سرمد الطائي يكتب لـquot;لإيلافquot; من الفاو
البصرة وبحرها المجهول

القرع على سفينة فارغة

عبث بالجغرافيا

في مشهد لأحد المنامات الغريبة، كنت اتجول على جبل افرست، مع ركاب غرباء في شاحنة ضخمة تصعد نحو القمة العنيدة وتنزل السفح الى قمم ثانوية، وأحيانا تطير بنا الى هذه النقطة او تلك. الرؤى والاحلام لا تجد نفسها ملزمة بقوانين الجاذبية، لكنني لم اكن اعرف قبل هذا ان المنامات تعبث بالجغرافيا ايضا. كنت اصيح بسائق الشاحنة الضخمة وهو ينحدر من سفح افرست، دعني اتولى قيادة المركبة، فأنا اعرف الطريق الى الفاو! اكتشفت حينها ان افرست ليس في هضبة التبت او سلسلة جبال الهملايا، انه في مكان ما يطل على الخليج العربي، قريبا جدا من مدينة الفاو!
في مشهد الواقع، كنت كلما ازور البصرة اسأل الأهل والمعارف هناك: هل رأيتم البحر؟ لدينا ساحل يمتد لأكثر من خمسين كيلومترا على الخليج كما نقرأ في الجغرافيا. لكن احدا ممن سألتهم لم يكن رأى البحر سوى عمي الذي عمل مهندسا يتولى صيانة محركات السفن في الاسطول العراقي. قررت في صباح ربيعي ان اخرق المألوف وأرى البحر، وكان الخيار ان ننطلق من الفاو بعيدا عن ضوضاء الشحن والتفريغ في موانئ ام قصر. انطلقت والشاعر طالب عبد العزيز الذي صادفته على الطريق (في حمدان) ومنير الذي استعار سيارة متهالكة يمكنها بالكاد قطع الكيلومترات المائة نحو اقصى جنوب البصرة، مرورا بأبي الخصيب وتوابعه، غابات نخيل لا زالت موجودة وأخرى لم يعد لها وجود منذ عام 1986. لم يكن احد منا نحن الثلاثة قد رأى الساحل العراقي، وحين بلغنا مركز قضاء الفاو لم تكن هناك اي علامة دالة او لافتة توضيحية تشير الى ان المكان قريب من البحر، الا النسيم الدافئ شديد الرطوبة بعبقه الساحلي المثقل برائحة المخلوقات المائية، عبق تتعرف عليه بمجرد دخولك العشار او اقترابك من شط العرب، لكنه يبدو اوضح وأكثر تميزا في الفاو.
لم نكن ندري من اي مدخل علينا الولوج نحو عالم الغرائب، بحر البصرة احد الاسماء القديمة للخليج، لقد محا الدهر المتقلب كل اثر لأقدام السندباد او هكذا بدا لنا. عجوز يذكرنا بمنظر افندي البصرة التاريخي لا يزال معتزا بدراجة هوائية هندية تمشي الى جانبه في ساحة مهجورة، نظر الينا من ثقب في ذاكرته حين سألناه: اين هو البحر؟ ربما تراءى له اننا بقايا لمستكشفين او فرق استطلاع سرية مرت كثيرا من هنا. وقبل ان تذهب به الظنون شر مذهب قلت له: انما نريد شراء السمك. اشار لنا الى طريق شبه معبد قائلا: اذهبوا الى (النقعة). لم نسأل عن ايحاءات النقيع والمستنقعات، وقبل ان يستخرج طالب عبد العزيز هذا الاسم من ذاكرته التراثية الملفتة للنظر، كنا وصلنا مدخل المكان.
صاح طالب: انظروا، جامع الصيادين، نقابة الصيادين، لافتتان على مبنيين متجاورين يكشفان فحوى (النقعة). خلفهما احواض كبيرة جافة بعمق متر واحد فيها كميات من الاسماك، حوض للصبور (الاسبور) وآخر للزبيدي وثالث للشبوط ورابع وخامس وسادس فيها اسماك مختلفة بألوان وأحجام وزعانف متنوعة، من الصعب تذكر الاسماء والنعوت، انه مزاد السمك حيث يرمي الصيادون كل ضحى بطرائدهم البحرية ويقف السماسرة لتنظيم صفقات البيع. اقتربنا من احدهم فبادرنا قائلا: جئتم متأخرين بعنا كل شيء. كانت الظهيرة قد حلت. لو جئتم صباحا لرأيتم تلال الاسماك، لأول مرة ارى سمكة قرش صغيرة ايضا لا اعرف كيف اصطادوها. آخر شاحنات النقل الصغيرة كان يغادر نحو السوق. خلف الاحواض مشهد لا ينسى. مئات الزوارق تصطف الى جانب بعضها في مشهد اشبه بالاستعراض، متعامدة رأسياً او متوازية مع الطابور المقابل، عدد هائل من الحبال وشباك الصيد المنشورة والمكومة بطريقة فوضوية، حشد رجال متعبين عادوا لتوهم من البحر، اخرون يجهزون زوارقهم للاتجاه نحو العمق البحري، كافتيريا صغيرة انزوت في ركن الرصيف النهري.

