قدّم الفلسطينيون صورة سيئة عن أنفسهم، لكننا نخشى أن يقدموا الأسوأ في المستقبل. فالأحداث التي جرت أخيراً في قطاع غزة، وانتقلت إلى الضفة، لا يوجد ما يضع حداً لها، وما يمنع من تكرارها إلى الآن. فلا حكومة وحدة وطنية أُنجزت، ولا هي، كما يبدو، في طور الإنجاز. فحماس ترفض الرضوخ للمطالب الدولية والعربية، بالاعتراف ببنود الرباعية، وهو الشرط الذي وضعه العالم كله، كي تعود المساعدات إلى مناطق السلطة. حماس تخشى باعترافها بإسرائيل، من ألا تعود هي حماس القديمة ذاتها، صاحبة نهج المقاومة، كخيار استراتيجي. وعليه، فلا أمل، على الأقل حتى هذه اللحظة، في أن تنفرج الأمور بإعلان تشكيل تلك الحكومة العتيدة. ما يعني أن الحصار باق، وربما يتعاظم خطره. وما يعني أيضاً، أن على الفلسطينيين ذوي البطون الخاوية، وهم أغلبية الشعب، أن ينتظروا طويلاً، قبل أن تمتلىء بطونهم.
مشكلة هائلة، لم يعرفها أحد منهم من قبل. والخيارات لحلّها هي عملياً خيار واحد لا غير، وهو الاعتراف بإسرائيل. لذا، على الكلّ الوطني الفلسطيني أن يحاول الخروج من عنق الزجاجة، بتدبير حلول مبتكرة ومبدعة، مثل تشكيل حكومة تكنوقراط، من خارج الفصيلين الكبيرين فتح وحماس، وعلى أن يُعهد برئاسة هذه الحكومة، إلى رجل مستقل. رجل يعلن للملأ اعتراف مجلس وزرائه بدولة إسرائيل، وبالاتفاقات والمعاهدات الموقعة سابقاً معها، ورغبته في مواصلة نهج البحث عن السلام، ومواصلة ما انقطع.
وأظن أن هذا حلّ معقول نوعاً، ويستطيع أن يُخرج حماس من ورطتها على كرسي الحكم، ومن حرجها أمام منتسبيها. أما القول بأن لا اعتراف بإسرائيل، مهما يكن، ثم الاكتفاء بذلك، وانتظار أن يرأف العالم بنا، فيكسر حصاره الظالم، فهو قول غير سياسي بالمرة. قول لم ينجح حتى مع المحيط العربي، فكيف له أن ينجح مع العالم الخارجي كله.
إن حماس في ورطة، وإن الشعب الفلسطيني كله في ذات الورطة بالنتيجة. ولا بد من توفير حلول، ولا بد من ديناميكية وسرعة استجابة إلى أنين الشعب المقهور المحارب في لقمة خبزه. إذ لا مزايدة ولا مناقصة أمام لقمة خبز الناس. لذلك نأمل من قطبي السلطة، الرئاسة والحكومة، متمثلين في أبي مازن وإسماعيل هنية، العودة سريعاً إلى طاولة الحوار، قبل أن يحدث الأسوأ. فهذا واجبهما وهذا من صميم عملهما. وكل تقاعس عنه، يعني أول ما يعني، أن النخبة السياسية الحاكمة، قد فشلت فشلاً ذريعاً، في إخراج شعبها المظلوم والمحاصر من أزمته الطاحنة.
لقد فقد جزء كبير من شعبنا ثقته في زعمائه وقادته، من الطرفين، وهذا لعمري مؤشر خطير. مؤشر على بداية حقبة من الزمن، ربما ستصل بنا في النهاية إلى ضياع كل أحلامنا العادلة والمشروعة، وليس أولها مشروعنا الوطني ذاته، ولا آخرها حقنا في العيش الكريم.
