تتعالى الدعوات، في الأيام الأخيرة، لحلّ وتفكيك السلطة الفلسطينية، والعودة إلى المربع الأول. أي العودة إلى ما قبل اتفاقية أوسلو. وقد صدرت هذه الدعوات من كُتاب وكوادر وأعضاء في اللجنة المركزية لحركة فتح، على نحو خاص، كرد فعل على اقتحام سجن أريحا. والسؤال الواجب طرحه، هو: لماذا الآن؟ ولماذا في هذا التوقيت بالذات؟ وهل من مصلحة القضية وشعبها أمثال هذه الأطروحات غير البريئة، وبالأحرى: الفئوية؟ ولماذا الآن، بعد خسارة فتح وتحوّلها إلى مقاعد المعارضة؟
أسئلة كثيرة تنتاب المرء، وهو يسمع ويقرأ، هؤلاء المُنظّرين العباقرة! وكأن السلطة، ملك أيديهم، فإذا خرجت من تحتهم، فالأولى بنا وبها، أن نذهب جميعاً إلى الجحيم!
كلا يا سادة. فهذا طرح أقل ما يُقال فيه إنه عدمي صبياني. ولا يفكّر فيه أناس لهم الحد الأدنى من العقل والحد الأدنى من معرفة ألف باء السياسة. فنحن لسنا وحدنا في الميدان، ونحن لسنا اللاعب الأقوى، حتى نفرض شروطنا واشتراطاتنا. بل نحن على العكس والنقيض تماماً: شعب محتل لا يمتلك من قوة في هذه الدنيا، سوى قوة تفوّقه الأخلاقي على محتليه. هذا هو رصيدنا الأخير، وهذا هو جدارنا الأول والأخير أيضاً. فهل سأل هؤلاء أنفسهم، على ماذا يعتمدون في مطلبهم العجيب هذا؟ وما هي مقومات نجاحه فيما لو تحقق؟ ثم هل توجد بدائل حقيقية للسلطة في حال تفكيكها؟ وما هو مصير مئة وستين ألفاً من الموظفين بعائلاتهم؟ أين يذهب هؤلاء يا ترى؟ وكيف يتدبرون شئون عيشهم ومعيشتهم؟ أينتظرون مائدة يومية تهبط لهم من عنان السماء!
واضح، أن العقل السياسي لكثيرين من كوادر فتح، قد أفلس. وواضح أنهم لم يستوعبوا درسَ هزيمتهم الساحقة بعد. وما هذه الدعوات المشبوهة، إلا الصراخ من شدة الوجع، وإلا الحَرَد. أي مجرد تنفيس انفعالي هرطوقي يؤكد قصورهم وفراغ أيديهم.
إن اتفاقية أوسلو لهي منتوج فتحاوي بالأساس. وحين وفّرت هذه الاتفاقية المال والوجاهة والمناصب والامتيازات لهم، كانت في قمة الجودة وفي مصلحة شعبنا. أما الآن، بعد أن سُحب البساط الأحمر وغير الأحمر من تحت أرجلهم، ولم يعد لهم، سوى النوستالجيا والبكاء على الأطلال، فقد صارت أوسلو [كُخّة] ولذا يجب تفكيكها بأسرع وقت ممكن.
منطق متهافت دون شك. منطق مَن لا يعنيه لا فلسطين ولا شعبها الصابر. بل تعنيه فقط مصالحه الفئوية الضيقة، حتى وإن تشدّق بحق يُراد به باطل. ونحن نقول لهم إن شعبنا لن يكون حقل تجارب يرتهن إلى نزواتهم. فيكفيه ما أذاقوه من ذل ومهانات، حين جعلوا من المنتسبين لهم مواطنين درجة أولى، في الحقوق دون الواجبات، وتعاملوا مع بقية أبناء شعبهم، كمواطنين من الدرجة الثانية والثالثة والرابعة.
إن تفكيك السلطة الفلسطينية هو من مصلحة القوى المتطرفة في إسرائيل أولاً وأخيراً. وخصوصاً في هذه اللحظة، بعد فوز حركة حماس ذات الأجندة المقاوِمة. ولهذا فإن كل من يطالب بهذا المطلب، يخدم، بقصد أو بدون قصد، هدف هذه القوى، سواء في المدى المرحلي أو الاستراتيجي.