أزميرالدا، صوت سفينة فارغة

لا اتذكر كاتب الرواية التي تحدثت عن رصيف زوارق مشابه في ايطاليا، قرأتها حين كنت طفلا وها انذا استرجع الصور بعد اكثر من عقدين، كل لغط الصيادين وهمهماتهم المختلطة مع دخان التبغ وسحنات البحر المتوسط المديترانية. شربنا الشاي وسألنا: هل يأخذنا احدهم الى البحر؟ جاء شاب اسمر اسمه ستار، يسمونه البايلوت (الطيار؟). حين كنت صغيرا كانت جدتي تمنيني بركوب الطيارة، وهي تعني طائرة مائية، زورق طويل مسقف بمقاعد حافلة سياحية في شط العرب لم أره منذ غادرنا
بيتنا الاول حين اندلعت الحرب مع ايران. اخذنا البايلوت ستار، بعد تفاوض سريع على الاجرة الى احد قوارب النقل السريعة، زورق ابيض صغير مجهز بمحرك متوسط الحجم في مؤخرته، راح يسأل وهو يفتح حبلا يشد القارب الى الرصيف المتآكل: اين تودون الذهاب بالضبط؟ قلت له حيث ينتهي شط العرب وينفتح الافق نحو المياه اللامتناهية، عندما تبدأ مياه الخليج الزرقاء وتلوح الشعب المرجانية. ضحك وقال: اذن الى الحفار! انه حفار غارق في نهاية الشط، نقطة دالة حين تصلها تكون قد دخلت البحر.
كان القارب سريعا للغاية يسبق السفن والزوارق الصغيرة، لكن الشاطئ مزدحم حقا، تنتشر شباك الصيد (الغزل) كما يطلقون عليها، على عرض الشاطئ الذي يبدو اعرض بكثير مقارنة بعرضه في العشار وأبي الخصيب وحتى سيحان، مما يضطر ستار البايلوت الى الابطاء والانحراف يمينا وشمالا لتجنب الزوارق او التوقف احيانا حتى ينفتح طريق بين سفنالصيد المزدحمة. هل نحن في اوتوستراد بغدادي او على احد جسور العاصمة كي نواجه شوارع مقفلة! هناك خمسة الاف صياد مسجل رسميا ولكل اربعة او خمسة صيادين زورق او (لنج) صغير، زد على ذلك كل زوارق تهريب الوقود التي اعتدنا رؤيتها منذ بضعة اعوام. راح ستار يتحدث. هناك عدة مشاغل بدائية لصنع السفن الصغيرة، انظروا يمينا لتروها، سعر قاربه الصغير اربعة الاف دولار، انها تعادل تويوتا حديثة بمقود ايمن، اما السفن الصغيرة المجهزة بمولد كهربائي وثلاجة لحفظ الاسماك وغرفة قيادة وجهاز اتصال فيتجاوز سعر القديم منها العشرين الف دولار. بدا لي ان العراق كله يتزاحم على هذا الباب المحدود بعرض اكثر بقليل من ألف متر للخروج نحو الافق المترامي، نحو العالم.
ذاكرة الحرب التي تهيمن علينا لاحقتنا هناك بشدة، السفن غارقة منذ مطلع الثمانينات، سفن غريبة تركها اهلها هنا، احداها تبدو اسبانية او لبعض بلدان امريكا اللاتينية لا يزال اسمها مكتوبا على مقدمتها البارزة (ازميرالدا)، تذكرت أحد اعظم الربابنة وحرصه على الاصغاء الى ((صوت سفينة فارغة)). سفينة اخرى عملاقة تبدو تابعة للمعسكر الاشتراكي المنهار، اسمها شبيه باسم ((ميلوسوفيتش او يبجوفيتش)) ظل صاريها مع مجموعة حبال يناظل للبقاء خارج الماء، وفوقها يتقافز عدد من الرجال يقول البايلوت ستار انهم قراصنة يكمنون نهارا داخل دهاليز الغوارق ويخرجون ليلا، الشرطة النهرية او قوة الدفاع الساحلي، تأتي احيانا لكنها تواجه تحديات عديدة، مجاميع القرصنة وشبكات التهريب الدولية وتدخلات الجار الايراني ومشاغبات جيران عرب احيانا. مررنا ببقايا جسر عسكري شيده الايرانيون يوم احتلوا الفاو. وقد تحطم معظمه في هجوم التحرير ولا يزال العلم العراقي يرفرف عليه عاليا.

