في افتتاح المؤتمر الدولي للمخطوطات المترجمة
(العبرية) كانت معبراً رئيسا في نقل تراث العرب إلى أوروبا

محمد الحمامصي من الاسكندرية: أكد د. إسماعيل سراج الدين مدير مكتبة الإسكندرية في افتتاح المؤتمر الدولي الرابع لمركز المخطوطات (المخطوطات المترجمة) والذي يشارك فيه ما يزيد على خمسين باحثا عربيا ودوليا من الشرق والغرب ويستمر لأربعة أيام (29 مايو ـ 1 يونيو)أن الأدب العربي ابتدأ مسيرته بما ترجمه العرب من علوم الأوائل في بيت الحكمة ببغداد وفي معاقل العلم العربية التي حمل بعدها العرب مشعل الحضارة قرونا طويلة ، فكانت الترجمة بمثابة الشرارة التي انطلق منها الإبداع العلمي والثقافي العربي في زمن كانت المنطقة العربية خلاله هي البقعة المضيئة بالمعرفة في العالم ، وأضاف أن موضوع المؤتمر وإن كان تراثيا بطبيعته إلا أنه يلقي الضوء أيضا علي الحالة الراهنة لثقافتنا العربية التي لا بديل لها عن الترجمة حتى تتفاعل مع ما يجري حولنا في العالم من تطور وثورات معرفية متتالية.
وأشاد د. إسماعيل بجهد القائمين علي مركز المخطوطات وخص د. يوسف زيدان مدير المركز وقال إن مركز المخطوطات يدعم الوجه الأكاديمي للمكتبة ليس فقط من خلال هذه المؤتمرات الدولية المتخصصة بل وأيضا في المشروعات والمسارات الأكاديمية الجارية مثل مشروع الباحث المقيم الذي استضاف كبار الباحثين التراثيين في العالم ، أيضا شهد المركز تطورات كبيرة مؤخرا خاصة في معمل الترميم الذي توسعت أعماله ليس في مكتبة الإسكندرية وحدها بل في مجموعات وزارة الثقافة المصرية ومقتنيات عديد من المؤسسات العربية .

وممثلا لمحافظ الإسكندرية اللواء عادل لبيب تحدث اللواء صقاء الدين كامل فأكد في كلمته علي أهمية ترسيخ الدور الحضاري لمدينة الإسكندرية عبر مكتبتها التي لعبت هذا الدور في الماضي ولا تزال تواصله في الحاضر ، مشيرا إلي أن الرؤية المستقبلية للمكتبة تعمل وفقا لصياغة مستقبل أفضل . .

أما د.يوسف زيدان مدير مركز ومتحف المخطوطات ورئيس المؤتمر فقد جاءت كلمته كاشفة للكثير من أسرار العلاقة بين التراث العربي والترجمة ، حيث أعلن أن التراث العربي فيه ما ليس عربيا الشيء الكثير وأنه مثله مثل أي تراث لم ينشأ معلقا في الفراغ ، وأنه يمثل وصلة حضارية بين الشعوب وتلك هي فلسفة مكتبة الإسكندرية ، مشيرا إلي أن الترجمة شرط من شروط التحضر وباب للتواصل الإنساني وأيضا باب للخلاف .
