فاضَ دم ٌ أكثر من الهواء. جثث ٌ طافية. ماذا يفعل ُ لي الكتاب؟ رميته ُ على الجرف. مضيتُ تاركاً أمي وأبي. نسيت ُ موتاي. مضيت ُ ناسيا ً بابي مفتوحا ً لقليل من الحياة. رأيت على الرمل ظلا لصقر غريب.الموتُ سالتْ روحـُه ُ في ماء المدينة. ومن عبث البلاد غسلتهم بدخان السماء. بعري الكلام. سرتُ عابرا نهريّ. عناية ُالطير شملتني فأتبعتها حتى مررّت ُعلى أناس رؤوسهم في الظلام بيضاء. صعدت ُنحو المئذنة. لا أحد معي. الصقورُ حلـّـقت فوقي، أرعبتني العاصفة، شلـّت قدمي ولم أنظرْ. رفعت ُرأسي أحصيتهم. واحدا. واحدا. ثلاثون صقرا ً كتموا مصيري. نسائم الموت مرّت مع الغيم حين فتحت ُ أبوابي. بغداد وحدها. تركت ُ أمي والعجائز يركضن إلى الحدائق يحفزن قليل الحياة وينتظرن الابادة. لفائف ُ قديمة بيدهم. كتاب ٌ.خرائط يرون فيها الأرض ضوءا بعيدا. نسيت ُ رأسي ومضيت ُ أعيد التذكـّر. حلـّقت فوقي الصقور. رأيته يرتجف ُ تحت النظرة الأولى ويختبئ ُ. هنا مئذنة عالية. انهمرتْ من قلب السماء كرات ُ اللهب. جدراني أبيدتْ. لهب ٌ. لهبا ً تقذفه الصقور. تنفلق ُ المدينة كلها. حياتي تنفلقُ. أشتعلتْ رؤوس الأطفال. الورد ُيفرّ من يد القاطف. رؤوسٌ في ساحة النار. الطيرُ ينزف. وأنا أقول: السماء ُغلطة الأرض لا أكثر ولا أقل.

خرجوا
لا حديقة بالقرب منهم
صاروا غيوما وناموا
لاقمصان لا صحون لهم
من تحت الركام قاموا وقالوا:

بعد كل هذا الذبح بسيف السماء ماذا يفعل لنا الكتاب؟ أوراق ٌ كثيرة تسقط منه. أوراقٌ كثيرة تطيرُ إلى وادي السلام. شتاءٌ طويل. صقورٌ تلتقط ُالكائنات. رفع َرأسه وفرّ من قسوة عينيه في هذا الخراب. تفيضُ دجلة دما ً.أب يتهدّم كلـّما مرّت أمام عينيه كرة من اللهب. حائط ٌ ينهار.هزائم وهزّات. نهر بين لهيبين. عبروا الأدلاء ُ. سقط كل شيء. الطريق مقفلة.البريد معطل. أثر بعد عين. الدخان أزرق. صراخ. زجاج حياة يتشظى. جاء من السماء موتنا. رضيع فوق ثدي قتيل. رؤوس مقطوعة قرب مقبرة في العراء. يخرجون الى أين؟. فليفر من أراد النجاة. هذا صوت طائر وهو يفر. أشجارنا جفت. جفت ِالأمهات. هذا الذي تفرون منه يتسع. تحيطنا لافتة سوداء على الحائط خطها الندم. العاصفة هبت لمحونا. لهب يسيح في قش المكان. الصقر في الليل يهبط وينحني يصعد ويقلع تماثيل الشمع. أحدهم يصعد يلتف وعلى نفسه يدور. يكتب بدخانه أشارة ويرجع إلى حفرة في عمق السماء. تحته بنت تهذب ليلها. تصِف ُ أسماء أهلها خوذا على ضفاف النهر. وهي تقول: الكلام غلطة الصمت لا أكثر ولا أقل.

أضاع وروده
من على الرفوف
لوحاته اختفت والممشى
غرفة النوم وزجاجة عطره
أميرته والسرير.
عينان بنيتان
اختفتا.

مضى الى المأذنة و قلبه أسود. خرج من الصحراء بعد حلولها. نصفه محنط ونصفه مجنون. يخرج يقتفي آثار العابرين. معه أب وأم وبنت إطارهم الدخان. جمرة في كفــّـه. تطفو خوذ. موتى وراء النهرين. الصقر يتفنـّن بطرقه الكثيرة. المشهد يفتح امتداده في السماء التي أهالت كل قذائفها. تطفو الكائنات. ألواح خشب على المياه جاؤوا سبعة، سبعة. يسيرون في نومهم يبعثرون حياتهم حصى في الطريق. خرجت ُ وبقيت بغداد وحدها. دم. نار.رماد. تكبر الخرافة في ليل الجنون تتوغل فوقها الصقور هبطوا واحدا بعد آخر. كان شمعة. انزاحت الحياة كلها إلى ضفاف النهر. وهو يقول: الكتاب غلطة الأمل لا أكثر ولا أقل.

ترك روحه
على الزجاج
نثر ظلاله على الشبابيك
خبزه يابس وتنّوره بارد
زحف بطيئا
وهب سريعا.

