مارك بولين

ترجمة خالدة حامد

في الربيع الحالي صدر عن دار نشر جامعة كاليفورنيا انطولوجيا ضخمة تخص النظرية الأدبية والثقافية تقع في 700 صفحة، عنوانها quot;إمبراطورية النظريةquot; Theory's Empire حرّرها دفني باتاي وويل كورات. تتضمن المجموعة مقالات يرجع تاريخها إلى ثلاثين سنة خلت لكن لمعظمها صلة بما يجري الآن (وقد كنت أنا أحد المسهمين فيها).
لِمَ يطلع علينا الآن مجلد ضخم يتناول موضوعة أشبعت دراسة في انطولوجيات ومراجع وكتب أخرى صدرت عن دور نشر مهمة مثل نورتون وجون هوبكنز والبنغوين وجامعة فلوريدا وغيرها؟ أيرجع السبب في ذلك إلى أن النظرية خضعت في السنوات الثلاثين الماضية إلى انحدار هو المفارقة بعينها، ولأن الانطلوجيات الموجودة أخفقت في تدوين ما طرأ من تغيرّ؟ إن مجرد إلقاء نظرة على وفرة الأسماء والنصوص المتضمنة في قائمة المحتويات ستضع يدك على التفكيكية والنسوية والتاريخانية الجديدة والبراغماتية المحدثة والدراسات المابعد كولونيالية ونظرية الجندر، ولعلك إن تفحصت المقاربة المتبعة في تلك الموضوعات ستجدها تعرض فقط كما لو أن مهّمة الكتاب هي طرح الأفكار والمناهج ليس إلا من دون نقدها. طابع الكتاب، إذن، إخباري فقط؛ لم يقل لنا: quot;إليكم ببعض الأفكار والتأويلاتquot; بلquot; هاكم ما قاله المنظرون، وما فعلوهquot;.
وإن كانت النظريات حديثة وجديدة لم تذب في الدراسة والتدريس، لكانت ثمة جدوى من تقديم مجلد ضخم يعرض لها. الشيء نفسه يمكن أن يقال عن هذه النظريات إن ارتقت إلى مستوى الكفاءة المنهجية التي ينبغي للطلاب التحلي بها بغية المشاركة في حقل معرفي معين، أو إن كانت النظريات بلغت موضعاً من الأهمية التاريخية على النحو الذي بلغته، مثلا، النظريات الاجتماعية اليوتوبية التي تحيط بالإصلاح الشيوعي، بغض النظر عمّا اقترفته من أخطاء إلا أن quot;النظريةquot; قد فقدت جِدّتها قبل عقدين من الزمان تقريباً وها قد تصرّمت سنوات كثيرة منذ أن تناول أحدهم، بجدية، أي من المنشورات التي صدرت حديثاً بهذا الصدد، باستثناء المنظّرين أنفسهم. وبالنسبة للكفاءة المعرفية، فإننا نجد الإنسانيات متشظية ومتخندقة حدّ أن من غير الممكن لأي فرد أن يتابع مساراً مهنياً لامعاً من دون أن يقرأ كلمة لهومي بابا أو بتلر. وأخيراً، مع إمكانية النظر إلى الأثر التاريخي quot; للنظريةquot;، فان مؤشرات انحسارها آخذة بالتراكم، ليس فقط المنظرّين لا يحظون بالقراءة، على النحو الأغلب، خارج نطاق الصفوف الدراسية، بل أن قراءات الباحثين الشباب داخل حقول الإنسانيات لا تتعدى حدود انطلولوجيات معينة وبعض الكتب من قبيلquot; الانضباط والمعاقبةquot;.
ومع ذلك لا يمكن للمرء ان يتحقق من تضاؤل قيمة quot; النظرية quot; بمتابعة الانطلولوجيات يتولد لدى المرء، في الحقيقة، انطباع معاكس، وهو الأصوب، لأنه في الوقت الذي أضحت فيه quot;النظريةquot; شأنا فكرياً طناناً داخل الإنسانيات، وشأنا لا وجود له أو تافهاً خارج حدودها، فانها اكتسبت مكانة مهنية قوية كما كانت عليه. وهنا تكمن مفارقة نجاحها، وإخفاقها، وإذا نظرنا من الزاوية الفكرية نجد أن quot;النظريةquot; كانت قبل خمس وعشرين سنة مغامرة من مغامرات الفكر تنطوي على مخاطرات حقيقية. ولعل المرء حينما يقرأ quot;الاختلافquot; عند دريدا ويعود إلى وجودية هيدغر وهيغل ويشعر بالحقيقة المأساوية الكامنة في صميم السخرية الرومانسية سيدرك شيئاً جوهرياً لن يغير منهجه الأدبي فحسب، بل حتى نظام اعتقاده بأكمله، ولا شك في أن الأمر نفسه كان يصح على الجيل الأقدم وتأويله لوردسوورث أو ت.س.اليوت لكن في زمننا لدينا دريدا وبودريار، والمؤسسة التي تحاول اللحاق بهما عن طريق quot;المتخصص بالنظريةquot; أو بتقديم quot;مقررات دراسية عن النظريةquot; وتأويلها إلى طلاب السنة الأولى في الجامعات . بل يبدو أن العامة تتفق مع ويليام بينيت الذي استهل quot;حروب الثقافةquot; الأكاديمية حينما أعلن أن النظرية تدمر دراسة الأدب بواسطة أجنداتها السياسية وعقائدها اللاإنسانية.
