مازن الراوي من برلين: حين تمّ السطو المسلح على متحف ادوارد مونش في العاصمة النرويجية أوسلو واختفى عملان من أعمال مونش الشهيرة (الصرخة ومادونا) اهتزت الأوساط الفنية واعتبرت فقدان اللوحتين واحتمال تلفهما كارثة فنية. ولكن العثور فجأة في متحف بريمن للفن على لوحة جديدة غير معروفة لمونش أطلق طقساً احتفالياً لا يحدث إلاّ نادراً في تاريخ الفن لحديث. الآن، قبل شهر تقريباً، عادت اللوحتان إلى مكانهما في المتحف بعد أن عثرت عليهما الشرطة بجهود مضنية استغرقت عامين وتسعة أيام. والصرخة عمل فني تمّ إنجازه في العام 1893 ويعتبر من أكثر الأعمال الفنية شهرة. ربما تعرضت أعمال الفنان مونش إلى السطو أكثر من غيره من أعمال الفنانين الآخرين، ففي مارس عام 2005 تمت سرقة ثلاث لوحات هامة (عملين ليثوغرافيين وعمل اكواريل بعنوان الثوب الأزرق) في فندق من الدرجة الأولى قريب من مدينة موس جنوب اوسلو، تمّ اختيارها من بين 400 لوحة فنية تعود ملكيتها للفندق. وهكذا تعرضت أعماله للسطو مرات عديدة وفي أماكن مختلفة. إذا كانت أعمال مونش معروفة الأسماء ومؤرشفة بدقة، تناول النقاد والمحللون توصيفها الفني وتحليلها فإن اللوحة الجديدة المكتشفة في متحف بريمن للفن مازالت دون أن يطلق عليها أسم محدد، ومن غير أن يتم دراستها فنياً إلاّ بعض التعليقات التي رافقت اكتشافها، وبعض التحليلات الأولية.
كيف تمّ العثور على هذه اللوحة ؟
متى أنجزها مونش ؟
ما هو مضمونها؟
استطاع متحف quot;بريمنquot; للفن في ألمانيا الاتحادية أن يميط اللثام عن عمل فني غير معروف حتى الآن للفنان النرويجي إدوارد مونش. لقد جاء الاكتشاف مفاجأة سعيدة في نظر مؤرخي سيرة حياة وأعمال الفنان الذي اشتهر بلوحته quot;الصرخةquot; والتي أصبحت عنواناً للاحتجاج منذ أمد بعيد، تعبر عن الاحتجاج والتمرد في الذات الإنسانية غير المتلائمة مع ما يحيطها وهي تنزع نحو التغيير بشكل عنيف ؛ بالصرخة في وجه العالم.
واللوحة الجديدة التي تمّ الكشف عنها صدفة تقتفي فنياً نهجاً رمزياً وتعبيرياً في آن واحد، عبر تكوينها الفني واستخدامها
اللوني. ويعكس العمل المكتشف، على نحو ملح، مخاوف سن المراهقة والبلوغ كما فسره النقاد. وتجسّد اللوحة رؤوس ثلاثة أشخاص متنفذين يحدقون بتعابير صارخة ممجوجة في فتاة بالغة عارية تجلس على كرسي، بحيث تنبثق الوجوه الثلاثة بإلحاح من خلال ما يشبه ستارة داكنة تحيل المشاهد إلى تمثل حلم أقرب منه إلى كابوس. ووصف وولف هيرتسوغينرات مدير المتحف بأن الاكتشاف quot; عظيم ومثير للغاية quot; فيما اختصر النقاد محتوى العمل الفني بأنه quot;تعبير موجع لمخاوف فتاة بالغة من قبل مناقضي جنسهاquot; وحددوا تاريخ إنجاز العمل الفني بنهاية القرن التاسع عشر تقريبا.ً وكانت اللوحة التي تمّ اكتشافها تقبع خلف لوحة مونش المسماة quot;الأم الميتةquot; ( 1899) التي يمتلكها متحف quot;بريمنquot; منذ العام 1918. ولا يدور أي شك حول عائديتها للفنان مونش لجهة أصالتها ومحتواها وطبيعة تكوينها ونهجها الفني.

واللوحة التي لا تحمل اسماً اكتسبت الآن عنوانا جديداً يقترن بالمضمون المباشر لما يُشاهَد فيها، و بذلك سمّيت مبدئياً quot;امرأة ووجوه ثلاثة رجالquot;. وظهرت اللوحة فجأة أثناء ترميم quot;الأم الميتةquot; عندما نزعت المرمّمة الإطار لتفاجأ باللوحة الجديدة مخبأة و مثبّتة بنفس المسامير. وكانت الفرحة الكبيرة عندما كشف التصوير بالأشعة معالم اللوحة الجديدة على مساحة 90 times; 100 سم، وأظهر الوجوه الثلاثة والفتاة العارية. وتقول باربارا نيرهوف الباحثة في مجال الفن: quot;إنه عمل يتناول فيه مونش العناصر والمخيلة التي تناولها في أعماله الأولىquot; وتضيف: quot;عندما تجاوز مونش تلك المرحلة لم يعد يتطرق إلى المواضيع تلك أو يركز عليها. وهنا تشير دلائل كثيرة على أنه أهمل اللوحة ولم يستحسنهاquot;.
