تتراجع آنا كارينينا عن نواياها وعوض أن تبوح لدولي أخت زوجها فرونسكي بهمومها تبرح المكان، تلقي بنفسها في أول عربةو تُفسح المجال لدواخلها... تهيم مع أفكارها؛ تسرح؛ تتذكر؛ تفكر؛.. في مشهد مونولوغ من أقوى مشاهد التي حققتها الكتابة عموما... تنزل آنا من العربة آملة لقاء فرونسكي الذي يعلمها إنه لن يعود؛ ليبدأ مونولوغ آخر في عربة أخرى؛يتواصل في مقصورة القطار الذي ستنزل منه آنا لتذهب بهدوء إلى انتحارها؛ يتقاطع المونولوغ مع لقطات متفرقة من الخارج اللامبالي مع حركة العربة مع حركة القطار مع انزياحات هذيانات آنا وسوف تمثل كل هذه الحركات مشهدا واحدا.. نهاية آنا كارينينا... ازدحام فارغ في أكثر من حركة واحدة في وقت واحد ولا رابط بينها غير تشتت وتمزق حالة هذه المرأة التي لا شيء يفيد إنها مكسورة العزيمة أو أنها منهارة تماما دونما لجوء إلى دراماتيكية تستبق لحظة الانتحار.. انتحار البطلة الذي لن يمثل نهاية الرواية... هو نهاية القصة وليس نهاية الكتابة.. يتمرد تولستوي على بعض قوانين الكتابة الروائية السائدة في عصره
من أجل تحقيق الجمال ليس من الضروري الانضباط للقاعدة وشروط الجنس الأدبي.. سوف يرى بعضهم إن هذا المشهد يستبق ما سوف ينجزه جيمس جويس بعد نصف قرن في رائعته quot;عوليسquot; بشكل أكثر تحررا وأكثر وعيا بمنهجية الهذيان... غير إن مونولوغ آنا هو استرداد أو امتداد لمحاولات أخرى كانت تهجس بالتجاوز في أشكال الكتابة السردية والخروج من مأزق الجنس وإعلاء شأن سيرة محارب بطاسة حلاقة... قبل ذلك بقرن تجرأ لورانس شتيرن 1713/1768أن يكسر القاعدة؛ يخوض المغامرة / المقامرة يكتب رواية بشكل متحرر من كل التشريعات والقوانين.

وسط ازدهار الرواية كجنس أدبي جديد يتمرد لورانس شتيرن من أجل كتابة رواية rsquo;rsquo; بلا قصة rsquo;rsquo; كما يقول هو.. حيث ضبابية الخط السردي ومقاربات تيبوغرافية مختلفة عما هو سائد؛ مزقت وحدة النسيج النصي للأثر من ذلك : صفحات سوداء؛ صفحات بيضاء؛ إدماج علامات الطباعة كجزء من المتن؛ رسوم مصغرة؛ أشكال هندسية.. مع التركيز أساسا على التفاصيل الدقيقة وخلال فصول مطولة سيتوقف لورانس عند أعمال هي في منتهى الدقة ويسلط الضوء على الحدث التافه البسيط.
أصل حكايةrsquo;rsquo; تريسترام شاندايrsquo;rsquo; إن تريسترام هذا يكتب سيرته بينما هو الغائب الوحيد في الأحداث التي تصنعها الكلمات... وليس ثمة غير الكلماتتصنع الأحداث وتشكل الوجود؛ وهو ما فتح الأفق لشتيرن لامتياح مادة كتابته من منابع متعددة؛ النحو؛ فن الحرب؛ فن الطب؛ فن الطبخ؛ الحكايات الشعبية..