وقال د. يوسف زيدان : كثيراً ما تُخايلنا اللغةُ بأفكارٍ تُصاغ فى عباراتٍ متداولةٍ تصدُقُ فى الوَهْمِ ، ولا يَنْصاعُ لها الواقعُ .. من ذلك ، قولُنا إن الزمان : ماضٍ وحاضرٌ ومستقبلٌ ! فَفىِ هذهِ العبارةِ من المخايلةِ ، بل المخاتلةِ، شيئٌ كثيرٌ ، إذ أن البُعدَ الأوسطَ من هذا التقسيمِ الثلاثىِ (الحاضر) هو محضُ افتراضٍ . فالحاضرُ بطبيعتِه لازمانىّ ، والزمانُ الإنسانىُّ هو انتقالٌ دائمٌ من الماضى إلى المستقبلِ، عبرَ البوابةِ الافتراضيةِ التى نسميها : الحاضر .. وَهىَ افتراضيةٌ ، لأنها غيرُ قائمةٍ إلا فى أذهاننِا ! وإلا ، فحين نقول (الآن) نكون عبرنا من بوابةِ الزمان إلى الماضى، وفات (الآن) فدخل فى نطاقِ الماضى ، ووَلَجَ توّاً فى المستقبل ! الزمانُ الإنسانىُّ ، إذن ، هو ماضٍ ومستقبلٌ . وما الحاضرُ إلا العبورُ الدائمُ من الآتى إلى الفائِت ! هو تدفُّقُ (الفَوْتِ) الذى لاينقطعُ ، وهو امتدادُ الخطِّ بين نُقْطَتَىْ الماضى والآتى ، أو بين التراثِ والمستقبلِ .. وما من زمنٍ إنسانىٍّ ، وما من فعلٍ إنسانىٍّ، وما من واقعٍ إنسانىٍّ؛ إلا وهو محكومٌ بين هذين الطرفين الحقيقيين : التراث والمستقبل .
والمستقبلُ آفاقٌ مُحتمَلَةٌ ، غيرُ محدودةٍ ، لكنَّها محكومةٌ بتراثِها . فلا يمكنُ لأىِّ شأنٍ إنسانىٍّ أن يَتِمَّ فى الفراغِ ، أو يدخل حيز الفعل من غيرِ أن يكونَ امتداداً لزمنٍ سابقٍ عليهِ ، يكون (تراثاً) لهذا الفعلِ وذاكَ الفاعل .. ولهذا، فَمَنْ لا إِرْثَ لَهُ ، لا غَدَ له!
ومن مُخايلةِ ndash; بل مخاتلةِ - اللغة ، أن نقولَ تراثْ بصيغةِ المفرد ، وكأنَّ الذى (مَرَّ) وانقضى من الفعلِ الإنسانىِ ، كان واحداً .. مع أنه فى واقع الحال كانَ مُتنوّعاً إلى درجةِ التناقضِ ، ومتفاوتاً إلى الدرجةِ التى يَخرجُ معَها عن أىِ حصرٍ . بحيث لايجوزُ إطلاقاً ، إطلاقُ المفردِ على هذا الجمعِ الكثيرِ . ولذا ، فإن قولَنا (التراثُ العربىُّ) لايَعْنى عربيةَ هذا التراثِ الخالصةَ .. ففى هذا التراثِ نتاجُ (الماضى) السابق عليه ، وآثار الشعوب التى سَبَقَتِ العربَ من سُريانَ ويونانَ وفُرسٍ وهنودٍ ومصريين .. وفى هذا التراث ، فعلُ غيرِ العرب من الأممِ ، وغيرِ المسلمينَ من أهلِ المِلل .. وفى هذا التراث اجتهاداتُ الفقهاءِ وأشعارُ المتماجِنين ، تفسيراتُ المصحفِ وتجاربُ الكيميائيين ، ابتهالاتُ الصوفيةِ وأرصادُ الفلكيين ، جهودُ النُّحاةِ وعَسْفُ الولاةِ ، الحسابُ والهندساتُ والمكائد والمؤامرات .. هذا كلُّهُ ، وغيُرهُ الكثيرُ ، نجمعُهُ فى كلمةٍ واحدةٍ فنقولُ (التراثَ) مع أنه ليس واحداً . ثم نُضيفُ إليه فنقولُ (التراثَ العربىَّ) مع أنهُ ليس عربياً خالصاً .. وإنما تغلب عليهِ (العربيةُ) فيُنسب إليها .
غير أن هذه الصيغَ اللُّغويةَ الجاهزةَ ، والمفاهيم المعتادة الجارية على الألسنة ، تدعونا لأن نرتاحَ! فلا نبحثُ فى تنوعِ التراثِ ، ولا فى جذورِهِ التى هى (تراثُ التراثِ) أو بالأحرى: تراثياتُ التراثياتِ .. نرتاحُ ، قانعينَ بما خَايلَتَنْاَ به اللغةُ ، وقابعينَ على الأوهامِ التى نشكِّلُها فى أذهانِنا، بدعمٍ من هذهِ الصيغِ اللغويةِ الجاهزةِ والمفاهيم المعتادة .. نرتاحُ ، من دون أن نفهمَ الماضى أو نستشرفَ المستقبلَ . ومِن ثَمَّ ، يضيعُ من بينِ أيديِنا البُعْدانِ الأساسيانِ للزمانِ الإنسانى .. يَضيعُ الوعىُ بما كان ، وبالتالى الرنوُّ إلى ما سيكون .

