عندما قطعت الأراضي الأسبانية، باتجاه الأراضي الفرنسية- قادما من أليكانت حيث حطت بنا الباخرة- بصحبة زوجتي وطفليَّ البالغين من العمر (5+7) سنوات، كان التعب قد نال من كل مفصل من مفاصلنا، والشمس قد غابت، وبدأ الظلام بالانتشار، فتوقفت أمام أول فندق فرنسي واجهني.

تركت زوجتي وأولادي في السيارة خارجا، ودخلت راغبا في غرفة مريحة وحمام، ونومة هنية تنسنا تعبنا، وتجدد نشاطنا. لكن صاحبة الفندق اعتذرت عن استضافتي عندما رأت جواز سفري العربي- كانت المنظمات الفلسطينية قد اكتسبت حينها شهرة عالمية في قدرتها على خطف الطائرات والقيام بعمليات، منفردين أو بالتعاون مع منظمات أخرى ألمانية ويابانية- متمتمة: (لا أريد مشاكل في فندقي). وكأننا نخزّن المشاكل في جيوبنا أو تحت أظافرنا! ولم ترأف بحالتي، وتنفرج أساريرها، إلا حين أدخلت طفليَّ، فرق قلبها، متأثرة ربما بسمرتهما ووداعتهما وابتساماتهما.

عندما دخل المتعاونون (الأساتذة العرب) لأول مرة إلى الجزائر بعد الاستقلال، استقبلهم الجزائريون بكل لهفة وحرارة، وعاملوهم بود ولطف بالغين، وجعلوهم أئمتهم في المساجد والصلوات، وأطلقوا عليهم لقب (شيوخ)، لكنهم بعد أعوام قليلة سمّوهم (شرقيين)، وفقدوا ألقهم ومحبة- ولا أقول احترام- الجزائريين. فمن بعض مآثرهم هناك أنهم تاجروا بالذهب والأدوات الكهربائية التي يدخلونها في العطلة الصيفية، وحاولوا تعليمهم التلاعب على القوانين، ورشوة الموظفين، وكانوا يستهجنون ويربأون بأنفسهم أن يقفوا في الصف (الدور) أمام المخبز، خلف الأطفال، فهذا معيب، وإهانة كبرى لهم، لا تتناسب مع وضعهم كرجال وأساتذة، فالطفل يمكنه أن ينتظر، وأقدر على الوقوف، وبحاجة لتعلم النظام، أما هم فعلى عجلة من أمرهم، وأمامهم مهام تنتظرهم.

من منا في بلاد الخوف أوطاني لا يخشى جاره؟ من منا يثق بالآخر ولا يسيء الظن بالناس كل الناس لا يستثني أحدا؟ ألا نخشى الأصدقاء قبل الأعداء؟ والذين أحسنّا إليهم قبل الذين أسأنا إليهم؟ ألم نؤكد في أمثالنا الشعبية على ذلك؟ (أحذر عدوك مرة، وصديقك ألف مرة) ألم نقل أيضا: (اتق شر من أحسنت إليه). أليست الأمثال نتيجة لتجاربنا المتكررة، وخبراتنا المتراكمة بالناس والمجتمع؟ ألا تنبع هذه الأمثال من بيئتنا، وتعبر عن واقعنا؟ ألا تعني أن الغدر، ونكران الجميل، ورده سوءا، خلة من خلالنا، وخصلة من خصالنا؟ ألا تعني أن الصداقة في مفهومنا اسم بلا مسمى، ووهم، وباطل؟

أليس الكذب في بلاد القمع أوطاني سلاحنا الذي نحتمي به، وزورق النجاة؟ أليس طقسا يوميا من طقوسنا، يمارسه الكبار والصغار؟ ألم نبتدع مفهوم التقية؟ ألم نقل في أمثالنا: (الكذب ملح الرجال، والعيب على الذي يصدق)؟

