بعد ثلاث سنوات على سقوط بغداد...

ثلاث سنوات مرّت على سقوط نظام صدّام حسين العائلي- البعثي. ثلاث سنوات مليئة بالأحداث التي لم يشهد الشرق الأوسط مثيلاً لها منذ أنهيار الدولة العثمانية بداية العشرينات من القرن الماضي وأنكباب الدول الكبرى وقتذاك على رسم خريطة الشرق الأوسط في ضوء المعطيات الجديدة التي نتجت عن الحرب العالمية الأولى.
في التاسع من أبريل- نيسان من العام 2003 ، دخلت القوّات الأميركية الى بغداد وكان أوّل ما فعلته أسقاط تمثال لصدّام في أحدى الساحات في عملية أتخذت طابعاً مسرحياً واكبها الأعلام العالمي عن كثب في سياق خطّة مرسومة بشكل مسبق هدفها الواضح أبلاغ كلّ من يعنيه الأمر أن صفحة طويت في تاريخ العراق الحديث والمنطقة. كان مطلوباً بكلّ وضوح توجيه رسالة الى العراقيين والى شعوب المنطقة فحواها أن اليد الأميركية طويلة، بل طويلة جدّاً وأن المصير الذي لقيه صدّام سيكون مصير كلّ من تسوّل له نفسه تحدي القوة العظمى الوحيدة في العالم. كانت الرسالة واضحة، الى أن تبيّن في ضوء الأحداث التي شهدها العراق وما يعاني منه اليوم أن اليد الأميركية طويلة فعلاً. ولكن هل يمكن قول الشيء نفسه عن العقل الأميركي؟

يتبين يومياً أن اليد الأميركية طويلة، لكنّ العقل الأميركي قاصر. ولو لم يكن الأمر كذلك، لما شاهدنا ذلك المسلسل العراقي الطويل الذي ليس معروفاً كيف سينتهي أو الى أين سيودي بالمنطقة كلّها. وما يدفع على قول ذلك أن حرباً أهلية تدور في العراق بعدما نجح الأميركيون في تفتيت البلد وفشلوا في أعادة تجميع أجزائه. كان فشلهم كبيراً الى درجة يصحّ معها التساؤل هل سينجحون في ذلك يوماً، أم أن هدفهم الأصلي كان تفتيت البلد وأن الذي زرع فكرة غزو العراق مباشرة بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، لم يكن يفكّر سوى بكيفية أعادة رسم خريطة المنطقة أنطلاقاً من العراق؟

كان مبرراً العمل على أسقاط نظام صدّام حسين. ليس مطلوباً أجراء محاكمة تاريخية لنظام لم يترك خطأ ألاّ وأرتكبه، لكنّ هذا شيء والطريقة التي أسقط بها النظام شيء آخر. ولعلّ ما هو أسوأ من الطريقة التي أسقط بها النظام أن الأدارة الأميركية بدت غير مدركة لأمرين على الأقلّ. يتمثّل الأمر الأول في أهمية أهل السنّة العرب في المحافظة على حدّ أدنى من مقومات الدولة العراقية والأمر الآخر في النتائج التي يمكن أن تترتّب على أنفلات الغرائز المذهبية والقومية في بلد قضى نظام صدّام على النسيج الأجتماعي فيه، بلد أنهكته حروب صدّام ومغامراته المجنونة، بدءاً من الحرب مع أيران وأنتهاء بأحتلال البلد الآمن الذي أسمه الكويت الذي لم يقدّم للعراق والعراقيين سوى الخير.
لدى العودة الى الطريقة التي أتخذ بها قرار غزو العراق، لا بدّ من التذكير بأن بول ولفويتز الذي كان نائباً لوزير الدفاع في العام 2001 ، حضر الأجتماع الذي شارك فيه كبار المسؤولين الأميركيين في منتجع كامب ديفيد وذلك لدرس كيفية الرد على أحداث 11 سبتمبر. في ذلك الأجتماع، الذي كان برئاسة بوش الأبن، تطرق ولفويتز للمرة الأولى بشكل علني وصريح الى العلاقة بين نظام صدّام وتنظيم quot;القاعدةquot;، علماً بأن لا وجود لمثل هذه العلاقة. أثار موقف ولفويتز، الذي ما لبث أن ترك وزارة الدفاع وأصبح أخيراً رئيساً للبنك الدولي، أستغراباً لدى مسؤولين مثل وزير الخارجية كولن باول الذي رفض طرح موضوع العراق في أجتماع كامب ديفيد. أستطاع باول أسكات ولفويتز وقطع الطريق على أن يكون الرد على أحداث 11 سبتمبر في العراق وليس في أفغانستان. لكنّ نائب وزير الدفاع وقتذاك أعتبر أنه حقق هدفه أذ قال بعد الأجتماع لدى سؤاله عن السبب الذي دفعه الى طرح موضوع العراق: كنت أريد زرع هذه الفكرة في عقول المسؤولين الأميركيين، وقد نجحت في ذلك.