لقد عانى الشعب الفلسطيني، منذ قرن بأكمله، من تطرف قياداته، ومن ضياع عدة فرص ذهبية للحلّ المعقول. وهو ليس في وارد أن يجرّب مزيداً من هذا التطرف الآن. فالمرحلة القادمة، بعد فوز حماس وتشكيلها للحكومة الانفرادية، ستكون أصعب بما لا يُقاس من المراحل السابقة. وستكون على الأرجح، هي مرحلة استفراد إسرائيل بنا، دون أية رعاية حقيقية من جانب أحد، ودون أي اهتمام حقيقي من لدن العالم، متحضراً كان أو غير متحضر. فعلى ما يبدو، فإن قضيتنا دخلت، من جديد، في النفق المظلم. ولسوف نكون، من جديد أيضاً، في مهب الزلازل لا الرياح.
وما جرى في سجن أريحا، من تخلّي بريطانيا وأمريكا، وتنصلهما من مسئوليتهما الأخلاقية والقانونية، ومن صمت العالم وردود فعله الضعيفة تجاه هذه الجريمة، لهو إشارة واضحة لنا، بأننا الآن وحدنا أمام إسرائيل اليمينية، وحدنا، تفعل هي بنا ما تشاء ووقت تشاء.
فما دمنا انتخبنا حماس، فلنقلّع شوكنا بأيدينا. هذا هو درس أريحا باختصار. وعلينا أن نفهمه سريعاً قبل فوات الأوان. فلا نواجهه بمزيد من التطرف العدمي، بل نواجهه بعقل سياسي، وبحساب كل خطوة نخطوها، في مرحلة هي الأكثر وعورة ودقة وحساسية، من تاريخ شعبنا.
إن فوز حماس ببرنامجها المعلن، لهو مأزق لها ولنا معاً. وسوف يدفع شعبنا ثمن هذا الفوز، بمزيد من التنكيل به. لهذا السبب ولعدة أسباب أخرى، على قوانا وتنظيماتنا، التي أثبتت قصورها غير مرة، أن تنتبه، وأن تعي وعورة المرحلة القادمة. لا بالدعوات لتفكيك السلطة [ وهي، أي السلطة، تظل إنجازاً لنا، مهما شابها من سلبيات الفتحاويين وخطاياهم ] وإنما بالدعوة إلى تصليب وجود هذه السلطة على الأرض، والارتقاء بأدائها وبنوعية خدماتها، كي تعزز من صمودنا الفعلي في الميدان - كما تأمل وتنتظر غالبية الناس.
فالعقلّ يُحتّم هذا المسعى. وكل الحسابات الإقليمية والدولية، تصب في هكذا اتجاه. أما القول بتفكيك السلطة، الآن، وقلب الطاولة على رؤوس اللاعبين، ودفع إسرائيل إلى أن تدفع ثمن احتلالها غالياً لا رخيصاً، فليس سوى ضرب من انتحار سياسي. وأظن أن شعبنا شبع من الانتحارات، ولا يريد مزيداً منها.
وبدلاً من هذه الدعوات الانتحارية غير الواقعية، أولى بنا أن نتعاضد ونتكاتف ونتماسك، وأولى بجبهتنا الداخلية أن تتعافى من أمراضها العضال، وأن تتفق على حل واحد ورؤية مشتركة ولغة واحدة يقبلها العالم. وأولى بحماس، بالأخص، بما هي حزب السلطة وفي يديها مقاليد السلطة، ألا تلاوع وتناور، في مسألة تشكيل حكومة وحدة وطنية، جاعلة مصالحها كحركة، تعلو على مصالح الشعب الفلسطيني بأسره. فالقادم أخطر، وإسرائيل تسعى جاهدة للاستفادة من أطروحات حماس البلاغية، لفرض مخططاتها على الأرض، وتحويل مناطق السلطة الفلسطينية إلى معازل إين منها معازل نظام الإبرتهايد المقبور. وأولمرت يقولها بصراحة القوي: إن بلاده ستقرر حدودها النهائية خلال ثلاث سنوات. كل هذا يجري ونحن ندخل في جدل بيزنطي وسوفسطائي حول نصوص برامجنا الحركية، وحول الاتفاق على هذه النقطة أو تلك، من برنامج هذه الحركة أو تلك. وكأن هذه البرامج، وبالأخص عند حماس، غدت بمثابة نصوص مقدسة ممنوع الاقتراب من حدودها، حتى لو ضاعت حدود وطننا وكياننا الواقعي أمام أعيننا على الأرض!
حتى بدا الحال، وكأن [ اللغة ] عند الفلسطينيين الحماسويين، صارت أهمّ وأغلى وأخطر من [ الواقع ] وتعقيدات هذا الواقع الفاقع..!
التعليقات