صيادوا الاهوار غرقوا في شط العرب

سألت ستار البايلوت: هل يعمل في (نقعة) الفاو اهل البصرة فقط؟ قال كان هذا هو السائد مع ان ابي حدثنا عن الكثير من الهنود وبعض البحارة الاوربيين الذين استوطنوا المنطقة يوما لاغراض مختلفة، من يأتي نازحا من المحافظات يذهب الى الموانئ الحكومية للبحث عن وظيفة، ولكن في منتصف التسعينات جاء عدد من صيادي الاهوار بعد ان جفت بحيراتهم التاريخية، حاملين مشاحيف تقليدية (زوارق نحيلة طويلة تصلح للحركة داخل الانهار الصغيرة) وأرادوا النزول الى البحر، قلنا لهم
انها لن تقاوم امواج البحر التي تصل داخل الشط بعيد الفاو. نحن نستمع يوميا الى نشرة الانواء الجوية من اذاعة الكويت المحاذية، لنعرف سرعة الرياح واتجاهها ونقرر ما اذا كانت تناسب الملاحة. ثلاثون عقدة مناسب، خمسون تثير المخاوف. لكن الصيادين البسطاء الذين لم يعرفوا البحر سخروا منا وأنزلوا المشاحيف قائلين:
انتم اهل المدن جبناء! حين ابحروا مبتعدين جاءت ريح عاصفة لم تصمد امامها مشاحيف الاهوار فغرق منهم عدد كبير، حينها عادوا بحزن واشتروا زوارق بصرية واستعانوا بعدد من صيادينا، اما اليوم فقد اصبح النازحون من الاهوار منافسين لنا وبرعوا في التعامل مع رياح الشاطئ وأمواجه.
اخيرا بلغنا الحفار، نقطة ينتهي عندها شط العرب، على يميننا ينتهي النخيل وتمتد الاستطالة الطينية المهملة لتستدير غربا حتى خور عبد الله، لا ارى اي رمال تشكل شاطئا يصلح لحمامات الشمس او البحث عن مرجان يقذفه البحر، يقول مرشدنا ان بعض الاماكن في العمق وباتجاه الجنوب الغربي (جهة ام قصر) توجد فيها بعض الاماكن الصالحة لهذا.
أمامنا ينفتح الافق فلا ترى سوى الماء، بواخر عملاقة تقف هناك تتحرى طريقة لافراغ حمولتها او الدخول الى الشاطئ حيثما تسمح الاعماق، الماء الازرق للبحر يختلط مع مياه شط العرب المائلة نحو الخضرة، الموج يصبح شديدا فلم اتمالك نفسي حين وقفت لالتقاط صورة وانزلقت داخل القارب، شعرت بشيء من الارتباك حين اخذ الموج يرفعنا معه ثم يعود بنا نحو الهاوية.

