكيبو).

وقالت أجار: " كثير من الناس الذين عاشوا في هذه الجزر هم من الأقليات"، موضحة أن الجزر حافظت على هوية بيزنطية قوية حتى بعد أن غزا العثمانيون القسطنطينية (إسطنبول الآن) في عام 1453. "خاصة اليونانيين والأرمن، وغالباً ما كانوا من الطبقات العليا للإمبراطورية العثمانية متعددة الثقافات، ولا يزال لدى العديد من هذه العائلات القديمة منازل هنا".

يعد ميناء العبارات الكبير في بويوكادا بمثابة تذكير بالماضي العثماني للجزر
Liz Coughlan/Alamy
يعد ميناء العبّارات الكبير في بويوكادا بمثابة تذكير بالماضي العثماني للجزر

كانت التعددية الثقافية علامة فارقة للإمبراطورية العثمانية، التي استوعبت مئات الأعراق والجنسيات من البلقان إلى شمال إفريقيا. لكن تفكك الإمبراطورية في أعقاب الحرب العالمية الأولى أدى إلى تبادلات سكانية واسعة بين المسلمين والمسيحيين، وبين الجمهورية التركية الجديدة والدول المجاورة مثل اليونان.

كانت إسطنبول مختلفة على أية حال، وفي البداية سُمح لليونانيين والأرمن بالبقاء في المدينة وفي جزيرة أدالار. غير أن الهجرة، وصعوبة الاندماج، وفي بعض الأحيان التمييز، كلها عوامل أدت إلى انحسار أعداد المجتمع اليوناني في المدينة خلال القرن العشرين، ولكن البعض لا يزال حتى يومنا هذا في أدالار من بقايا العصر العثماني القديم.

وقالت أجار :" هناك علاقة عاطفية بالماضي وسكان الجزر فخورون بذلك" ، موضحة أن التاريخ الصعب شكل هوية جزيرة فريدة من نوعها مستقلة بشدة عن البر الرئيسي، وتضيف: "إنهم يشعرون أنهم لم ينقطعوا عن قصتهم، وغالبا يعتبر ذلك امتيازً".

سرعان ما رسونا في هيبيليادا (التي تعني "حقيبة السرج" باللغة التركية)، وهي ثاني أكبر جزيرة في الأرخبيل حيث تصطف المطاعم، العديد منها باللونين الأزرق والأبيض التقليديين للأرثوذكسية اليونانية، وعلى الميناء تصطف المنازل ذات الطراز العثماني، وطغت على الجزيرة شوارع واسعة تصطف على جانبيها الأشجار. وباستثناء سيارة الشرطة التي يبدو وجودها غير مألوف، فإن الجزر خالية من السيارات، إذ استقلينا عربة الغولف الكهربائية التي يكثر استعمالها كسيارة أجرة، للوصول إلى دير آيا تريادا الذي يعود إلى القرن 9 (دير الثالوث المقدس).

كان علم تركيا يرفرف في فناء الدير المسيحي الأرثوذكسي، وقابلنا في قاعة المدخل ميليتيوس ستيفاناتوس، وهو كاهن يرتدي ثياباً سوداء. قادنا في جولة لمكتبة مليئة بالنصوص الدينية القديمة، وحيث توجد نسخ عمرها قرون، من نصوص الملاحم القديمة مثل الإلياذة.

وقال الكاهن: "غالبية الناس في هيبيليادا مسلمون الآن"، بينما أظهر لنا مجسم كنيسة صغيرة تغطيها الشعارات البيزنطية، والتي بعضها يزيد عمره عن 1000 عام، وأوضح: "لكن هناك مجموعات صغيرة من المسيحيين الأرمن، وربما 30 أو 40 مسيحياً يونانياً".

نظرًا لأن الجزر خالية من السيارات، يتنقل السكان المحليون بالدراجات الكهربائية وعربات الجولف (مصدر الصورة
Richard Collett
نظرًا لأن الجزر خالية من السيارات، يتنقل السكان المحليون بالدراجات الكهربائية وعربات الغولف

تعود أصول ستيفاناتوس لأثينا، إلا أنه عاش في الجزيرة خلال السنوات الأربع الماضية. وأوضح أن هناك مدرسة لاهوتية تأسست في الدير عام 1844، ولكن على الرغم من كونها مكاناً مهما للتعليم، إلا أن الخلافات المستمرة بين تركيا واليونان أدت إلى إغلاق المدرسة في عام 1971.

وقال: "لكن سكان الجزر ودودون جدا تجاهنا، ولدينا أعداد هائلة من الأتراك يزورون الدير من البرالرئيسي"، مضيفاً أنه يمكنهم العبادة في الدير، ويضيف: "المشكلة ليست بين المسلمين والمسيحيين، أو حتى بين الأتراك واليونانيين. لقد عشنا لسنوات عديدة معاً، إنها مشكلة سياسية بحتة".

