هذا المقال هو مقدمة لكتاب "قدر العلمانية في العالم العربي" والذي نشر على حلقات في جريدة "الأحداث المغربية" والذي سيصدر خلال الشهر القادم ككتاب في جزئين عن نفس الدار، ولقد ساهم فيه 33 كاتباً وكاتبة من كتاب العالم العربي على اختلاف اتجاهاتهم الفكرية مما أعطي لهذا الكتاب أهمية غير عادية، قمنا الأستاذ وريغ لحسن وأنا نفسي بتحضير مجموعة من الأسئلة عن العلمانية وجهناها إلى عدد مهم من المثقفين في الوطن العربي، وقد استجاب وأجاب معظمهم عن الأسئلة كلياً أو جزئياً. بعض المساهمات أعدها وأرسلها أصحابها ، وبعضها كانت لقاءات أجريناها مواجهة مع أصحابها. وكانت الحصيلة باقة متنوعة من التفكير الجدي في المسألة العلمانية التي لا يوجد حولها في المكتبة العربية إلا بضعة كتب قليلة جديرة بهذا الاسم.
الفكرة الرئيسية التي تمحورت حولها اجابات المثقفين كانت حول تعريف العلمانية بأنها حياد الدولة في المسألة الدينية. ومعني الحياد أنها لا تنحاز لدين من ديانات مواطنيها المتعددة وتعامل جميع هذه الأديان على قدم المساواة، وتعامل جميع المواطنين كمواطنين بقطع النظر عن دينهم وطائفتهم. لأنها بانحيازها لطائفة معينة تعادي الطوائف الأخرى، فكما قال زعيم ثورة 1919 الأزهري المستنير سعد زغلول:"الدين لله والوطن للجميع". وكما قال الأستاذ صلاح عيسى:" العلمانية ليست ضد الدين بل ضد الدولة الدينية". وهي فكرة أساسية أكدها أغلب المشاركين في الأستفتاء.
من أكبر المشاكل الجوهرية في العالم العربي هي مشكلة تحديد المفاهيم تحديداً صحيحاً، ولفظ العلمانية من الألفاظ التي كثر اللغط فيها وفي مفهومها، يقول المستشار محمد سعيد العشماوي في كتابه "الإسلام والسياسة" ص 15:" فلفظ عالماني هو نسبة إلى العالم غير الكنسي، أي الذي يوجد خارج الكنائس والأديرة وما ماثلها. وعندما ترجم لفظ (secular) إلى عالماني نشر في بلاد الشام دون حرف الألف بعد العين، على اعتبار أن وضع "فتحة" على حرف العين تحقق المعني المقصود. ولأن الصحف والمجلات العربية لا تشكل الكلمات عادة ، فقد وقع خطأ في نطق اللفظ، كسر العين فجعله علماني، ومن ثم ظن الكثيرون أنه نسبة إلى العلم، وبهذا أحدثوا مفارقة ومخاصمة بين الدين والعلم، ووصفوا من يأخذ بالمناهج العلمية - وهي الأساس في علم أصول الفقه وفي كل العلوم والفنون التي قامت عليها الحضارة الإسلامية – وصفوه بأنه علماني (بكسر العين) اتهاماً له بأنه لا يأخذ بالمنهج الديني التسليمي الذي يفرضه الجهال على الناس وتقسر جماعات الإسلام السياسي العقل عليه".