ليس لأن لورانس شتيرن كتب خارج سقف الجنس تابع أثره ليون تولستوي في ما سبق ذكره بشأن مشهد انتحار آنا كارينيا ولكن لأن الإبداع هو هذا التحرر الدائم وإرادة التجاوز والكتابة خارج القاعدة الكتابة بوعي مسلح بالتحرر لذلك سيهتف فلوبير مرة قائلا quot;أريد أن أكتب الفراغquot; لن يمر وقت طويل لتأـي فرجينيا وولف1882/1941لتقطع نهائيا مع قوانين السرد المعتادة فإذا السرد يؤسسه المونولوغ ويدفعه روايتها rsquo;rsquo; الأمواج rsquo;rsquo; التي تستعصي على التصنيف حتى أن بعضهم يميل إلى تسميتها بالقصيدة الرواية.. هي الأثر الأكثر إثارة للجدل للخرق العظيم الذي تعمدته؛ فليس الخط السردي هوالعمود الفقري للرواية ومعمارها لا يكاد يتخذ هيأة محددة بقدر ما هو كتابة متحررة بوعي؛ والشخصيات مائعة تتميز باللامبالاة اللانهائية ولم تكن فرجينيا وحدها في إعلان الانقلاب على دساتير الكتابة الروائية بل لعلها كانت متأثرة بمارسيل بروست في روايته quot;البحث عن الزمن الضائعquot; وجويس في rsquo;quot;عوليسquot; هذا العمل الذي طالما اشمأزت منه ورفضت نشره في الدار التي أسستها صحبة زوجها ولم تكن وولف وحدها من رأى أن أعمال جويس ليست مِؤهلة للنشر؛ بدءا من عمله الأول quot;ناس دبلنquot; ثم quot;صورة الفنان في شبابهquot; وسوف يتطلب الأمر ناشرا أمريكيا ليوصل ستيفن ديدالوس إلى القراء.. كانت حجة رفض الناشرين لأعمال جويس أن أسلوب كتابته لا يستجيب لتطلعات القراء لما يتعمده من إيغال في الهذيان وعدم وضوح خط السرد واهتمامه المبالغ بالتفاصيل الدقيقة والتافه اليومي واستطراداته المطولة ونسفه للدراماتيكية القائمة على الصراع بين الأضداد وما يتطلبه هذا من شخصيات وشخصيات مضادة ولغته التي تنزع نحو الشعرية.. سيثير صدور rsquo; عوليس rsquo; سنة 1924 ضجة كبرى في جميع الأوساط بما فيه الأوساط غير الثقافية.. تقنيات مغايرة في بناء الشخصيات؛ مقاربة مختلفة تماما للسائد في البناء المعماري للرواية وتأويل الزمن السردي؛ اتكاء السرد على حالات الذات وهواجسها ومزاجاتها المتقلبة وعدم التعويل على الأحداث لدفع السرد وإعطاء الأولوية للهذيان والحوار الداخلي والمادة الحلمية وهو ما استدعى معجما لغويا مختلفا تماما؛ لغة إشارية إيحائية مكثفة وهو ما سيقتضي تركيبة مغايرة للجملة؛ سيتواصل الآحتفاء بالطاسة في
rsquo;rsquo; يقظة فينجان rsquo;rsquo;التي رغم أنها لم تنل نفس نجاح rsquo;rsquo; عوليسrsquo;rsquo; لكنها واصلت نفس التمشي نحو التحرر من انضباطية الجنس الأدبي سيقول عنها بارت:
quot;هو كتاب يفتقر للحسم يعمد إلى إنتاج مشهد لغوي من حيث إنه يحتفي بالدوال على حساب المدلولات؛ إنه شعر النثرquot;.
لحق الحلاق الذي سرق منه كيخاد ا طاسته للحلاقة وقال له هات الطاسة فأجابه دون كيشوتquot; quot;هي خوذتي التي سأحارب بهاquot;.
جعل جويس من محاولة الاختراق دينا جديا تفشى وجاءت كتابات quot;بروستquot; لترسخ هذا التوجه مما جعل ناتالي ساروت تهتف وهي بصدد صاحب quot;البحث عن الزمن الضائعquot;: quot;لقد فتح عصر الريبةquot;
فعلا؛ تتالت الأعمال السردية المتمردة؛ سيجيء البولوني فيتولد غمبروفيتش يكتب نصوصا روائية بالقدر الذي لا تتوسل فيه الغنائية تحتكم إلى الواقع عبر فتنة مخيلة متجاوزة ورواياته quot;فيرديدوركquot; وquot;الأدب الإباحيquot; هي بمثابة شذرات تشردية يتهيَّأ إنها حكايات ولكنها مقاربات نثرية مختلفة ذات منزع شعري و ستأتي رواية rsquo;rsquo; السائرون نياما quot;لهيرمان بروخ لتمزج بين خمسة أجناس مختلفة ndash;رواية.. قصة.. شعر.. دراسة؛ وستاتي أعمال لولكليزيو الذي يمزج بين أكثر من جنس وينسف القاعدة موظفا كل طاقات الكتابة من اجل إنجاز عمل أكثر تحررا؛ ولعل ما قاله الكاتب الكبير ميلان كونديرا بشأنquot; مائة عام من العزلة لغابريال ماركيز يؤكد فعلا ما قالته ساروت هو عصر الريبة وعدم الاطمئنان ليقين النظريات
quot;إنها واحدة من اعظم النتاجات الأدبية الشعرية التي عرفتهاquot;
ولم يقل النتاجات الروائية؟