من منا في بلاد الكره أوطاني يحب الآخر ويتمنى له الخير؟ أليس الغش واحدا من أمراضنا الخبيثة التي أعيتنا، ولم نستطع حيالها شيئا؟ ألا يغشون في القول والرواية ونقل الخبر والكيل والميزان؟ ألم يقل رسول الله: (من غش ليس منَّا) ومع ذلك لا نبرّئ إلا قلة قليلة جدا من هذا الداء؟ أليس الحسد طبع أصيل من طبائعنا، وقد حذرنا من شره القرآن الكريم، ولم نرتدع؟ ألا نضع للحسد خرز زرقاء وأحجية ورقى تخوفا من القريب قبل الغريب، وتحسبا من هوله؟ أليس التزلف والنفاق عادة من عاداتنا، والمنافقين في صحرائنا كثر، برغم كثرة ما قال القرآن الكريم عنهم وفيهم؟ ألسنا كلنا في الشرق همُّ؟

أليس الفساد في بلاد النهب أوطاني، والفاسدين والمفسدين ماركة مسجلة في قفارنا وفيافينا، ومرض من أهم وأخطر أمراضنا القديمة الحديثة المتوارثة التي اشتدت وعمت وانتشرت وخرّبت العقول والأخلاق والضمائر وخزائن الدولة والممتلكات العامة والخاصة، ونحن أمامها عاجزون مستكينون راضخون قانعون؟ أليست الرشوة وباء يكتسح الأخضر واليابس في بلداننا، ومن لا يرتشي ويدبر حاله أبله أو حمار؟

من منا في بلاد القهر أوطاني لا يعرف عددا كبيرا من الذين يأكلون السبعة وذمتها؟ ولا يقيمون لشرع الله حدا، ولا للحق وزنا؟ من منا لا يعرف عددا من الذين باعوا ضمائرهم وأقلامهم؟ من منا لا يعرف عن قرب عددا من الذين أكلوا ويأكلون مالا حراما؟ أليس كنز المال واللهث خلفه من عاداتنا؟ ألم يعد الله هؤلاء بنار موقدة، عليهم موصدة، تطلع على الأفئدة، ومع ذلك لا نخشى ولا نخاف ولا نتعظ؟

أليس التحايل في بلاد التخلف أوطاني، شطارة؟ والقوانين تُخرق قبل أن تصاغ وتُنشر؟ ألا تغص محاكمنا بقضايا النصب والاحتيال؟ ألا نتهرب من دفع الضرائب بحجة أنها مخالفة للشرع، ألا نتلاعب بالدفاتر، ونرشي الموظفين كي نلغيها أو نقلل مقدارها؟ ألا نماطل دائنينا ونتهرب من دفع الدين؟ ألا نتهرب من مواجهة الحق؟ ألا نعلّم أولادنا أن يكونوا ذئابا، بحجة أن غاباتنا تعج بالذئاب؟ أليست أمثالنا الشعبية خير معبر عن حالنا وتاريخنا وثقافتنا؟ ألم نقل: (من لم يكن ذئبا أكلته الذئاب)؟ ألا يدل هذا على أخلاق محيطنا، وحال الذين يعايشوننا؟ ألسنا جزءا من هذه البيئة؟ ألا يدل هذا على تربيتنا وطريقة تعاملنا مع الآخرين؟
من منا في بلاد الجهل أوطاني لا يتهم الآخر في مذهبه أو وطنيته أو ذمته؟ أليس التكفير والاتهام بالخيانة، والتعامل مع العدو، أسهل ألفاظنا، وأول ما يجري على ألسنتنا؟ ألا يقيم كل واحد منا، من نفسه مفتيا وقاضيا، ويدين الآخرين؟
من منا يدعو للآخر بالخير حين يصلي إلا فيما ندر؟ ألا يستغل أكثر الناس صلاته، ليستعين بالله، داعيا على من لا يرتاح إليهم أو لا يحبهم، بالخسف واليتم والقهر، وتبديد الشمل والمال؟
ألسنا في بلاد الخطابة أوطاني متبجحون مدعون متواكلون، ألفاظنا كبيرة، أفعالنا صغيرة، نقول ما لا نفعل، ونفعل خلاف ما نقول، ونعد ثم لا نفي؟ وردود فعلنا سريعة متهورة؟
أليس الفكر فيما يخالف أو لم يفكر فيه السلف بدعة مخيفة في بلاد الكبت أوطاني، وسم قاتل، وضلالة تودي بصاحبها إلى الهلاك؟
أليس الإنسان في بلاد الفقر أوطاني سلعة رخيصة بخسة الثمن، لا يقيم أحد لهمومه شأنا، ولا لحياته وزنا، ولهذا يعشق الموت ويكره الحياة؟
[email protected]