وشدد د. زبدان علي أن هذا المؤتمرُ محاولةٌ للفَهْمِ وإمعانٌ للنظرِ فى مكوِّناتِ هذا الرُّكامِ الهائلِ ، الممتدِ فينا، الذى نسمِّيهِ التراث .. مقتنعين ابتداءً ، بأنَّ تراثَنا لم يتشكَّلْ فى شرنقةٍ ذاتيةٍ ، وإنما توالت بِهِ حركةُ التواصلِ الحضارىِ ، فوَصَلَ ما قبلَهُ من إرثِ الأممِ الأقدمِ ، بما بعدَهُ من نهوضِ شعوبِ الغربِ الأوروبى .. على أنَّ تراثَنا لم يَكُنْ ، وَحْدَهُ، هو (الوصلةَ) بين سابِقهِ واللاحقِ عليه ، وإنما كُلُّ (تراثٍ) هو بالضرورة وصلةٌ، وحلقةُ ارتباطٍ .. وتراثُنا لم يصلْ اليونانَ القديمةَ بأوروبا الحديثة ، فحسب ، وإنما امتدت جذوره التاريخية لتصل إلى طبقاتٍ أسبق من زمن اليونان، ولسوف تمتد آثارهُ بالضرورةِ لزمنٍ طويل سوف يشكِّل مستقبل هذه المنطقة وما حولها. وهناك عديدٌ من الأدلة على هذا وذاك ، فإذا نظرنا إلى (تراث تراثنا) وجدناه يصل بالقطع إلى ما قبل اليونان . وهو ما تؤكِّدُهُ الأعمالُ المبكرةُ لابن المقفعِ وابنِ وحشيةِ النبطى وأبى الرَّيحانِ البيرونى .. ويتأكَّد أيضاً ، على نحوٍ أنصعَ ، فى مخطوطةِ بنى موسى بن شاكر المحفوظة بمكتبة (نور عثمانية) التركية تحت رقم 2800 التى عُنوانُها : كتابُ الدرجاتِ المعروفةِ فى طبائعِ البروج ، منقولاً عن حكماءِ الهندِ وكتبِهمِ المصحَّحة . ففى مقدمة المخطوطة يقولُ (الأخوةُ الثلاثةُ) الذين عاشوا فى زمنِ المأمونِ ، ما نصُّهُ: إن القدماءَ من أهلِ اليونانيةِ ، تسلَّموا علومَهُم التجريبيةَ من الهندِ .. ولما نظرنا فى الكتبِ الموجودةِ إلى الآنَ ، فى معرفةِ أحكامِ النجومِ ، وجدنا أكثرها حايداً عن الصواب وعن ما سَطَّرَةُ أَولوهُم ، ووجدنا لقدمائِهِم كُتباً قد هجرها المتأخرونَ لجهلهِم استعمالَ ما فيها ، ولبُعدها عن أذهانهم ، فتكلَّفنا التعب الشديد فى نقلها إلى لغة العرب ، واستعنَّا فى ذلك بأفضل ما وجدناه من الناقلين فى زماننا، واجتهدنا فى تهذيب العبارة وإصلاحِها .. وقد ضمَّتْ هذهِ المخطوطةُ، ترجمةً عربيةً لثلاثةِ كتبٍ هنديةٍ فى الفَلَكِ ، الأولُ فى طبائعِ دُرجِ البروجِ المتحيِّرةِ، كالمشتَرِى والزُّهرة. والثانى اثنتا عشرةَ مقالةً فى طبائعِ دُرجِ الكواكبِ العظيمةِ. والثالثُ فى كيفيةِ حال البروجِ، مع اتصالاتِ الكواكبِ المتحيِّرةِ .. وبين ثنايا المخطوطة ، يصادفنا قول بنى موسى بن شاكر أو بالأحرى نصيحتُهمُ : متى رأيتَ قضيةً من قضايا هذا الكتاب لم تصح ، فاعلم أن الراصد قد أخطأ فى الدرجة ، إما بنفسه أو بآلته التى رصدَ بها .. وهذا معنىً جليلٌ فى نفسِهِ ، دقيق فى نيله وإدراكهِ، وينبغى أن لاتُهملَهُ ، فإنه هو الصناعةُ نفسُها، وهو يحتاجُ إلى العلمِ أولاً ، ثم إلى الدُّرْبة .
