تعالت الأصوات في الفترة الاخيرة التي توجه سهام النقد لجامعة الدول العربية.وسيبدو من النشاز اليوم الاعتراض على تلك الجوقة والقول بوجود حاجة ماسة للجامعة العربية. وهناك من يُحَمِل الجامعة العربية كل مشاعر الخيبة وكبوات الأمة منذ ظهورها ومرورا بهزيمة حزيران وحتى ما انتهت الأمور في العراق وفي فلسطين وغيرها وغيرها.
بيد ان نزعة التطور في الساحة الدولية، تشير إلى أن جامعة الدول العربية كمؤسسة، مازالت مطلوبة ويقتضي الأمر تتناسب دورها مع متطلبات الحاضر والمستقبل. ودون وجود الجامعة العربية فان مستقبلا غامضا ينتظر الدول الأعضاء.
ويتجنب منتقدو الجامعة العربية الحقيقة في هذا الاستنتاج لانهم يتناسون مقدمة بسيطة وواضحة جدا مفادها ان الجامعة ما هي الا مرآة لأعضائها هي تعكس واقع وحقائق قائمة على الارض. ان جامعة الدول العربية مشروع لم يدخل بعد حيز التنفيذ بالكامل، مشروع متحول ومتغير يعكس العصر ومتطلباته وارادة الدول الأعضاء. الجامعة العربية في بداية تكوينها غير جامعة الدول العربية اليوم وغدا بالتأكيد ستكون غير ما هي عليه ألان. لا اقرر بأي اتجاه، وعلى أي حال فان هذا يعود إلى جملة عوامل والمؤثرات وبالدرجة الأولى إلى الدول المنضوية والى استراتيجياتها المحلية والخارجية ومتى استجابتها لهذه الظروف أو تلك ومدى استقلاليتها في اتخاذ القرار ودورها الإقليمي والى ما الى ذلك من المؤثرات. ولكن قراءة الحاضر والاستشراف على المستقبل تؤكد حقيقة لا غبار عليها، ان الجامعة العربية تبقي من منطلق الحاضر والمستقبل حاجة يجب السهر عليها الحفاظ عليها.
كثيرا ما تناقش الجامعة العربية من وجهة نظر دورها وتفاعلها مع قضية دولة عضو
فيها ربما تتقاطع مع مصالح الاخرين. فالجامعة مؤسسة نشأت بين دول لديها اكثر من قاسم مشترك، منها قواسم ثابتة واخرى متغيرة، وتنطلق الجامعة في الأساس من المشترك والعام للأعضاء. ان التعاطي مع اية مشكلة ينبغي ان ينطلق من مدى خدمتها للعام. ولذلك فان الرجحان باية قضية ما ينبغي ان يكون لصالح العام. ومن غير العدالة محاسبة الجامعة من منطلق اخر يتنافى في نهاية المطاف مع احد مبادئها الرئيسية أي مبدأ التجميع لا التشتت.
ان قراءة الخريطة الدولية اليوم تتيح لنا رؤية، ودون تعب، انخراط الدول في منظمات إقليمية، حتى إن الدولة الواحدة قد تكون عضوا في اكثر من رابطة واتحاد وجامعة. وهذا النزعة التي اتسعت وتائرها في الآونة الأخيرة لم تكن موضة او نزوة ولا رغبة وانما قانون وقانون صارم يوحي بان البلد الذي لا يسارع بالانضمام في المنظمات الإقليمية والدولية في الكيانات الكبيرة سيتعرض للمصاعب بما في ذلك اضعاف السيادة والاستقلال والتحول الى تابع لقوة ما. إن المرحلة القادمة هي مرحلة الكيانات الكبرى لا الدول المبعثرة والصغيرة. إن عصر العولمة يفرض آلياته وأخلاقياته ولا مرد منه، انه يهدم الحدود ويصفي الأصول والخصوصيات، انه تيار عفوي مثل أية حركة تاريخية أخرى انتقلت خلالها التشكيلات الاجتماعية /الاقتصادية من مرحلة إلى أخرى. ان قراءة المستقبل تقول لنا إن الدولة كمؤسسة بمفهومها وبحدودها الراهنة في طريقها للتغير، والمسالة لا تمت بصلة لرغبات الناس ومشاعرهم الوطنية الطيبة او عدوانية دولة ما، وانما لقانون تاريخي من العبث الوقوف بوجه. إنها عجلة التطور والتغير التي لا ترحم. ولا يمكن النظر لها بمقاييس التقويم، ووضع علامات الإيجاب والسلب لها.
ان هذه الحقيقة تجعل الجامعة العربية حاجة ملحة للبلدان العربية. بيد إن المسؤولية الرئيسية لمهامها ودورها تعود بالتأكيد لاعضاءها. إن المرحلة القادمة تتطلب من كل دولة عضو وعي ذاتها ودورها الإقليمي والعالمي، وحجمها في المؤسسة الإقليمية التي هي جامعة الدول العربية. ان إنعاش الجامعة وتحويلها إلى مركز إقليمي يضم دول ترتبط بصلات قومية أي اللغة والتاريخ والمصالح المشتركة، يمنح الدول الأعضاء فرصة تاريخية اكبر للحفاظ على سيادتها وخصوصيتها في اطار المنظمة ، ولاتكون نهبا للكيانات الأكبر التي تبرز اليوم.ولا مجال للشك بان هذه يتطلب من كل دولة التخلي عن بعض صلاحياتها السيادية ومنحها للمنظمة الأكبر لمافية مصالح الجميع. ان وضع أهداف استراتيجية أمنية وسياسية واجتماعية واقتصادية ... عامة، يستدعي الدولة/العضو الخضوع للمنظمة من دون قيد او شرط. ان الجامعة بهذه المواصفات وبما لديها من خبرة يمكن ان تكون الوعاء والحاضن، لتكتل إقليمي واضح الحدود والأهداف يمكن، أن تجعل المجموعة العربية قادرة على فرض نفسها كقطب دولي لا يمكن تجاهله في صناعة القرار الدولي لما يصب في مصلحة كافة الأعضاء.
ولا اعتقد ثمة من ينكر ان جامعة الدول العربية بدأت في الفترة الأخيرة بتفعيل أدوارها في القضايا العربية الساخنة، وتعلن عن نفسها وسط كل مشادة وسوء تفاهم او حين يلحق الضيم بأحد الأعضاء، هذا مع الأخذ بعين الاعتبار وجود قوى دولية وإقليمية تسعى لتهميش دور الجامعة بل وحلها، لأنها تدرك الإمكانات والطاقة التي يمكن ان تتفجر عنها.
ان كل ذلك يبرهن على ان الحديث الجدي والموضوعي، والمنطلق من ادراك نزعات الساحة الدولية، حينما يتناول جامعة الدول العربية، ينبغي ان ينصب على كيفية تحويلها إلى منظمة إقليمية فاعلة، يمكن من خلالها تجسيد إرادة ومصالح الدول الأعضاء وصيانة خصوصيتهم واصولهم. فليس ثمة سبيل آخر للتطور والازدهار والتحرر في عالم اليوم، سوى سبيل التجمع في كيانات كبرى لخدمة الاوطان.