1
بعد جويس وبروست كادت الرواية التقليدية، العمودية البناء، على نهج بلزاك ومن سبقه، أن تفقد شرعيتها الأدبية، غير أنها أستمرت حاضرة في أعمال مجموعة من كتاب القرن العشرين، بشكل خاص في البلدان الناطقة باللغة الألمانية، كان من أبرزهم فيرفل وتوماس مان وليون فويشتوانغر وغيرهم، بالمقابل برزت هناك محاولات تجديدية وحداثية على يد كل من روبرت موزيل و آرتور شنتزلر وهيرمان بروخ والفريد دويبلين، ومجموعة كبيرة من الأدباء الذين حملوا في داخلهم تأثيرات مدرسة فيينا، بكل أبعادها الفنية والسيكولوجية والفكرية، دون أن تكون لهم علاقة مباشرة بأعمال جويس وبروست. وربما يمكن إعتبار رواية الفريد دويبلين quot;برلين ميدان اليكساندر quot; هي الخطوة الأكثر جذرية في الأدب الألماني لولوج عصر الحداثة في الرواية في أعتمادها على تقنية تداعي الوعي والمنولوج الداخلي والتحليل السايكولوجي الفرويدي لشخصياتها. ومع إنتهاء الحرب العالمية الثانية وتشكيل دولتين ألمانيتين على أنقاض الرايخ الثالث، دخلت الرواية الألمانية، وفي الحقيقة مجمل الأدب الألماني مرحلة جديدة كان من أبرز معالمها البحث عن أساليب تعبيرية تتناسب مع الأوضاع الناتجة عن نهاية الحرب ومتطلبات بناء المجتمع الديمقراطي في غرب ألمانيا، والمجتمع الشمولي quot;الإشتراكيquot; في ألمانيا الشرقية. ففي وسط الخراب الإقتصادي والإجتماعي نشأت quot;مجموعة 47quot; التي أستمر حضورها الثقافي حتى العام 1967 وضمت العديد من الأسماء المعروفة مثل هاينرش بول والسه ايشنغر وبول سيلان وغنتر غراس وغيرهم، ممن يمثلون مختلف التيارات الأدبية والفكرية، وكان آرنو شميدت (1914- 1979) واحدا منهم. وعلى العكس من النهج الواقعي الذي أتبعه هاينرش بول وغنتر غراس، توجه آرنو شميدت منذ أعماله الأولى نحو التجريب في مجال الشكل والمحتوى. في quot;ليفياتان (الوحش) أو أفضل العوالمquot; الذي جاء كأول عمل للكاتب، نشر في العام 1949، وظف تقنية جديدة، علما بأن العمل يقع في 31 صفحة في اللغة الألمانية، في معالجة موضوعة الحرب، تختلف جذريا عن المعالجات الأخرى لهذا الموضوع من ناحية تشعبها وكثافتها، وتداخل أحداثها: فهناك رسالة الجندي الألماني الهارب من الخدمة التي تصل للأمريكان، لتضعهم أمام جملة من الأسئلة المحيرة حول مصدرها، وهناك هذا الخليط البشري المتنوع المحشور في عربة قطار معلقة بين السماء والأرض وسط جسر سقط نصفه، وما زال نصفه معرضا للسقوط، عوالم تجمعها الصدفة والكارثة متمثلة في quot;لافياتانquot;، ذلك الكيان التوراتي الشرير الذي يمثل أقصى درجات البشاعة الأرضية.
في النتيجة جاء نشر هذه الحكاية فاتحة لعهد جديد في الأدب الألماني الحديث، وفي الوقت ذاته تعبيرا عن خيبة الأمل الداخلية لجيل آرنو شميدت في مواجهة كوارث الحرب وإشكالات البداية الجديدة. وبهدف إستكمال اللوحة يجب التذكير بأن عنوان الحكاية هو إشارة مباشرة الى كتاب ثوماس هوبس quot;لافياتان: شكل وسلطة نظام جماعي للكنيسة والمجتمعquot;، حيث يحدد هوبس أمراض البشرية، وبالتحديد ما يسميه bellum omnio contra omnes أي ما يعني quot;حرب الكل ضد الكلquot;، لينتقل للمطالبة بفرض نظام تفرضه الكنيسة والدولة على البشر الذين يميلون في طبيعتهم الى الشر. غير أن آرنو شميدت يقلب في حكايته المذكورة المعادلة محددا الكوارث البشرية كنتيجة لهيمنة النظام القمعي، سواء كان كنسيا، أو علمانيا، إضافة للخراب الداخلي للفرد وبصمات اليأس المتكامل كما رسمها الفيلسوف شوبنهاور. وفي معترك الإغراءات الأيدلوجية المختلفة فضل آرنو شميدت تسليم عنقه لسلطة الكلمة في أكثر أشكالها نقاءا، مطوعا إياها في الوقت نفسه لخدمة أغراضه الفنية دون خوف من خراتيت النقد وأصوليي اللغة. ومن خلال ولعه بالكلمة أستطاع إستيعاب متاهاتها في مغامرة، ربما لا يمكن أن تقارن إلا بمغامرة جويس في رواياته الكبرى. وفي صلب هذه المغامرة يسكن الموت.

