بعد سقوط الصنم الكبير في ساحة الفردوس، ومن ثم سقوط النسخ الأخرى لذلك الصنم في كل المدن والأقضية والقرى والأحياء والأزقة والشوارع والساحات والجدران والبيوت، التي كانت ترفعه قسراً أم حباً، كان حرياً بالعقل العراقي الذي يفترض به أنّه تحرر، أن لايعود إلى هذه الثقافة ـ ثقافة الأصنام والصورـ من جديد.
ولكن يبدو أنّ العقل العراقي ما زال مُعتَقلاً، وما زالت ذاكرته مليئة بالصور والإيقونات والرموز السلطوية، التي يعيد تشكيلها وصياغتها في مختبره ، ويُسقط عليها أحلامه وهواجسه وموروثاته التربوية التي اكتسبها من تنشئته الإجتماعية المفعمة بصور القهر والإستعباد والرضوخ ، في نظام أسري قبلي باطريركي يقدس سلطة الأب، ويرفع شعار الطاعة لمن يجسد تلك السلطة من مراجع دينية وشيوخ ورؤساء عشائر وأغوات، حتى انسحب ذلك على السلطة المدنية في أجهزة الدولة، بل حتى على الحزب، فبات المواطن يخاف المسؤول الحزبي ويخشى بطشه. ونخشى أن يمتد الأمر إلى أبعد من ذلك، فيهاب حتى نفسه.
ولا يتوقف الأمر عند هذه الصورة المادية الظاهرية لتلك العبودية، بل يتعدى الأمر إلى أن يصبح عبادة داخلية ـ نفسية( لاشعورية) ـ، فيصير العقل مشلولاً ومسلوب الإرادة، ولا يعمل إلاّ بأوامر عليا من المعبود.
هذه الثقافة المستشرية في المجتمع العراقي، والمتوغلة في أعماق أعماقه، ودهاليزه، باتت مسؤولة عن انتاج أفراد وبالتالي عن انتاج مجتمع مدمن على العبودية، عبودية قد لايدركها ولا يدرك مخاطرها، عبودية تمتد بجذورها إلى مستودعات اللاشعور الجمعي، وأقصد بها عبودية الأصنام الجديدة، التي تعددت هذه الأيام، بعد أن كانت العبادة حصراً بالطاغية صدام حسين.
ثمة عراقيون يرفعون على صدورهم صور مرجعهم الديني، آخرون يرفعون صور زعيمهم، وصور أولاده وأحفاده، وآخرون يرفعون صور رئيس حزبهم، وهكذا، كلّ قومٍ بما يرفعون فرحون.
لماذا الشرق مولع بتأليه قادته وزعمائه ومراجعه، وهو الذي يدّعي أينما حلّ وارتحل، بأنّه لا يعبد غير إله واحد؟
أهي الإزدواجية ذاتها التي نوّه بها الدكتور علي الوردي؟ أهو التناقض بين الوعي واللاوعي؟ أهو مرضٌ مزمن تغلغل في مفاصلنا وعظامنا ودمائنا، ولم يعد نافعاً معه أيّ دواء؟ أهو الخوف الكونكريتي من السلطان الأعظم والزعيم الخالد والقائد الأوحد الذي بات يلازمنا، فرحنا نسترضي من يحكمنا بالتغني باسمه، والدعاء له، وبحمل صوره، والإشادة بانجازاته( العظيمة)، كما لو انّنا في معبدٍ أو كنيسةٍ أو مسجدٍ نتضرع لله؟!