إننا في أزمة غير مسبوقة. أزمة تحتاج إلى جهود الجميع، لا فقط الفصيلين الرئيسيين. وكل يوم يمرّ بدون حلول، يفاقم من هذه الأزمة ومن خطورتها ومن مضاعفاتها.
لقد وُضعنا جميعاً في الزاوية. إما أن نعترف بإسرائيل، أو يستمر الحصار إلى ما لا نهاية. وقد اعترفت منظمة التحرير بإسرائيل، عبر توقيعها اتفاقية أوسلو. لكن حماس، وهي أغلبية الآن في البرلمان، لم تعترف ولن تعترف. لذا لن يبقى من خيار، إذا رُفض خيار تشكيل حكومة التكنوقراط السابق، إلا بحلّ هذه الحكومة، وإعلان الذهاب إلى دورة جديدة من الانتخابات، تطال رئاسة السلطة ورئاسة الحكومة معاً. وحينها، فليختر الشعب الفلسطيني من يختاره، وليتحمل تبعات هذا الاختيار راضياً مرضياً. أما البقاء في هذا الوضع الكارثي، فغير معقول ولا مقبول. وأما التعويل، ولو قليلاً، على المحيط العربي في فك الحصار، فهو تعويل لا طائل من تحته. إن مناشدة السيد خالد مشعل للدول العربية بتحمّل واجباتها تجاه شعبنا، هي صرخة في البريّة لا أكثر ولا أقل. فها هي سبعة شهور تمضي، ولم يحرّك أحد ما، عربي أو غير عربي، ساكناً. لذا على الأخ خالد مشعل أن يكفّ عن مثل هذه المناشدات العاطفية، وأن يبحث عن حلول سياسية واقعية، فذلك أجدى له ولنا من بعده.
إن الأحداث المؤسفة المرعبة، التي عشناها أخيراً ها هنا في قطاع غزة بالتخصيص، لهي شيء بنذر بالخطر الشديد. شيء يقول لنا، أن كل لغتنا البلاغية الماضية، حول تحريم الدم الفلسطيني على الفلسطيني، هي من قبيل الشعارات فقط، ولا تصمد، حين يجدّ الجد، على أرض الميدان. لقد رأينا أخوة وأشقاء، فرّقت بينهم انتماءاتهم السياسية، فانقلبوا إلى أعداء. ولقد رأينا أقرباء وجيراناً، يطلقون الرصاص على بعضهم البعض، دون أدنى وازع من وعي أو ضمير أو حتى فطرة سوية. فكل هذه أوهام مقابل الانتماء العقائدي والسياسي. ولما كان الجميع، مقهوراً ومحصوراً في أضيق زاوية، فمن المنطقي والمنتظر، أن ينفجر هذا في وجه ذاك، أحياناً لأتفه الأسباب، فما بالك بأجلّها وأخطرها؟
إن حالة الاحتقان التي تتراكم منذ شهور سبعة، لتبحث لها عن متنفس، فإن وجدته انفجرت. وهذا هو الحال في بلادنا. الكل متوتر ومحتقن وجائع ولا يعرف كيف يدبّر لقمة غده، فماذا ننتظر منهم؟
إنها مسؤولية سياسيينا ونخبتنا، فإن نكص هؤلاء عنها، فجمعينا إلى الهاوية.
إن مقتل عشرة وإصابة أكثر من مئة وعشرين مواطناً فلسطينياً، لهو جرس خطر يدق، وعلى قادتنا أن ينصتوا ولا يتجاهلوا هذا الإنذار الخطير. فما حدث في غزة والضفة، سيحدث أسوأ منه، ما لم نعالج الجرح من جذوره. أما محاولات التهدئة الكاذبة، ومسح اللحى على الطريقة العربية العشائرية، ثم الإعلان بأن كل شيء على ما يرام، فهي محاولات سرعان ما يُثبت الواقع المعقد فشلها وعراءها الفاضح.