ولكن هل العلمانية فعلاً ضد الدين؟
ذكر المفكر التونسي العفيف الأخضر في احدى مقالاته بأن :"العلمانية ليست ضد الدين بل هي في خدمة الدين". لأنه في ظلها تمارس جميع الأديان في أمن وأمان، ويضيف المستشار العشماوي في الكتاب السابق ص 22:"وقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم على وضع تمييز دقيق بين ما هو من الدين وما هو من الدنيا، ففي واقعة تأبير النخل، عندما أخطأ رأيه فقال للناس: أنتم أعلم بشؤون دنياكم". وفي صفة 77 من نفس المصدر يقول العشماوي:" (...) فقواعد الزرع والري والنقل والعلم والحساب والفيزياء والفللك وما ماثل هي من شؤون الدنيا، وليست من أمور الدين إلا بقدر ما تحكمها أخلاقيات الدين ومثالياته الرفيعة. وفي احدى الغزوات اختار النبي لجنوده موقعاً محدداً فقال له أحد المسلمين "الحباب بن المنذر" يا رسول الله، هل هذا موقع دلك عليه الوحي أم أنها الرأي والحرب والمكيدة؟! فرد النبي قائلاً: بل الرأي والحرب والمكيدة ! عندئذ قال الرجل : إنه ليس بمنزل "موقع" ودل النبي على موقع آخر ، هو الأفضل في حال القتال ، ومنه تحقق للمؤمنين النصر، ولهذه الواقعة دلالتان مهمتان أولاهما أن مسائل الدنيا وشؤون الحرب "حتى من أجل العقيدة" ليست وحياً من الله، وليست قولاً من النبي لا مراجعة له فيه، وثانيهما أنه لولا أن الحباب ابن المنذر اجترأ وسأل النبي عن أساس اختياره للموقع، لغمّ الأمر على المسلمين،وزعم البعض أنه من الوحي، وقال البعض إنه من الرأي، وظل الحال كذلك دونما حسم قاطع أو حكم فاصل وفيما بعد النبي كانت الأمور لدى المؤمنين أو على الأقل عند أغلبهم واضحة محددة، فلم يقع الغلط والخطأ، والاضطراب والاختلاط، إلا فيما بعد. ففي سقيفة بني ساعدة، وحينما اشتد الخلاف بين المهاجرين والأنصار عمن يكون منهم أميراً للجماعة "أي صاحب الرياسة المدنية" قال عمر بن الخطاب لأبي بكر: أبسط يدك أبايعك "لقد ارتضاك النبي لديننا ، أفلا نرضاك لدنيانا ؟!" وفي هذا القول تفرقة دقيقة حاسمة بين الدين والدنيا".
العلمانية المأمولة للعالم العربي والإسلامي نموذجها المتحقق هو العلمانية التركية التي برهنت على تسامحها أولاً عندما نص دستورها أن الدولة تقوم ببناء أماكن العبادة لجميع مواطنيها دون استثناء. أما في بلدي مصر غير العلمانية فالمتأسلمون سمحوا لأنفسهم ببناء المساجد العشوائية كما يشاؤون متخذينها أوكار لنشر التعصب وكراهية الآخر ... بينما أشقاؤنا الأقباط يحاتجون أمراً من رئيس الجمهورية لإصلاح نافذة كنيسة. برهنت العلمانية التركية مرة ثانية على تسامحها عندما أعطت الحكم لحزب "العدالة والتنمية" الإسلامي الأصولي شريطة احترام المبادئ العلمانية، أي الفصل بين الدين والسياسة واحترام عقائد جميع المواطنين علي قدم المساواة، وهذا ما التزم به بكل ضمير حزب "العدالة والتنمية" الذي صرح رئيسه "طيب أردجان" بأنه يتبني جميع قيم حقوق الإنسان بدون استثناء بما فيها حرية الضمير، أي حق كل مواطن سواء أكان مسلماً أو غير مسلم أن يغير دينه بدون أن توجه إليه تهمة الردة.
فصل الدين عن السياسة ضروري حتى لا تتحول الدولة المدنية إلى دولة دينية كما في إيران، حيث يعطي الدستور لـ" الولي الفقيه" حق عزل رئيس الجمهورية وحل البرلمان وهدم أركان الشريعة إذا كان في ذلك مصلحة للدولة الدينية. والدستور الإيراني ليس دستوراً دينياً وحسب بل إنه أيضاً دستور خرافي. فهو عندما يتحدث عن ولاية الفقيه، التي تماثل ولاية البابا على الملوك في القرون الوسطي، يقول يحكم الولي الفقيه " في انتظار عودة الإمام الغائب عجل الله فرجه". فالحاكم الحقيقي للدولة الدينية الإيرانية هو الإمام الثاني عشر الذي اختفي في سامراء حيث افترسته ولا شك السباع ...!!.