في تصوري إنّ جزءاً كبيراً من الإشكالية يقع على عاتق الإعلام ( سواء أكان مرئياً أم مسموعاً أم مقروءاً)، فالتلفزيون ـ مثلاً ـ لا زال ينتهج الأسلوب القديم البالي الذي أكل الدهر عليه وشرب، في تقديم أخبار القائد الهمام وصوره وصولاته وجولاته، وحلِّه وترحاله، بما يعيد إلى أذهاننا صورة الدكتاتور المخلوع( مع الفارق طبعاً) الذي كان بطل الشاشة رغماً عن أنوف العراقيين، ولا سيمـا بعد تعدد الفضـائيات العراقيـة وحتى التلفزيونات المحـلية( الأرضية)، إلى حد أنّ لكل حزب( كبير طبعاً) فضائية، وهذه الفضائيات والتلفزيونات تعتمد ـ بطبيعة الحال ـ الأسلوب الدعائي لنهج الحزب والتبشير بأفكاره، وبالتالي تتصدر أخبار رئيس الحزب وصوره وتحركاته واجتماعاته ومؤتمراته النشرات الإخبارية لهذا التلفزيون، فضلاً عن البرامج والأفلام الوثائقية التي تبرز نضال هذا الرئيس، أو نضال زعيمٍ من زعمائه.
الأمر لا يختلف مع الصحافة( الحزبية بطبيعة الحال)، فهي الأخرى تقدم للقاريء أنموذج البطل الذي يتصدر الصفحة الأولى بالصورة الملونة وبالحجم الكبير، وفي بعض الأحيان تحتوي الصحيفة على أكثر من صورة له، ولا أبالغ إنّي رأيتُ ـ من خلال متابعتي لجميع الصحف ـ في إحدى الصحف الحزبية ( وهي بالمناسبة ليست الصحيفة الناطقة باسم ذلك الحزب)، رأيتُ فيها وفي أكثر من مناسبة ما يزيد على خمسة صور لزعيم ذلك الحزب، وهذه الصور تزداد في المناسبات الخاصة بهذا الحزب.
أتصور أنّ هذا الأسلوب الدعائي قد عفا عليه الزمن، وأنّ الإحزاب يجب تعيد النظر في سياساتها الإعلامية التي ترسخ صورة المعبود البشري الذي أصبح لازمة سيئة في تاريخنا العراقي، وثقافتنا الإجتماعية.
الجزء الآخر من الإشكالية يقع على عاتق المناهج الدراسية، وبخاصة في بعض المواد التدريسية، مثل التاريخ والتربية الوطنية والنشيد (هناك بعض الأناشيد تمزج التغني بحب الوطن بحب الزعيم القومي أو القائد). إنّ مثل هذه المواد تغذي هذه الثقافة، ثقافة عبادة القائد أو الزعيم، بدلاً من أن تتغنى بمجد الأمة أو الوطن وتشيد بتاريخه ومنجزاته الحضارية والإنسانية، فهي تركز على منجزات القائد أكثر مما تركز على دور الشعب في صنع الأحداث والتاريخ، وهذا ما نلحظه في مناهجنا الدراسية طيلة عقود، فهل من منتبه إلى خطورة هذا الإجراء وعواقبه السيئة في رسم الشخصية العراقية على وفق العلاقة بين الرئيس والمرؤوس، الأعلى والأدنى، المعبود والعابد.
ألم يحن الأوان لإعادة رسم هذه الشخصية في أبعادها الصحيحة (سايكولوجياً وسوسيولوجياً)، وتصحيح مسارها المنحرف منذ قرون وليس عقود؟
أليس من حق المواطن العراقي أن يقدِّر ذاته قبل أي ذات أخرى، سواء أكانت ذاتاً فردية أم جمعية؟
ليت شعري متى يحين الأوان الذي يكون فيه المواطن قيمة عليا، وفوق جميع القيم، بدلاً من أن يكون حطباً لمعارك الدين والسياسة والأيديولوجيات، وجسراً تعبر عليه المصالح الطائفية والقومية والوطنية؟ ومتى نفهم إنّ الإنسان غاية وليس وسيلة، وأنّ كل الأديان والعلوم والأفكار والفلسفات جاءت من أجله، ومن أجل خدمته، وليس العكس.

آخر الكلام: فلينظر كلّ واحدٍ منّا إلى المرآة، بدلاً من أن ينظر إلى النافذة.

[email protected]
[email protected]