بتنا نخشى الكتابة عن أي بلد عربي. بحجة أن أهل كل بلد على حدة، أدرى بشعابه. وأعرَف منا بما يدور داخله. سيما وأنّ أوضاع بلداننا العربية، من التعقيد والتشابك والحساسية، بما يصدّ نفس الكاتب، أو المراقب، خوفاً من الزلل، أو رغبة في الحياد والابتعاد، ما استطاع، عن الخوض في الوحول أو [عش الدبابير ]، كما يقال.
والحق أن تعبير عش الدبابير، على ما فيه من مجاز، يصدق على أوضاعنا، خصوصاً، في العراق وفلسطين ولبنان. فهذه البلدان المُبتلاة، بأحداث غاية في المأساوية والدموية، تأخذ نصيب الأسد من ذلك التعبير الواقعي.
بيد أنّ ما تقدم، لا ينبغي له، مهما يكن، أن يُبعد الكاتب منا، و يجعله يكتفي بأن يكون متفرّجاً سلبياً، على ما يحدث أمامه. فتلك ليست من صفات كاتب الرأي، بما هو رجل هموم عامة، ورجل ضمير عام، ولن تكون، تحت أي ظرف وأي حال.
من هنا، دعونا نرى إلى ما يحدث على أرض لبنان الشقيق من أحداث مصيرية ساخنة، تجري هذه الأيام، وتهدد استقرار البلد الجميل الهش [ وكأنّ قدر كل جمالٍ في منطقتنا الرازحة في التخلف أن يكون هشاً! ] وربما تذهب به، فيما لو تصاعدت الأحداث بلا كوابح، إلى إعادته، مرة أخرى، إلى شبح الحرب الأهلية المقيتة، أو على الأقل، إلى نظام الوصاية السابق.
لقد دعا قادة أمل وحزب الله والتيار الوطني الحر، مناصريهم، إلى النزول صباح هذا اليوم الجمعة، إلى الشوارع والساحات العامة والمفترقات، لهدف وحيد وهو إسقاط الحكومة اللبنانية المنتخبة، والحاصلة على الأكثرية في مجلس النواب، وذلك بحجة أنها، أي هذه الحكومة برئاسة السنيورة، لم تعد تمثل الشعب اللبناني، وعليه، فلا بد من إحلال حكومة وحدة وطنية محلّها. أي حكومة يكون للقوى الثلاث، نصيب أكبر فيها. وربما حكومة يكون للقوى الثلاث، وبالأخص قوة حزب الله، نصيب الأسد في حقائبها.
أي إنّ الهدف المعلن لمثل هذه المظاهرة [ المليونية ربما ] هو إسقاط حكومة وتشكيل أخرى، يقطف من خلالها حزب الله أولاً والقوتان الأخريان، ثمار [ انتصارهم ] في الحرب الأخيرة بين لبنان وإسرائيل. وتحويل هذا [ الانتصار المزعوم ] إلى استحقاق سياسي واجب الدفع.
إنه إذاً صراع على السلطة قبل كل شيء وبعد كل شيء. صراع لتحويل نتائج الحرب الأخيرة، إلى حصاد، يضمن ارتفاع عدد كراسيهم في الحكومة المأمولة.
ولو كان الأمر يقف عند هذا الحد، فربما قلنا لا بأس. هذا يحدث في العالم كله. لكنّ الأمور ليست بريئة على هذا النحو. فما يحدث في السر والعلن، هو في حقيقة الأمر، إنقلاب يقوده حزب الله، ومعه بري وعون، على النظام الديمقراطي اللبناني. إنقلاب، لو قُدّر له النجاح، فسيأتي مرة ثانية بنظام الوصاية السوري الأسود، وب [ منطق الدويلات ] كما أشار فؤاد السنيورة في خطابه، مساء أمس الخميس إلى كل اللبنانيين.
لقد قالها السنيورة بأن [ لا طريق لإسقاط الحكومة إلا من خلال مجلس النواب ]، ولما كانت القوى الثلاث، لا تمتلك في المجلس ما يؤهلها لذلك، ستلجأ إلى الشارع، في استعراض جماهيريتها، وفي فرض أجندتها هي على الحكومة الحالية.
من ناحيتي لن أخوض كثيراً في هذا الشأن. بل سأعود إلى قناعاتي المبدئية، التي هي فوق السياسة، بمعناها اليومي والاستعمالي، لأؤكد، عدة أمور، لا ينبغي أن تغيب، عن فكر كاتب الرأي العلماني:
أولاً: إنّ ما يحدث، لو قُدّر له النجاح، ونتمنى ألا ينجح، سيهدّد التعايش السلمي بين اللبنانيين. وسينزع عن جمهوريتهم، الطابع المدني الحضاري، ويُعيدهم ربما إلى حظيرة الدولة الدينية. ويكفي هذا السبب الأخير وحده، لكي نقف مع قوى 14 آذار، بطابعها المدني والمديني، وبحرصها على مبدأ التعايش المشترك والحياة الجامعة لكل ألوان الطيف اللبناني.