وهذهِ المخطوطةُ ، هى واحدةٌ من الأمثلة العديدة الدالة على بعث العربِ للآثارِ الباقيةِ عن قرونِ الشرقِ الخالية . وفى تراثِنا أمثلةٌ أخرى ، تؤكِّد إنطاقَ علمائِنا الأوائلِ لآثارِ الفرسِ والهنودِ ، لا اليونان وحدَهُم ، بلغةٍ عربيةٍ فصيحةٍ . عبر مسارٍ طويلٍ ، شاقٍّ ومشوِّقٍ، نسميهِ اصطلاحاً : حركة الترجمة والنقل .
ومعروفٌ لكل من نظر فى تراثنا ، أن حركةَ الترجمة والنقل كانت واحدةٌ من المراحلِ الركيزيةِ التى انطلقت منها الحضارة العربية الإسلامية . إذ كانت الترجمة منصَّة الانطلاق نحو مسيرةِ التحضُّرِ العربىِ ، الذى امتد عدة قرونٍ تالية .
وقد استقرت كتاباتُ المتخصِّصين ، على أن هذه الحركة العلمية النشطة قد تحققت عبر مراحل أربع : الأولى عمليةُ نقلِ علوم الأوائل أيام الدولة الأموية ، وهى المرحلة التى امتدت ستين عاماً . والثانية هى الفترةُ من خلافة المنصور إلى وفاة هارون الرشيد ، وهى التى نبغ فيها من المترجمين: يوحنا البطريق ، ابن المقفع ، يوحنا بن ماسويه. وكانت الثالثة هى مرحلة الازدهار ، حيث أُنجزت ترجماتُ حُنين بن إسحاق وتلاميذه .
وبمناسبة ذِكْر حُنين بن إسحاق أشيرُ هنا إلى أن (معرض المخطوطات المترجمة) الذى سيفتتح عقب هذه الجلسة ، يضم نماذج (مدهشةً) مُختارةً من رصيدِ مكتبة الإسكندرية من المخطوطات الأصلية والمصورة منها ، لحنين بن إسحاق ، أعمالٌ لاتزال تُحدِّث بما أعطاه لنا من ترجمات قبل اثنى عشر قرناً من الزمان. وبخصوص حنين بن إسحاق أيضاً، تجب الإشارة إلى أننا فى مركز المخطوطات، انتهينا مؤخَّراً من عمل قائمةٍ حصريةٍ لنسخ المخطوطات الباقية إلى اليوم من ترجماته الموزَّعة بين مكتبات العالم وخزائن مخطوطاته . ولسوف ننشر قريباً هذه القائمة الجامعة ، التى تشتمل على قرابة مائة عنوان بقيت لها قرابة أربعمائةِ نسخةٍ خطية ، بعد مراجعتها جيداً ،ً لتكون مرجعاً للباحثين .
نعود لمراحل الترجمة ، فنشير إلى أن المرحلة الرابعةَ الأخيرة ، كانت هى الفترةُ الممتدةُ من مطلع القرن الرابع الهجرى ، إلى منتصف القرنِ الخامس. وفيها كما هو معلوم، من المترجمين المشهورين: أبو بشر متى بن يونس ، أبو سليمان السجستانى، أبو عثمان الدمشقى، أبو على عيسى بن زرعة .. وغيرهم .