2
في الجانب النظري لم يخف آرنو شميدت تعلقه بنظرية النخبة في الأدب والفكر، لذا فأن كتاباته لم تكن في الأصل موجهة للجمهور الواسع ،بل أبعد ما تكون عن محاولات القسر الإيديولوجية أو التبسيط المعرفي، لهذا السبب فأنها لم تجد لها صدى يذكر في النقاش الأدبي والفكري في شرق ألمانيا، في الوقت الذي كانت فيه دور النشر الشرقية تلهث وراء أعمال هاينرش بول، بإعتبارها تنتمي للمدرسة الواقعية النقدية، مدخل quot;الواقعية الإشتراكيةquot;. في هذا المضمون قال آرنو شميدت أثناء منحه جائزة غويتة: quot;غويته ndash; مازالت يده تهبنا البركات، قال ذات مرة على الشاعر أن يرافق الملك. لا أجد مبررا للنقاش حول هذه النصيحة، إذ لم يعد هناك سوى عدد محدود من البيوت الملكية. على بعد عشرين كيلومترا من المنطقة التي أسكن فيها هناك من يقول بثقة كبيرة بالنفس أن على الشاعر أن يرافق العامل. لا يمكنني السكوت أمام هذا المطلب، لأنه يعني الملايين من البشر، وبشكل خاص الألمان: أنها حرب الفلاحين والعمال ضد المخيلة..وهو لن يؤدى سوى لخلق أدب عقيم لأغراض الإستهلاك..quot;
الأدب والفن، وحتى الفلسفة وعلم النفس، هي نشاطات نخبوية بإمتياز، بنايات مغلقة على الوعي الجمعي لما تحتويه من الإشارات والهوامش التي يصعب إستيعابها من قبل القارئ العادي، ومنها ما تتطلب جهدا طرديا، أي بموازاة العملية الإبداعية لفك ألغازها. في هذا المفهوم تفقد مصطلحات تسييس وأدلجة الأدب، حيثما كان منشؤها، مشروعيتها الفكرية. للتأكيد على هذه المقولة، وبمواجهة المتحججين بأن بعض المنجزات الفكرية المطروحة تجد إقبالا عليها من قبل الجمهور يقول آرنو شميدت: quot;الإنتشار الواسع لكتابي سيغموند فرويد quot;تفسير الأحلامquot; و quot;النكتةquot; لا يعني بأننا أصبحنا محاطين بمئات الألاف من المفكرين، بل هو ببساطة نتاج لعناوين هذين الكتابين: فقد أعتبر الجمهور أحدهما مجموعة نكات، أما الآخر فقد أقبل عليه الناس لمعرفة فيما إذا كان الشخص الأسمر الذي مر بسرعة على خلايا المخيخ سيجلب لهم الرفاه المادي.quot;
رغم جذرية هذا الموقف تجاه quot;الجمهورquot; جاءت أعمال آرنو شميدت في أغلبها إستفزازية، حتى أقيم عليه العديد من الدعاوي بسبب إستفزاز المشاعر الدينية، أو بالترويج للخلاعة كما حصل مع quot;منظر بحيرة وبوكاهونتاسquot; ndash; بوكاهونتاس هي أميرة من الهنود الحمر، أنقذت جنرالا أنجليزيا من الموت، ثم أنتقلت بعدها للعيش في إنجلترا-، نشرت في العام 1955 في مجلة الشاعر الفريد أندريش quot;نصوص وإشاراتquot;. في هذه الحكاية يتحدث الكاتب عن رحلة يقوم بها صديقان الى مصيف يقع قرب بحيرة، حيث يتعرفان هناك على فتاتين في علاقة عابرة، فيطلق الشاعر على صديقته سلمى تسمية quot;بوكاهونتاسquot;، مشبها إياها بالأميرة الهندية التي تحمل الحكاية أسمها.