كلمة أخيرة إلى السيد خالد مشعل : فقط أريد تذكيرك بأن مَن أنجح حركة حماس في الانتخابات، وعلى هذا النحو الكاسح، ليس هي أصوات أبناء الحركة، بل أصوات الغاضبين على فساد وانحلال الحزب الحاكم السابق، وهؤلاء يا سيدي، تخسرهم حماس الآن، مع مرور كل يوم وليلة. فهؤلاء بدل أن يرتاحوا وتسير أمورهم على نحو معقول، ها هم يُعاقبون ويجوّعون، وتنهار حيواتهم بشكل حتى لم يروه في أسوأ الكوابيس!
عليك أن تنتبه لهذه الحقيقة الدامغة، التي نعرفها جيداً، بحكم وجودنا وعيشنا بين أبناء شعبنا. عليك أن تضع هذا في حسبانك وحساباتك، فتُقصّر ما استطعت من أمد معاناتهم الهائلة، لا أن تزيدها بتعلّقك بنوع من الصبر الميتافيزيقي. فأنت رجل سياسة، وعليك أن تتحرك وتتصرّف كرجل سياسة، لا كداعية.
هذه هي مسؤوليتك، أمام شعبك وإن شئتَ أمام ربك. لقد وصل بنا الحال إلى أن يتسوّل الموظفون فماذا تنتظر أكثر من هذا؟
ثمة مَن لا يجد إفطار يومه في رمضان، وهم بالمناسبة كثيرون وأكثر ربما مما تعتقد. فقط تمنعهم تربيتهم ويمنعهم خجلهم من الاعتراف بهذا أمام عامة الناس. فلا تحمّلهم أكثر مما يطيقون.
إذا كان لا أمل في حلّ، فلنذهب جمعينا إلى صندوق الانتخابات، وليكن بعدها ما يكون. أما الإصرار على البقاء في كرسي الحكم، أربعة أعوام كاملة، مع كل هذا الجوع، وكل هذا الاحتقان الخطير، فهو نوع من العمى السياسي والعدمية السياسية. ذلك أن الديموقراطية التي خوّلت لكم الصعود إلى سدة الحكم، مدة أربعة أعوام دستورية، لا تعني في المقابل أن نجوع ونتبهدل هكذا بلا طائل.
كلنا في أزمة. وكلنا محتار ماذا يفعل. وجميعنا يعاني من افتراء إسرائيل. فما هو الحل؟ وهل نستطيع فرض حلّ بمفردنا، دون الأخذ بعين الاعتبار، ما يحدث حولنا من حسابات ومن مصالح دول كبرى وفاعلة في المشهد السياسي الإقليمي والعالمي؟
هذا هو السؤال.
لقد وصلنا جميعاً إلى اللحظة التي تُسمّى في المصطلح الإنكليزي ب [ لحظة الحقيقة ]. نعم : هي لحظة الحقيقة دقّت. ولا يجدينا نفعاً أن نتجاهلها. بل الأفضل لنا جميعاً مواجهتها ومواجهة ذواتنا ورؤانا وطروحاتنا السياسية، فما ينفع منها يمكث في الأرض، وما لا نفع منه بل ضرر مؤكد، فلنلفظه. وغير ذلك، فليس إلا المزيد من الدم الفلسطيني يُسفح رخيصاً بأيد فلسطينية. فيُساء لنا هذه المرة بما نفعله نحن بأنفسنا.
إن شعبنا أعظم وأفضل كثيراً من هذه الصورة المرعبة. فلتذهبوا جميعاً إلى صوت هذا الشعب، ما دامت كل الطرق مقفلة أمامكم وأمامه. إنها لحظة الحقيقة، ولن يرحمكم التاريخ، إذا هربتم من مواجهتها، ونكصتم عن واجبكم في أن تكونوا على قدّها وقدرها.
التعليقات