وقال د. يوسف زيدان : فى مفتتح هذا المؤتمر نؤكد أن حركة الترجمة والنقل لم تتطوَّر خلال هذه المراحل الأربعة السابقة ، بمعزلٍ عن ظروفٍ (بل شروطٍ) موضوعية أدَّت إلى توالى هذه المراحل ، وإلى اكتساء كل مرحلةٍ منها بطابعٍ مميز . فلم يكن الأمرُ تتابعاً زمنياً ساذجاً، مجتثاً من سياقاته المعرفية . وإنما كانت لكل مرحلة ظروفٌ، وأزمةٌ دافعة ، وشغفٌ معرفىٌّ يحدو العلماء العرب إلى معرفة المزيد . وعلى هذا النحو تواصلت المراحل على ما بينها من اختلافات ، فأُطلق على المجموع : حركة الترجمة والنقل !

وأضاف : تجدر الإشارة إلى أن حركة الترجمة والنقل على تنوُّع مراحلها الزمنية عند العرب ، كانت خطوةً فى مسارٍ طويل انسربت خلاله المعارفُ الإنسانية خلال تاريخ الأمم والحضارات . ففى البدء كانت مصر ، ثم جاءت إليها اليونانُ ممثلةً فى الثلاثة الكبار : طاليس (أول الفلاسفة) فيثاغورس (أعظم الرياضيين) أفلاطون (أشهر فيلسوف) .. فأخذ هؤلاء وغيرهم ، مشافهةً ومشاهدةً، علوم مصر القديمة إلى بلادهم. ثم أبدع اليونان فى لغتهم ، وسرعان ما انسرب إبداعهم ، الملقَّح أيضاً بمعارف شرقية من الهند وفارس فاستقر بالإسكندرية .. ومن الإسكندرية إلى بغداد ، انتقلت العلوم والمعارف إلى ديار العرب المسلمين . وما لبثت مشاعل المعرفة بعد حين ، أن انتقلت إلى أوروبا فى فجر الرينسانس خلال المعابر الحضارية الشهيرة: باليرمو ، صقلية ، إسبانيا .. وغيرها . وفى كل نقلةٍ من تلك، كانت الترجمةُ هى الواسطة الأولى للتفاعل الحضارى . فمن الهيروغليفية إلى اليونانية ، ومن لغات الشرق إلى اليونانية ، ومن اليونانية إلى السريانية ، ومن كليهما إلى العربية ، ومن العربية إلى اللاتينية واللغات الأوروبية .. امتدَّ العطاء الإنسانىُّ وتراكمت الإسهاماتُ الحضاريةُ للأمم والشعوب .
ومؤتمرُنا هذا لايسعى ، فحسبْ ، لإمعانِ النظرِ فى حركة الترجمة ودراسة المنقول إلى لغة العرب ، أو المنقول منها إلى اللغات الأخرى . وإنما يسعى أيضاً لفهم طبيعة اللغة العربية ذاتِها، فى تواصلِها التاريخىِّ مع لغاتِ الأمم التى تفاعلت تراثياتُها تفاعلاً مستمراً . والمؤتمر محاولة مخلصة ، دؤوبٍ ، لفهم طبيعة الصلات العميقة بين العربية واللغات التى تفاعلت معها، ومنها السُّريانيةُ (الآرامية) التى نقل عنها العربُ الكثير من آدابها وعلومها المبتكرة فيها أو المنقولة إليها من اليونانية ، وكان نضجُها اللغوىُّ فى مرحلتيها (الآرامية) المبكرة و (السريانية) التالية ، أسبق زمناً من النضج اللغوىِّ العربى . حتى أن بعض اللغويين العرب قالوا ، قديماً : العربيةُ مكسورُ السريانية ! ولكن السريانية صارت بعد حين عند العرب ، ويا للعجب ، هى لغة: أكلونى البراغيث ! أسموها بذلك لأن السريانية تقدِّم الفعل على الفاعل ، حتى لو كان فى صيغة الجمع .. فماذا عن جذور العلاقة العميقة بين اللغتين الأختين : العربية والسريانية .. وماذا عن اللغة العبرية التى لم يشتهر أمرُ التفاعل الحضارى بينها وبين العربية على مستوى النقل والترجمة ، مع أن (العبرية) كانت معبراً من المعابر الرئيسة التى انتقل من خلالها تراث العرب إلى أوروبا ؟ .. وكيف انتقل العلم بين أهل هذه اللغات ، وبأىِّ أسلوب جرت الترجمة وتقابلت المفردات العلمية ؟ .. وكيف انسربت المفاهيم الدينية الكبرى بين اللغات العبرية والآرامية (السريانية) واليونانية والعربية ، فاختلف الناس فيها حتى تكسَّرت بسببها النصالُ على النصال ، وتدفقت أنهارُ الدم .. تلك هى (الأسئلةُ الرئيسةُ) لهذا المؤتمر .