ثانياً: لو قُدّر لحزب الله النجاح، سواء في الانقلاب على الحكومة الحالية، أو إعادة تشكيلها على هواه، فستكون هذه خطوة أولى، تعقبها خطوات وفي كلا الاتجاهين: الداخلي والخارجي. الداخلي بتديين النظام الاجتماعي والمؤسساتي للدولة اللبنانية، والخارجي، بالعودة إلى حضن نظام البعث الحاكم في الشام، ونظام الملالي في إيران. أي العودة بلبنان إلى حكم الوصاية الخارجية، متمثلة في نظامين تحديداً، هما من أعتى الأنظمة الشمولية في المنطقة.
لكل ذلك ولغيره، نأمل من قوى 14 و 8 آذار، العلمانية الطابع والمدنية، أن تنتبه، وأن تحشد نفسها، لتظاهرة أخرى [ ما دامت الأمور وصلت إلى ما يمكن تسميته بحرب التظاهرات ]. فالأيام القادمة حاسمة في حاضر لبنان ومستقبله. وهذه معركتهم من أجل لبنان، اللاطائفي، الحر، الديمقراطي: لبنان المواطنة لا الطائفة، والتعايش المشترك لا التخندق في جزر معزولة. والعلمانية لا حكم الملالي والموالي. فحاضر لبنان مهدد، ومستقبله مهدد، بل واستقلاله _ وهذا هو مربط الفرس _ مهدد هو أيضاً.
لذا لا مفر من أن تثبت قوى 14 و8 آذار وجودها مرة أخرى في الشارع. فلا خيارات ثمة أمامها. ما دامت الأمور وصلت إلى هذا النحو من الخطر والخطورة. إنّ القادم ملبّد بالغيوم السوداء، وإنّ حزب الله اتخذ قراره ولن يعود عنه حتى يحقق كل أهدافه أو معظمها على الأقل. وكل مكسب يحققه هذا الحزب، هو خسارة في الجانب الآخر. للأسف: هذه هي حقيقة الأمور، وحقيقة ما يجري على أرض لبنان وتحت سمائه. سوريا تنتظر العودة، وإيران تنتظر التكريس والتعميد، وكلاهما قلبه على مصالحه، ولا أحد قلبه على مصالح البلد إلا أم الصبي. فيا أمّ هذا الصبي الجميل، لا تتركي ولدك، وقفي في وجوههم. فكفاكِ ثلاثة عقود سوداء من الوصاية بوجيهها الكريهيْن: المباشرة وغير المباشرة: أما نحن فمعكم، لأننا مع لبنان الديموقراطي، المنفتح، اللاطائفي، المتنوع، العلماني، لبنان المشرع على شمس الحرية والتقدم والأمل في المستقبل، لا لبنان العائد إلى الوراء، ليرتدي العمامة السوداء، أو عمامة حزب البعث الفارط. ويا أم الصبي: لا عليكِ من حشودهم، لكنْ عليكِ من غوغائيتهم، ومن بلطجتهم، فحاذري، وحاذري. ودعي هذا اليوم يمرّ بأقلّ الخسائر، وتعاملي بحكمة القويّ معهم، فأنت أيضاً قوية. ولبنان الجميل أقوى من الرضوخ لإملاءاتهم، فالزمن معكِ، وتيار العصر معكِ، وهم من يقف ضد هذا التيار: تيار الشعوب وتقرير مصيرها بنفسها. فلا مكان بعد اليوم لكي يتحكّم فيكِ الغرباء، وأصحاب المطامع الخاصة المعروفة والمكشوفة.
إنها معركة. وهم اختاروها على هذه الطريقة. ولا خيار أمامكِ سوى أن تثبتي نفسكِ، وتعلني للقاصي والداني أنّ لبنان اليوم ليس لبنان الأمس، وأنّ ما كان بالأمس مضى وانقضى إلى غير رجعة. ليفهم ذلك طغاة سوريا وإيران. فهذا عصر الشعوب، ولا وصايات سوداء بعد اليوم على شعب لبنان.
إنّ ما يحدث هو انقلاب بكل معنى المفردة. وعلى اللبنانيين ألا يسمحوا لحزب نرجسي فاشي، أن يقودهم إلى عدم المستقبل، بعد أن أخذهم عنوة إلى عدم الحاضر، بتسرّعه ومغامرته في زج البلد كلها في حرب غير عادلة وغير معقولة، فكان ما كان من تخريب ودمار.. تخريب ودمار لن يتعافى منه لبنان، على الأقل في المدى القريب. وليت حزب الله اكتفى بذلك، بل ها هو يريد قبض الثمن مرتين: مرة بتخريبه حاضر لبنان، وأخرى بتخريب مستقبله وتوازنه الطائفي الهش. فهل هكذا يكون الانتصار وقبض ثمن هذا الانتصار المزعوم؟ ولمصلحة مَن!
إنها الديكتاتورية قادمة بكل جحافلها وتراثها الأسود، فكيف لا يتخذ الكاتب منها موقفاً؟
كلا إنه أضعف الإيمان!
التعليقات