على أية حال فإن اكتشاف اللوحة يعتبر مكسباً هاماً لمتحف الفن في بريمن، ويمكن مشاهدتها في قاعة quot;بيكمانquot; لينقل من ثمّ إلى اوسلو. وفي الواقع توجد لوحة أخرى شبيهة في موضوعها بلوحة quot;امرأة ووجوه ثلاثة رجالquot; بضمن أعمال مونش في المتحف المخصص لأعماله في اوسلو. وكان قد عبّر في مرحلة من حياته الفنية عن موضوعة الخوف في سن المراهقة ليمزج بين عناصر متنافرة ومتصارعة يعكس فيها أبعادا نفسية، كان يعاني منها في حياته الخاصة، وقد دفعت به آلي مشفى صحي في ألمانيا عام 1908.
ولد ادوارد مونش في لوتون ـ هيدمارك في النرويج عام 1863. ومثّل في أعماله المبكرة نهجا انطباعيا ولكنه تحوّل عنها سريعا ليشكل عالمه بأسلوب تعبيري ممزوج برمزية خاصة به. وقد أثرت فيه سنوات باريس التي انتقل إليها بين عامين 1883 ـ 1885 لتتخذ لوحاته بناء واضحاً وأكثر بساطة واقتصاداً في التفاصيل وفي الألوان. وتعتبر لوحته quot; الطفل المريض quot; 1885 ـ 1886 عنواناً لتحوّله. ثمّ أخذت أعماله في الفترة التالية تتخذ ألوانا أكثر دكنة وموضوعاته أكثر تعبيرية. وقد أنجز في هذا الإطار سلسلة أعمال تعبر عن المخاوف الوجودية في الإنسان والدوافع الذاتية والموضوعية التي تثير تلك المخاوف. وعمله الشهير quot;الصرخة quot; ( 1893 ) يرمز ويجسد تلك المخاوف التي تدفع المرء إلي الصراخ في عالم غير متلائم معه، يهدد كيانه ويدفعه ليس فقط نحو الاحتجاج بل إلى الجنون.
عاش مونش في ألمانيا فترة طويلة، وكانت العاصمة آنذاك تنبض بالحيوية الفنية وبالتجريبية، وبالتمرد على القيم السائدة. وامتزج مونش في تلك الفترة بالمشهد البوهيمي للفنانين المتمردين وبالكتاب المختلفين. كانت فترة ألمانيا بالنسبة له أشد غنى من تجاربه في فرنسا وإيطاليا، قدم أول سلسلة من أعماله عام 1902 في برلين. آما معرضة المقام في quot; كولن quot; عام 1912 فقد حاز به على تقدير كبير واشتهر كأحد الفنانين التعبيريين الكبار. وفي تلك السنوات بدأت أعماله تكتسب في تلوينها البساطة والألوان الفاقعة والمشعة الممتلئة بالحياة، فيما أخذت المواضيع التي يعبر عنها تكويناً أكثر بساطة ووضوحاً، تتمثل في مساحات عريضة. وعمل مونش، فضلاً عن أعماله الزيتية، في الطباعة بالليثوغراف والحفر على الخشب، وأنجز حوالي 700 لوحة من بينها 140 لوحة محفورة على الخشب.
في العام 1932 عرض مونش مجموعة من أعماله في مدينة كولن الألمانية التي اعتبرت آنذاك معبرة عن التحولات العاصفة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية في أوربا وفي ألمانيا بالذات، وكان يحظى في تمثيل عالمه المتوتر والمتناقض بطريقة تعبيره الفني كفرد، ربما أكثر شهرة بين الفنانين في المدرسة التعبيرية الألمانية، ومن المجموعات الأخرى كالفارس الأزرق ومجموعة القنطرة. ولكن فنه لم يلائم، بعد سنوات قليلة حينما صعدت النازية، الفكر القومي الذي ناهض بالعنف ما أسماه quot; الفكر والفن الذي يحط من شأن العرق الجرماني النقي quot;. لذلك قام اديولوجيو القومية الفاشية في العام 1937 بحظر أعماله باعتبارها quot; فناً منحطاً quot;، إلى جانب منع وحرق أعمال ونتاج خيرة الفنانين والكتاب الإنسانيين في تلك الفترة.
وإذا كان اكتشاف quot;امرأة ووجوه ثلاثة رجالquot; قد أضاف إلى المنجز الفني لإدوارد مونش لوحة واحدة بعد سرقة واختفاء عملين من أعماله المميزة من متحف اوسلو في آب/ أغسطس في العام الأسبق ـ التي عادت الآن ـ اعتبرت آنذاك بمثابة كارثة فنية، خاصة آن أحد اللوحتين quot; الصرخة quot; تعتبر أحد أهم أعماله وأكثرها شهرة، أما العمل الثاني المسروق، لوحة quot;مادوناquot; المتميزة التي تمثل مركز ثقل لمرحلة هامة من حياته. وذهبت بعض التخمينات المتطرفة إلى تحليل كارثي مفاده احتمال إحراق اللوحتين المسروقتين لإضاعة الأثر، ولكن الشرطة وضعت يدها على اللوحتين، كما أسلفت، وأعادتهما إلى المتحف دون تلف تقريباً.