من خلال ولعه بالتجريب والبحث بإستمرار عن أدوات جديدة للتعبير وجد شميدت طريقه الى جيمس جويس، حيث رأى في الأخير قمة الكشف الروائي والمعرفي للحياة المعاصرة، وكان يسعى، قبل إلتقائه بالمترجم والأديب هانس وولشليغر من خلال العمل المشترك على ترجمة أعمال أدغار الين بو الى الألمانية، الى ترجمة quot;يوليسيسquot; و quot;يقظة فينيغانquot;، إلا أنه ترك هذا الأمر لوولشليغر، منصرفا لكتابة quot;حلم تستلquot;، تلك الرواية التي مازالت تضع النقاد أمام الغاز لا تعداد لها.

3
quot;حلم تستلquot; عنوان يحمل الكثير من الدلائل، فهو ينقلنا من جهة الى مسرحية شكسبير quot;حلم ليلة صيفquot; وشخصية Nick Bottom ،الحائك الذي يصيبه السحر فيتحول رأسه الى رأس حمار (في ترجمة شليغل يحمل الحائك تسمية Zettel )، ومن جهة أخرى تعني كلمة Zettel بالألمانية قصاصة الورق، ويمكن أن يدل هذا على الآلاف من قصاصات الورق التي أستعملها شميدت لتسجيل الملاحظات التي بنيت الرواية عليها، بناء على هذا يمكن كذلك ترجمة عنوان الرواية بـ quot;حلم قصاصة الورقquot;.
و تعتبر هذه الرواية بالنسبة للأدب الألماني رديفا لرواية quot;فينيغان ويكسquot; لجيمس جويس في الأدب الإنجليزي، من حيث تشابك شخصياتها وتداخل الأجناس الأدبية فيها وتنوعها اللغوي، كذلك في تجاوزها لحدود اللغة وعدم الإقتصار على لغة واحدة، بل إستعمال مجمل المحتوى المعرفي للغات اللاتينية، وتخليها عن شكل الكتابة المعهودة بالطابعة على الورق الأعتيادي، إذ إنها تحتوي على 1334 صفحة كبيرة A3 ، أصر الكاتب على نشرها كصورة طبق الأصل للمسودة، كتبت عليها الرواية في ثلاثة أعمدة يحتوي كل منها علىعدة جوانب من الحدث الروائي، تتداخل فيما بينها، في تكوين يحتوي على تعليقات وهوامش وتحليلات أدبية وقصاصات جرائد إضافة الى ملاحظات كتبت بخط يد الكاتب، حول محور أساسي يدور حول زيارة عائلة المترجم والمترجمة ياكوبي برفقة أبنتهم التي تبلغ السادسة عشرة من عمرها للأديب دانييل باغنشتيشرالذي يعيش منفردا في بيته الواقع في الريف. وتجري خلال هذه الزيارة أحاديث عميقة حول الترجمة الأدبية وبشكل خاص حول ترجمة أعمال أدغار الان بو الى الألمانية، بينما تنشأ أثناء ذلك علاقة أيروسية بين الصبية والشاعر لا تكتمل أثناء الرواية. وأثناء هذا الحدث اللاحدث يدخل القارئ عالما مليئا بالإستطرادات والتداعيات الثقافية والسيكولوجية، تصبح فيه الكلمة المكتوبة مدخلا الى دواخل الإنسان، كما هي مادة تجريبية للخروج من إسر اللغة. في الحصيلة جاءت أعمال الكاتب، في أبعادها الفنية والفكرية، تجربة منفردة في الأدب الألماني الحديث في جذريتها وعدم خضوعها لقوانين السوق، علما بأنه كان يروج لضرورة تمكين الكاتب من الإنصراف كليا للكتابة، كونها تتطلب حرفية عالية من الصعب التوصل إليها في حال إنشغال الكاتب بمهام حياتية أخرى. أما في الجانب الفلسفي فقد أصر شميدت حتى النهاية على أرتباطه الفكري بنيتشة وشوبنهاور، والإلتزام جذريا برفض السطوة الدينية.