حيتان الشط تبتلع التاريخ

نقطة البصرة المجهولة ازدادت غموضا حين طلبت من سائق الزورق ان يتوقف، انهالت علي كل الاسئلة التي تبحث عن المعنى، الاحاسيس السرية، تذوق عطر البذور البرية وشيفرة الطبيعة الاولى، اسئلة العقل العتيقة تحتشد حين تحدق في السماء او افق الصحراء العظيم، لكنها تكتسب طابعا مختلفا حين تكون وسط البحر، ينبسط امامك العماء، غواية الدنو من ايقاعات العالم السفلي، تحتك تتحرك كل المخلوقات الحائرة، النوارس المنفردة التي عرفتها قرب التنومة تتحول هنا الى اسراب غزيرة، دفق الامواج وهي ترتفع يعلن اختلال التوازن المألوف، وربما شعرت بانعدام الوزن، السماء شديدة الزرقة والصفاء، إيه... لا وجود للقمامة او الضجيج، نسيم نقي وحسب. لماذا لم يفكر احدهم بتأسيس مطعم عائم هنا، على يخت جميل تقصده العوائل، ترى البحر وتأكل من مخلوقاته وتجد كل هذا الهدوء العميق بعيدا عن ضجيج البصرة وهوائها الملوث بمخلفات النفط ومشتقاته والمجمعات الصناعية المتآكلة. ساعة ونصف قطعنا فيها الطريق من نقعة الفاو حتى حفار الخليج، ومثلها قطعناها للعودة. قلما قطعت طريقا دون ان اشعر بالوقت.
في طريق العودة كنت اسأل لماذا لم ير البصريون المعاصرون البحر؟ خطر لي ان البحر هو الذي يأتي الى البصرة التي باتت مدينة متمنعة لا تذهب الى البحر.
رائحة الطحلب البحري والنوارس وسمك القرش والحيتان (رأيت في المتحف الطبيعي في البصرة هيكلا عظميا لحوت طوله سبعة امتار كان دخل شط العرب قبيل الحرب مع ايران في حادثة يعرفها العراقيون) والصبور والزبيدي والسفن مختلفة الاحجام، كل سحر البحر هذا، يقصد المدينة بنفسه ويلج اليها من شط العرب الذي يقول عنه الرحالة البندقي غاسبارو بالبي (القرن السادس عشر) ان فيه ((أبهة النيل، لكن ضفافه تحظى بكميات اوفر من الحنطة والتمر)). ربما لهذا وسواه اقام البصريون ميناءهم التاريخي في المعقل قرب العشار على ساحل شط العرب تاركين البحر السندبادي يأتي
اليهم بنفسه.
غير ان الحيتان وأسراب النورس، لم تعد تأتي اليوم من بحار الظلمة والنور الى البصرة، عناصر الكوزموبوليتا والعالمية المتنوعة كانت تنشئ هوية مهجنة وثرية للمدينة منحتها التعددية التقليدية والتسامح والانفتاح طيلة قرون، كانت العولمة تأتي اليها قبل عصر الاستكشافات الكبرى وكريستوفر كولومبوس وماجلان. اختفت اليوم اللغات العديدة التي كان يسمعها جدي ويفهم شيئا منها، السفينة أزميرالدا غارقة وفارغة تحولت الى مخبأ لقراصنة النفط المتحالفين مع الاحزاب. هناك هوية جديدة تجري صناعتها اليوم لفرضها على المدينة، مدينة البحر التي طالما تطلعت الى ما وراء الهند وتعرفت الى الاسبان والبرتغال والانجليز، تظهر فيها حيتان من نوع آخر تبتلع التاريخ، وتعبث بالجغرافيا السياسية عبر ايديولوجيا متزمتة لإيمان اصولي دخيل، أمراء الحرب يتبرعمون بلا هوادة ويكثرون من الحديث عن ((اقليم البصرة الاسلامي)).
ثانية، في مشهد لأحد المنامات المريبة، لم اكن اعرف قبل هذا ان المنامات تعبث بالجغرافيا. كنت اصيح بسائق الشاحنة الضخمة وهو ينحدر من سفح افرست، دعني اتولى قيادة المركبة، فأنا اعرف الطريق الى الفاو! اخشى ان اكتشف في منام او كابوس آخر، ان الفاو لا يطل على الخليج العربي، لا يتطلع الى ما وراء الهند، لن تلج اليه حتى من هضبة التبت. ربما يجب على البصرة اليوم اكثر من اي وقت مضى، ان تكف عن انتظار البحر، عليها ان تكافح للعودة اليه واستعادة مظاهر العولمة المبكرة التي عرفتها ومنحتها هويتها التاريخية. لا اكتمكم، اخشى انني اكتب هنا رثاء لمدينة، اعلاناً لخراب البصرة الاخير. هل يضيع سندباد مفاتيح بواباتها الى الابد؟

[email protected]