وتغيرت التجربة بالكامل بعد عشر سنوات؛ فحينما أصبح المنظرون أساتذة جامعات ورؤساء أقسام ورؤساء جامعات ومحرّرون خطيرون يظهرون في مجلة النيويورك تايمز وتوجه لهم الدعوات لإلقاء المحاضرات حول العالم حلّ الأثر المؤسسي للنظرية محل طابعها الفكري بل الكثير من الإنسانيات المحقونة في الخطاب العام صارت هي مصدر النظرية وظهرت أعمال من قبيل روايات ديفيد لوج لتصور انتشار النظرية بوصفها كوميديا إنسانية وعمد برنامج quot;بيبل ماكارينquot; إلى توظيف إحدى النسويات الأكاديميات البارزات لتكون ناقدته التلفزيونية، وذاعت شهرة إحدى المُنظّرات لأنها أفلحت في العثور على حياتها الباطنية، واشتهرت أخرى بتنورتها المصنوعة من ربطات عنق الرجال.
وكانت النتيجة أن اكتسح المشهد الاجتماعي للنظرية اندفاعها الفكري إذ انتشرت الميول الاجتماعية في أرجاء الإنسانيات كافة وطغت تبعاتها الفكرية على السطح على شكل يأس وضجر أبداه المنظرون من القادم الجديد. والأدهى انه كلما زادت شعبية النظرية تضاءل أثرها في استلهام الالتزامات العميقة بين العقول المعنية بالبحث، بل كلما تخندقت بالانطولوجيات والمجلدات الضخمة، زاد تحولها إلى رمز من رموز الحكمة المهنية. ولعل الطاقة الوحيدة التي حافظت عليها النظرية هي بانطلاقها من مصدر لا فلسفي: العرق/الجندر/الجنسانية/اللاامبريالية/ والمشاعر المناوئة للبرجوازيين التي أبداها الكثير من النقاد الذين أضفوا على موضوعات الاضطهاد مسحة نظرية.
هذا بدوره يثير خلافاً آخر بين مضمون النظرية الفكري وموقفها المؤسسي؛ فقد ادعّت النظرية في شكلها السياسي بأنها هدّامة، قائلة بالمساواة، مناوئة للهيمنة وناقدها لذاتها نقداً لاذعاً لكننا نجد في سياق عملها الفعلي أن مُنظريها تبوأوا أعلى المقامات التراتبية والمهنية في مجتمعنا. ووعدت النظرية بأن تأتي بتعددية مفيدة لهذا الحقل إلا أن تناسل وجهات النظر تمخض عنه العكس إذ طرأت عليها انقسامات حادة لتتحول إلى طوائف لا يتحدث احدها إلى الآخر. كما تعهدت النظرية بتزويد الأدوات الفكرية التي تكشف عن مضامين تعلم الإنسانيات وتفكك هياكل السلطة في المؤسسات، إلا أن التغيير طرأ على المناهج والمقررات الدراسية وتعززت الانقسامية والاخوانية.
ولا شك في ان تزايد عزلة أساتذة الإنسانيات في الجامعات عن المجتمع الأمريكي قد أسهمت في تلك العملية؛ لكن على الرغم من نقد المنظرين للمصالح الرامية لجني المال والأساليب البرجوازية لكنهم تمتعوا بتلك المزايا أكثر من غيرهم.
لا ينبغي أن يندهش أيما امرئ من هذه النتيجة،؛ فهذه ليست المرة الأولى التي تصل فيها فلسفة ما إلى الصدارة لتفقد بعد ذلك قدرتها على الإلهام. لقد بدت النظرية للوهلة الأولى خليطاً متنوعاً من التحليل النفسي والماركسية والنسوية وما إلى ذلك، لكن على الرغم من السماح لمختلف المدارس بالتجادل مع بعضها الآخر (النسويون ينتقدون التحليل النفسي، النقاد السياسيون يتربصون بالتفكيك، وغيرها) ، نجد انه كلما شرع احدهم بتناول جانب من النظرية فسرعان ما يتم شجب براهينه بوصفها معادية للطابع الفكري.
قد تبرز الحاجة هنا إلى مجلد قوي وحيوي كتلك المجموعة الرائعة من المقالات التي تحمل عنوان إستراتيجيات نصّية Textual Strategies أو انطولوجيا ضخمة تلائم البحث في المقاربات السائدة كلها مثل quot;انطولوجيا نورتون في النظرية والنقدquot; The Norton Anthology of Theory and Criticism .
وهكذا ربما سيبدو ذلك عبئاً ثقيلاً على كاهلquot; إمبراطورية النظريةquot; إذ ليس الهدف من الانطولوجيا استبدال المجموعات الموجودة بل أن تكملها وتقارن بينها.