الآن بعد ثلاث سنوات على الأحتلال الأميركي للعراق، هناك بلد لا مكان فيه سوى لأنفلات الغرائز أضافة الى أنّه مهدد بالتقسيم. والسؤال الذي لا بد من طرحه ليس مرتبطاً بما أذا كانت هناك حرب أهلية تدور رحاها أم لا بمقدار ما أنه مرتبط بما أذا كان في الأمكان وقف هذه الحرب لا أكثر ولا أقلّ. ولكن ما قد يكون أهم من ذلك هو ما الهدف من الأحتلال الأميركي للعراق. لماذا رمى ولفويتز الفكرة التي لم تكن مقبولة في العام 2001 وصارت أكثر من مقبولة في العام 2002 حين بدأ الأعداد الفعلي للحرب . كيف استطاع عتاة المحافظين الجدد في الأدارة، على رأسهم ولفويتزالدفع في أتجاه أتخاذ قراربشن حرب على العراق على الرغم من التحذيرات الكثيرة التي صدرت عن عدد لا بأس به من المسؤولين العرب وغير العرب الذين أكّدوا أن المنتصر الوحيد من حرب أميركية على العراق سيكون النظام الأيراني.

بعد ثلاث سنوات على الحدث العراقي لا بد من العودة الى السؤال الأساسي ما الهدف من الحرب التي شنتها الولايات المتحّدة على العراق؟ هل كان ولفويتز على علم مسبق بأن المسألة تتجاوز تغيير نظام الحكم في البلد وأن الهدف التأسيس لشرق أوسط جديد؟ من المبكر الحصول على جواب قاطع، ألاّ أن ما لا بدّ من اخذه في الأعتبار أن ليس العراق وحده الذي تغيّر، بل تغيّرت معه كل المنطقة. لقد دفع الأحتلال الأميركي للعراق أيران الى استعادة المبادرة على الصعيد الأقليمي. صارت أيران بكلّ بساطة القوة الأقليمية الأهم في المنطقة، صارت قادرة على محاولة تسمية رئيس الوزراء العراقي وعلى الذهاب بعيداً في سعيها الى رفض التراجع عن مرشحها كما يحصل حالياً في البلد المجاور لها حيث حلّ الولاء للمذهب والطائفة بدل الولاء للوطن. أنّها صاحبة نفوذ واسع في العراق حيث يصعب الحديث عمن هو قادر على أيجاد أي نوع من التوازن معها، اللهم الاّ أذا قررت الولايات المتحدة الدخول في مواجهة مباشرة معها.

بسبب العراق وما حلّ به، تعرض أيران حالياً عضلاتها في كلّ أنحاء العالم العربي. أنّها موجودة بقوة في الخليج مع صواريخ متطورة تؤكد بواسطتها أنّها قادرة على التحكم بحركة الملاحة في المنطقة التي يمر بها قسم لا بأس به من النفط الذي يحتاجه العالم. وهي موجودة في سوريا بطريقة مختلفة عن الماضي في ضوء حاجة النظام هناك اليها. وهي موجودة في لبنان أكثر من أي وقت ليس بفضل ميليشيا quot;حزب اللهquot; التابعة لها فحسب والتي تجعل أيران على تماس مباشر مع أسرائيل، بل بفضل السياسة الذكية التي مارستها طهران أيضاً والتي مكّنتها من ملئ الفراغ الذي خلّفه خروج القوات السورية من هذا البلد.

يمكن بالطبع الحديث عن تزايد النفوذ الأيراني في فلسطين بسبب العلاقات العميقة القائمة بين قياديين في quot;حماسquot; وطهران، ألاّ أن ما لا بد من الأعتراف به في ختام المطاف هو أن هذه التغييرلت الجذرية في موازين القوى في الشرق الأوسط ما كانت لتحصل لولا القرار الأميركي بأجتياح العراق وأسقاط النظام فيه؟ كذلك ما كان ممكناً لأيران أبداء هذا الأصرار على متابعة برنامجها النووي لولا أمتلاكها الورقة العراقية.

مرة أخرى هل كانت أميركا تدري ماذا تفعل أم أنها نفّذت ما كان مطلوباً منها أن تنفذه في سياق سياسة يعيدة المدى تستهدف تغيير الأوضاع في الشرق الأوسط في العمق. في كل الأحوال، ما يفترض ألاّ يغيب عن البال في أي وقت أن عملية أعادة رسم خريطة الشرق الأوسط بدأت في الماضي قبل أتهاء الحرب العالمية الأولى، والدليل أن معاهدة سايكس-بيكو، التي قسّمت مناطق النفوذ بين بريطانيا وفرنسا، وقّعت في العام 1916 وكانت الدولة العثمانية لا تزال تقف على رجليها....
بعد ثلاث سنوات على سقوط بغداد وتحطيم تمثال صدّام، لا يمكن سوى الأعتراف بأن الشرق الأوسط في مرحلة أنتقالية. ليس العراق وحده الذي تغيّر الى درجة صرنا لا نعرف ما هي هوية هذا البلد الذي شارك في تأسيس جامعة الدول العربية... المنطقة كلّها تتغير من كان يحلم قبل أقل من سنة أن القوّات السورية ستخرج من لبنان على سبيل المثال وليس الحصر؟