توجهنا نحو التل، ومررنا بشاطئ رملي رائع، ووصلنا إلى الميناء في الوقت المناسب تماماً للحاق بالعبّارة التالية إلى بيوك أدا. وبعد عشر دقائق، نزلنا في "الجزيرة الكبيرة" حيث تنتشر الحانات ذات الطراز اليوناني على الواجهة البحرية.

تشعر وكأن الجزيرة عالقة في فترة زمنية معينة، إذ تم طلاء العديد من المطاعم والفنادق والمقاهي في أدالار باللونين الأزرق والأبيض لليونان. وأوضحت أجار أن سكان الجزر يحبون الاعتماد على تراثهم للتميز – حتى لو كان عدد قليل جدا من الناس لا يزالون يعتبرون أنفسهم مسيحيين أرثوذكس يونانيين – ويجذبون السياح الأتراك الفضوليين من البر الرئيسي لإسطنبول.

وبعد غداء من الحمص والكباب النباتي في حانة على الطراز اليوناني المميز لأي مكان في البحر الأبيض المتوسط، استقلينا حافلة كهربائية للقيام بجولة في الجزيرة.

"تخيل محاولة الحفاظ على هذا الهدوء في الجزيرة بجوار مدينة يبلغ عدد سكانها 16 مليونا"، قالت أجار بينما نزلنا من الحافلة ومشينا في طريق منعزل نحو كنيسة أرمنية قديمة على المنحدرات، وأضافت: "أنا أقدر هذا الجهد. لا يمكن لمالكي المنازل التي تبلغ تكلفتها 6 ملايين دولار أو 7 ملايين دولار إحضار سيارات بي إم دبليو والسيارات البراقة إلى هنا. الجزيرة لديها ثقافة ويجب على الناس مراعاتها".

ونظرا لعدم السماح بأي سيارات، يتجول السكان المحليون على الدراجات الكهربائية وعربات الجولف، بينما يمكن للسياح استئجار الدراجات أو ركوب الحافلة الكهربائية أو التنزه. النقل الكهربائي هو تغييرمرحب به منذ المرة الأولى التي زرت فيها الجزيرة في عام 2016، عندما كان يتم نقل السياح على عربات تجرها الخيول (تم الاحتفاظ بالخيول في ظروف غير صحية، لذلك في عام 2020، تم حظر العربات من قبل الحكومة المحلية واستبدالها بالسيارات الكهربائية).

يأتي الزوار إلى الجزر للاستمتاع بالهواء النقي والطبيعة
Getty Images
يأتي الزوار إلى الجزر للاستمتاع بالهواء النقي والطبيعة

في هذه الأيام، ترتبط الجزر بشكل جيد بالبر الرئيسي لإسطنبول (يدفعون حوالي 45 ليرة تركية، أو أكثر من 1 دولار فقط ، للرحلة من إسطنبول إلى الجزر)، ولكن على الرغم من ذلك، تمكنت أدالار من البقاء خضراء بشكل مدهش. بينما كنا نتنزه على بعد بضعة كيلومترات حول بويوك ادا ، اتبعنا المسارات التي تخترق الغابات وصولا إلى الشواطئ الرملية ، ومروراً بالقصور الصيفية التي بناها الأمراء العثمانيين، وغالبا ما سرنا في ظلال المآذن. هذه المساحات الخضراء تروق للزوار الذين يأتون إلى هنا من أجل الهواء النقي والطبيعة.

بعد ذلك صعدنا مرة أخرى على متن حافلة كهربائية وانتظرنا العبّارة في محطة كبرى تعود إلى القرن الـ19 بالقرب من الميناء، وقال لي مرشد سياحي محلي آخر وهو جولبيري بارلاك:" إذا كان لديك بضعة أيام فقط في إسطنبول، فلن أوصي برحلة إلى أدالار لأنها تستغرق على الأقل ساعة ذهاباً، ومثلها للعودة". "ولكن إذا كان لديك وقت أطول تقضيه في إسطنبول، فعليك الذهاب. الجزر مثالية في الصيف، نحن السكان المحليين نذهب إلى الشواطئ الرملية ونستجم في أشعة الشمس".

واستدركت أجار أثناء مغادرة العبّارة: "ستشعر بالغرابة عندما نصل إلى خط مرمرة (خط سكة حديد للركاب في اسطنبول) بعد قضاء اليوم كله في الجزر". وكانت على حق. أزعجتنا العبّارة في ساعة الذروة، وأيضاً فوضى إسطنبول حيث عانينا على خط السكك الحديدية الذي يربط بين الجانبين الآسيوي والأوروبي للمدينة. وبالفعل، كنا نتوق ليوم آخر من المنفى في أدالار.