عجيب أمرنا نحن الفلسطينيين، نكذب الكذبة، ونستمر في بثها حتى نصدقها. وآخر كذباتنا، أن فتح اختارت طريق المقاومة فتخلت عن السلطة، فيما غيرها، اختار السلطة فتخلّى عن المقاومة. والمقصود بالطبع، في هذا الجُزاف الكلامي، هو حماس!

لم أسمع هذا الكلام من راكب سيارة مثلاً، ولكني سمعته من إذاعة فتح في قطاع غزة، وهي تبثه إلى طلبة الجامعات بالتخصيص. وسمعته، بدل المرة مرات، حيث ابتلاني حظي بالسفر ، وبركوب سيارات الأجرة، ساعتين ونصف يومياً، للوصول إلى مقر عملي بغزة. ولكُم أن تتخيلوا، كم أسمع من التفاهات في رحلتي الذهاب والإياب، طوال جلوسي مقهوراً في السيارة.

إذاعة معروفة مصادر التمويل، تصرّ على قلب الحقائق، بطريقة أقل ما يقال فيها إنها مبتذلة. ومع هذا لا أحد يحاسب ولا أحد يراقب. والنتيجة عدم احترام الحقيقة، والكذب المفضوح على المواطن الغلبان. وكأنه، أي المواطن، بلا عقل، ولا يعرف! إن إعلاماً من هذه الماركة، لهو شيء مضحك في زماننا المفتوح على كل الحقائق! بل لشيء رثيث يكشف ويفضح رثاثة القائمين عليه فحسب.

ترى كم تُصرف من أموال على أمثال هذه الإذاعات؟ لا غرو يُصرف عليها الكثير. وسيُصرف عليها الأكثر في المرحلة القادمة. فهي لسان حال الحركة المهزومة، وعليها يقع إعلامياً، تصحيح أوضاع الحركة!