فصل الدين عن الإبداع الأدبي والفني ضروري أيضاً حتى لا يتحول عالمنا الإسلامي إلى موكب جنائزي ، الموسيقي فيه محرمة والرسم والنحت فيه محرم كما أفتى بذلك مراراً يوسف القرضاوي . ونعرف أن الإخوان المسلمين حولوا الأفراح في مصر إلى مآتم حيث اخترعوا نوعاً جديداً من الأفراح اسمها "الأفراح الإسلامية" حيث يبدأ الفرح بتلاوة القرآن، وتقوم الفرقة بعزل المدعويين رجالاً ونساء، وتجلي العروسة مع النساء، والعريس مع الرجال، ويكون برنامج حفلها عبارة عن أغاني دينية تحث العريس على تعليم العروسة الكتاب والسنة، ويتخلل البرنامج مسابقات دينية حيث يسأل أحد أفراد الفرقة الإسلامية أسئلة دينية على المدعوين أمثال: من هو سيف الله المسلول؟ وما هي أول غزوة في الإسلام ... إلخ.
ومن يجيب إجابة صحيحة يربح كيلو أرز أو سكر ..!!
فصل الدين عن البحث العلمي، لأنه لا إعجاز علمي في القرآن، فالقرآن كتاب روحي ولن يكون موسوعة علمية وطبية وجغرافية وفيزيائية ... إلخ. وأتعجب من جريدة "الأهرام" المصرية كيف تسمح للمشعوذ "زغلول النجار" أن ينشر أكاذيبه وهذياناته عن الاعجاز العلمي في القرآن الذي هو كذب وقح على القرآن والعلم معاً. فالقرآن الكريم كما قال الإمام الشاطبي "خاطب العرب حسب عقولهم" وهم أميون فلا وجود للإعجاز العلمي في القرآن. واتبعه في ذلك الشيخ محمد الطاهر بن عاشور في تفسيره "التحرير والتنوير". الادعاء بوجود اعجاز علمي في القرآن ادعاء آثم لأنه يرمي إلى إخضاع البحث العلمي للرقابة الدينية وهو ما سيعطينا كارثة علمية محققة. سيكون من المضحك أن نأخذ بنظرية خلق الكون التوراتية التي تبنتها آيات القرآن الكريم، بينما العلم يقدم لنا نظرية الإنفجار الكبير الذي لم يدم سبعة أيام، كما تقول الأسطورة التوراتية، نقلاً عن الأسطورة البابلية، بل دام أقل من ثانية. وعمر الكون ليس أربعة آلاف سنة كما تقول الأسطورة التوراتية، بل خمسة عشر مليار سنة، ومازال سيعيش، كما يقول علم الفيزياء الفلكية، خمسة عشر مليار سنة أخرى. ثم ينتقل إلى الرفيق الأعلى. ومن العبث أن تخضع نظرية تكّون الحياة للرقابة الدينية التي مازالت مصّرة على أن "الزوجين الأولين" آدم وحواء، هما أصل الحياة البشرية بينما يؤكد علم البيولوجيا أن الحياة تكونّت انطلاقاً من بكتريا وحيدة الخلية في المحيط البدائي منذ أربعة مليار سنة وانطلاقاً منها تكونت الحياة النباتية والحيوانية. وانطلاقاً من الحياة الحيوانية تطور الإنسان عن أصل قرد. ونجد بعض رجال الدين بل وحتى الإسلاميين، مثل الشيخ عبد الصبور شاهين يسلمون الآن بهذه البديهية العلمية. ففي كتابه " أبي آدم" اعترف الشيخ عبد الصبور شاهين بأن آدم وحواء لم يكونا أصل الخليقة.
أهمية هذا الكتاب أنه يقدم للقارئ باللغة العربية لأول مرة قراءات متعددة للعلمانية متكاملة أحياناً ومتباينة بعض الأحيايين، وهذا ما يعطي للكتاب أهمية استثنائية لأن قارئ العربية يجد فيه لأول مرة كتاباً جامعاً مانعاً يقدم المسألة العلمانية من زوايا ومن وجهات نظر متعددة. وهذا ما يتيح له أن يجتهد بنفسه. ومن اجتهد وأصاب فله أجران، ومن اجتهد ولم يصب فله أجر واحد كما يقول الحديث النبوي الشريف. اللهم اجعلنا من المجتهدين.

[email protected]