في قوس طيرانه الصقر تذكـّر الثور المجنح والجمل الضائع وقراءة الأثر،كان يطير ويفكر كيف نحتوا الثور وكيف عرفوا مكان الجمل؟ بصيرة مصممة. خراب مزركش. فتح الكتاب والخريطة. أباد الأحفاد. ماذا ينتظرون؟ يظل في الكهوف يتذوق الكراهية ويحصي: هذا حفيد لا يدين له. هذا حفيد بلا رأس.هذا حفيد بدون قدمين. صقور تمطر علينا فصوصا. العصافير في فضاء يلتهب. من ذهب أسود جاء موتنا والظلام. بنت بلا ذراع. الفجر أسود هذا الصباح. هوى السقف على حياتنا.لا قلب لي. صار مأوى للذئاب. لا فرق بين موت وموت.رصاص الأدلاء أو نفخة من لهيب الغرباء. هذا فيض من كل داء. صورة الحياة فتك وذبح لسيّاف السماء. قتل يعلمنا كيف نصبح جيفة فيختنق الهواء. ونحن نقول: الذهب غلطة التراب لا أكثر ولا أقل.

يومَ أسقط الصقر على رأسي
فصوص ناره
ظلت شبابيكي على الرصيف
وأقفالي أصبحت
بأيدي الصبية الهاربين.
حينها شهق سياجي
رافعا ذراعيه
يريد سقفا.

سقطت شمعة. نبلة ذبحت نفسها. رؤوس تقطع بعضها بعضا. وحوش ترتع يصطفيها الفناء. لغة الفحول في خلاصة القول. ظل يروي عن أحفاده الميتين.كانت تتفوه لرضيعها لم تكن هناك مهلة بين الحليب والدم. تحكي عن نصف فم. وتنتظر الطيران كانت تلوح للصقر. قتلوها في الصباح فلم تمت. قتلوها في المساء فلم تمت. قتلوها في الليل. طارت جثتها للسماء جرفتها السيول. أية سماء؟ ماذا يفعل لها الكتاب؟ ليس للنسيان مهلة. كانت تبدّد حياتها بصمت. هزتها ريح وخطفتْ عينيها. وهي تقول: البصر غلطة العمى لا أكثر ولا أقل.

جرفوا حجارتي
جرفوا ذكرياتي
ورقا ً يابسا ً في الحديقة.
رأى حارسي
المقاعد والخزانة والأسرّة
الأواني والستائر
ترفرف له في ساحة الميدان

فرّ واختفى في وادي السلام. كان يرش الماء. يضيء البخور. يشعل شمعة. يرسم ظلا ًعلى الرمل ويمحوه. يحصي ويرمي إلى النهر الحصى. دمه لا يصافح أحدا. يسير مرتبكا. نهار يتهدم مثل جرف. لم ير مفتاحه. يدفن نفسه. يظنها من العميان يتلـّفظ بكلمات عن حفرة في رأسه. ينتحر المكان. في نهره أسماك ميتة. في حديقته جذع يابس. المفتاح يضيع. مئذنة سقطت. بغداد بين خاتمتين الموت وخاتمة الكتاب. ديناصور خرج من كتاب قديم.طحن حياتنا طحنا ً طحنا ً. ذرة غبار في عاصفة. سلـّة في يد السياف تلمع فيها الرؤوس. في البيت آبار تنزّ دما ً. نفر ّ إلى النهر. النار زاحفة. تدور في راحاتنا الحياة خوخة متعفنة. نهر دم حياتنا. حائط عليه شتائم مكتوبة. ذكرى حياة زائلة. في الخرائب امرأة مغتصبة. خرائب الهاربين. بغداد وحدها. الفجرُ أعمى والنهرُ. فلتسقط السماء أريد نهاري. رياح مجنونة. أبواق الفحولة وعنف القوارير. إبريق قديم. وشايات وأكاذيب. كل يدعي وصلا في انفصاله. هم قضبوا بيد وانتزعوا بيد أخرى ونسجوا طاغية آخر. عنكبوت الذهب الأسود. الإدلاء والشعراء والمخبرون في شوارع المدينة. لماذا لم نذكر جملة قيلت؟ كل امريء هنا مجرم حتى يثبت على براءته الدليل * مجـّدوا عري الكلام. في بغداد رأيت الأثداء على الرصيف. وأنا أقول: البريء غلطة المجرم لا أكثر ولا أقل.

تركوني
تركوا بغداد وحدها
باعوا ريشهم
واختفوا في حجرتهم.

دم ونار. روح حجرية. أشباح شقت الأرواح. دحرجتِ الرؤوس على الرمال. رفعتها على الرماح وسارت إلى وادي السلام. ماذا تقول؟ كتاب أسود معلق في هذا الفراغ الثقيل فصوله القتل والجوع والخوف. نحن نسكن في كتاب يملأ المكان بذبائحه. الناس والخرفان. ماذا تفعل بغداد بأوراق سوداء؟ وردة من العصب. عش مخرب. كهولة سائحة. وحل ورماد.أسلاك شائكة. دبابات تزحف على كل قلب. ماذا يفعل لنا الكتاب؟ كتاب الوهم والغيب. بين سقوط وقيام. مصائرنا تبتلعها الوحوش. تطفو على الماء. خوذ على ضفاف النهرين. هاوية طويلة. ريش كثير. نصف انتظار وصنوبرة عجوز. طائر يحط في مثواه. نهر تسقط في أعماقه الأبراج. تسقط المآذن. دجلة مدفن. فيه قبر للزعيم وآخر سحلته الخيول في رمشة عين. ماكنة تثرم الأجسام. حوض تيزاب كبير. صورة بئر وجلاد. ونحن نقول: الأمراض غلطة الجسد لا أكثر ولا أقل.
طارت مرّة أخرى. مرّت الصقور فوقي. فلـّـشتني تماما ً. جثث طافية في نهر دجلة. رميت الكتاب ومسكت ُجمرة في يدي.مررّت بمئذنة سقطت بالقرب من البيت. مضيت أحتمي بالكهوف. وأنا أقول:الموت غلطة الحياة لا أكثر ولا أقل.