هكذا تستخلص فتح العبر مما جرى.. أي على طريقة: عنزة ولو طارت! أو بلغة أقلّ شعبويةً: بمزيد من دفن الرأس في الرمل الموحل!
لكن فتح تنسى أننا نعيش الآن في العام السادس من الألفية الثالثة، لا في خمسينات القرن الماضي، حيث الإعلام الحكومي التعبوي، وحيث الضحك على ذقون الجماهير.
فالجماهير، أخيراً، نضجت وفهمت، ولو نسبياً. وأصبحت تعرف الكثير، مما لا يعرفه إعلاميو الحركة، وخصوصاً جيل الشباب منهم.
فعلى ما يبدو، وجرياً على الطريقة الفتحاوية المشهورة، اشتغل هؤلاء بالواسطة لا الكفاءة. والذي يشتغل في الإعلام بهذه الطريقة، لا شك أن مصيره معروف، وفضيحته بجلاجل.
إذاعات تبث السموم وتلوّث الجو، وتحرّض على الحرب الأهلية. معلنة انتماءها لمن يموّلها فقط، وواضعة عقل المستمع، في أدنى درجات الاستهتار والاحتقار. والنتيجة بالطبع، هي احتقار المستمع لها، والهزء بمن خلفها وأمامها، من أشاوس البيروقراطيين الفاسدين.
وليت الأمر يقف عند حد هذه الإذاعات المنتشرة ذات الصبغة العصبوية الكالحة، بل لقد تعدّاه إلى ما هو أخطر، حيث وصل الفساد بالمؤسسة الإعلامية الوطنية إلى درك الفضيحة، حين أعلن النائب العام، قبل فترة قصيرة، ابتلاع هذه المؤسسة لعشرين مليوناً من الدولارات، ذهبت إلى كروش مُترفيها!
لقد صنع ياسر عرفات إعلاماً على طريقته العبقرية: إعلاماً فريداً في تاريخ الثورات والدول. وحشد له مبالغ طائلة هائلة من المال، دون أن ينتبه إلى أهمية الكادر البشري. فسمعنا ورأينا إعلاما عجيباً غريباًً لا مثيل له، اللهم سوى إعلام صدام حسين.
والكل يذكر ما حدث حين افتُتحت الفضائية الفلسطينية في غزة، أوائل عهد السلطة. حيث جعل على رأسها رجلاً فاسداً، كان يعمل في دول الخليج، كتقني فني متواضع. وحيث شاركت راقصة هز بطن مصرية، كنجمة أولى لليلة الافتتاح!
هكذا هو إعلامنا الثوري حماه الله. وهكذا هي الثورة حين تتحوّل إلى سلطة، فلا تجد أكثر ثورية من الأوراك والصدور الرجراجة العارية.
شيء إيروتيكي خالص، مع أنه ليس كذلك بالمرة! شيء يدشّن لمرحلة ثقافة ما بعد الثورة وما قبل الدولة بقليل!
ولقد قيل يومها إن الراقصة حصلت على مبلغ معتبر من القائد الخالد.. مبلغ أظن أن عشرة من المثقفين الجادين لم يحصلوا عليه مجتمعين طوال حياتهم.
كانت هذه هي البدايات وعلى ذلك فليزن الوزّانون! فكيف لبدايات مؤسِسة كهذه أن تعطي وهي من عائلة الفِجْليّات فراولة أو تفاحاً؟
مستحيل بالطبع. وكل ما في الأمر، أن quot; المستحيل quot; هذا، ما يزال حياً يُرزق إلى اليوم. فما يؤسس على أفخاذ يظل أفخاذياً، والجزاء على من بدأ. لكننا نحمد الغرب على نعمة الفضائيات والأنترنت. وعلى ثورة المعلوماتية والإعلام. إذ انتهى إلى غير رجعة زمن الإعلام البيروقراطي الرسمي. وزمن تكميم العقول والعيون.
إن معظم الفلسطينيين الآن، ينظرون بإشفاق وأسى إلى حال إعلامهم المكتوب والمرئي. فقد ضرب هذا رقماً قياسياً في السوء والرداءة. مع أنهم يعرفون أن المشكلة تكمن في سيستم المؤسسة أولاً وأولاً وأخيراً.
ففلسطين أنجبت على مدار قرن من الزمان، نجوماً في العمل الإعلامي والثقافي. ولو أردنا تعدادهم لضاق حجم هذا المقال. ومع ذلك ها نحن بدأنا وما زلنا بأسوأ وأقل الكفاءات طراً على الإطلاق _ والتعميم ههنا غير الظالم.
والسؤال الواجب في هذه اللحظة هو: إلى متى؟ إلى متى يستمر حالنا الإعلامي في الانحدار والانحطاط؟ وهل صار التغيير أكبر من قدراتنا، أم أننا نحتاج فقط إلى تبديل القيادات الفاسدة، وإعطاء الخبز لخبّازه لا أكثر؟
فلسطين ليست عاقراً، ولم تكن ذات يوم كذلك، إلا في عهد هؤلاء الفاسدين العاطلين. فهؤلاء قزّموا كل شيء، لكي تعلو قاماتهم القصيرة فقط. لكن لكل شيء إذا ما تمّ نقصان ونهاية. وهم اليوم داخلون في طور النقصان والنهاية، حتى لو حاولوا الانقلاب على شرعية نتيجة الانتخابات، وسحب بساط وزارة الإعلام من مجلس الوزراء، ومدّهُ في مؤسسة الرئاسة.
فهذه ألاعيب مكشوفة، فضلاً عن أنها لا أخلاقية، وتشير بوضوح إلى مستوى العقل المدبر لها.
إنه عقل فصائلي لا دولاني. عقل تنتهي مصالح البلاد والعباد عنده، عندما تقترب من جيبه الذي لا يشبع.
ولكَم عانى شعبنا منه، ولكَم زفرَ وجأر. فهل تأتي له حماس بحقه المهضوم، طوال أحد عشر عاماً رمادية، أم تتركه يعيش مزيداً من سنوات الرمادة؟
لقد رفعت حماس شعار [ التغيير والإصلاح ومحاربة الفساد ]، وهو الملف الوحيد الذي نتفق فيه تماماً معها. فهل سنرى تطبيقاً في القريب، لهذا الشعار، وبالذات في حقل الإعلام، فتكشف لنا وجوه الإعلاميين الفاسدين، وتحاسبهم وتعاقبهم، أم أنها ستدع الطابق مستوراً، وعفا الله عما سلف؟
إنها الآن أمام هذا التحدي الهيّن قياساً إلى التحديات الأخرى الوعرة، ونأمل لها، نحن خصومها وفرقاءها، أن تبدأ الحساب، وأن تفتح الملفات، وتعيد لشعبنا كل أو بعض ما سُرقَ من دماء شهدائه، وقوت عياله الصابرين.
كي نرى ويرى العالم العربي بالأخص، أسماءً في مصاف النجوم، كان يكن لها الاحترام وينعتها بلقب المناضلين، وهي تتحوّل من نجوم إعلامية مناضلة إلى نجوم ولكن هذه المرة في عالم الحرامية والمجرمين!
إننا لمنتظرون، يا حماس، وإن غداً لناظره قريب...