وحول عنوان المؤتمر (المخطوطات المترجمة) أشار د. زيدان إلي أن اختيار كلمة (المخطوطات) جاء لتكون إشارةً إلى ما تم (قديماً) من ترجماتٍ ، أو ما قد يتم الآن من ترجمةٍ لنصوصٍ ذات طابعٍ تراثىٍّ ، كانت مخطوطةً قبل انتشار الطباعة .. فهذا المؤتمر يعنى بالجانب التراثى من الترجمة ، وآثاره التى لاتكاد تقع تحت الحصر. بغية استكشاف العناصر الأساسية التى شكَّلت، أو ساهمت فى تشكيل، تاريخ الإنسانية وطبيعة الحضارات التى تعاصرت وتعاقبت ، وما تزال آياتُها مؤثِّرةً فينا إلى اليوم .
وأيضا هذا العنوان جاء لأنه يبحث فى تأثير الترجمات على الثقافات التى انتقلت إليها النصوص، حتى ولو كانت مخطوطاتها اليوم قد فُقدت أو انعدم وجودها بفعل عوادى الزمان، أو بفعل الفاعلين .. ولأن المؤتمر يبحث فى كيفية الترجمة ، ومذاهب المترجمين، وأنماط الترجمات التى تنوَّعت بين ما أسميه ترجمات الهوى الفردى وتلك الترجمات المؤسساتية التى نجد مثالاً لها فى أعمال بيت الحكمة ، وفى رسالة حنين بن إسحاق: فيما ترجم بعلمه من كتب جالينوس ومالم يترجم . أما ترجمات الهوى الفردى التى نراها مخطوطة أو نعرف أنها أُنجزت ، فمثالها ترجمات سرجيوس الراسعينى لنصوص الحكمة الهرمسية والعلوم الخفية، وترجماتُ النصوص السكندرية فى الكيمياء السحرية والطِّلَّسمات التى قام بها الراهب مريانوس (مارينوس السكندرى) لحساب الأمير الأُموى خالد بن يزيد .

الجدير بالذكر أن المؤتمر يشارك فيه نخبة من الباحثين العرب والمصريين والأجانب من بينهم د. محمد صالح الضالع جامعة الإسكندرية ، ود. محمد فكري(جامعة سيدي محمد بن عبدالله بفاس المغرب) ، ود. محمد محمود أبو غدير جامعة القاهرة، ود. محمود الحمزة (معهد تاريخ العلوم والتكنولوجيا) ، ود. محمود على مكي (جامعة القاهرة) و د. مروان راشد (دار المعلمين العليافرنسا( ، ود. هيلين بيلوستا (المركز القومي للأبحاث العلمية بباريسفرنسا)، و د. يان ويتكام (جامعة ليدن هولندا )، ود. أندرو بيكوك (جامعة كامبريدج ـ المملكة المتحدة)، و د. روبرت موريسون(جامعة ويتمان الولايات المتحدة) ،و د. محمد يسري )مكتبة الإسكندرية( ، ووجيه يوسف فانا (الكنيسة الإنجيلية مصر( ود. أميرة مطر )جامعة القاهرة) ود. إميلي كوترل (فرنسا) و أ. عصام الشنطي (معهد المخطوطات العربية بالقاهرة)و د. جابر عصفور(المركز القومي للترجمة) ، د. محمود مصري (المكتبة الوقفية في حلب سوريا)