جاء في كتب الأخبار القديمة( السيرة النبوية لابن هشام، تاريخ الطبري، تاريخ ابن كثير... ) أنه، بعد وفاة النبي مباشرة، أجتمع سادة الأنصار في سقيفة بني ساعدة للتشاور بشأن اختيار واحد منهم لخلافة الرسول بحسبانهم هم من نصره وحماه وعزا دينه حتى دانت بسيوفهم له العرب. فاتفقوا ان يكون سعد بن عبادة خليفة للرسول. وأنهم، في حالة رفض قريش لاقتراحهم هذا، سينادون بأن يكون :quot; أذن منا أمير ومنكم أمير ولن نرضى بدون هذا الأمر أبدا... quot; وهنا علق سعد بن عبادة:هذا أول الوهن!
وعندما اُعلِم عمر بن الخطاب بما يدور في السقيفة، أهرع إلى بيت الرسول ونادى على علي بن أبي طالب، الذي كان يشرف، وقتها، على تجهيز جنازة الرسول المتوفى لتوه. وأرسل في طلب حضور أبي بكر لاجتماع قيادي طارئ، شرح خلاله ما يخطط له الأنصار قائلا:quot; من ينازعنا على سلطان محمد وأمارته ونحن أولياؤه وعشيرته إلا مُدلٍ بباطل أو مُتجانف لاثم أو متورط في هلكة ( = مؤامرة ، بلغة اليوم!) quot; ثم مضوا مسرعين مع رهط من قريش لقطع الطريق على مخططات الأنصار quot;الانقلابيةquot;.!
في سقيفة بني ساعدة، تجادل الحزبان ( الأنصار والمهاجرون ) وقد تمسك كل منهما بحقه في خلافة الرسول. ثم أضطر الأنصار إلى تقديم التنازلات للمساومة على شيء من المكاسب، فرفض سادة قريش أية تنازلات، وأصروا على حقهم القبلي الكامل في وراثةquot;سلطانquot; محمد بلا منازع.

كان وصف quot;أول الوهنquot;، الذي أطلقه سعد بن عبادة، تعبيرا نافذ البصيرة عن داء العصبية الذي بذر بذرته مبكرا في البنية الجنينية للدولة الإسلامية الناشئة لتوها، بينما كان الرسول/القائد يُغسَّل. وفي رواية أخرى ينازع رمقه الأخير. وقد صاحت فاطمة حينها في وجوه المتخاصمين:quot; تركتم رسول الله صلى الله عليه وسلم جنازة بين أيدينا وقطعتم أمركم بينكم. quot;.!
في سقيفة بني ساعدة تلك، تحولت الدعوة المحمدية الروحية/الأممية إلى غنيمة مُلك تتنازعه القبائل. فإلتبس الإسلام بالعصبية. وليوضع، في تلك اللحظة quot;الانقلابيةquot;، الحجر الأساس لتاريخ طويل من تداعياتquot;أول الوهنquot; الذي أخذ في التضخم والتورم والتعفن، متغذيا على صراعات سياسية دموية لم تنقطع، استخدمت أطرافها الإسلام عباءة دينية، والقرآن خديعة على آسنة الرماح..!
ابتدأquot;أول الوهنquot; بين الأنصار(الأوس والخزرج/أصحاب يثرب) من جهة والمهاجرين(قريش/أصحاب مكة) من جهة أخرى. ثم تحول إلى صراع، عائلي، داخل قريش نفسها، بين بني أمية وبني هاشم، في عودة لإحياء الصراع العائلي الجاهلي القديم بين بني هاشم وبني أمية، في صورة صراع سياسي بين امبراطوريتين(الأموية والعباسية) محمول على صراع ديني(بالمعنى المذهبي) بين السنة والشيعة.. وأما على المستوى الوعي التاريخي، فقد تولّد، ونما، صراع فكري/ايديولوجي بين إسلام السلطة وإسلام المعارضة، إسلام النقل وإسلام العقل.... الإتباع والإبداع...... وهكذا.... إلى أن هيمنت ثقافة الجمود على الموجود، والاجماع على الخنوع، توسلا بوجوب طاعة أولي الأمر.!
لذا كان quot;أول الوهنquot; الطعنة التي اصابت روح الشورى في مقتل، في تلك السقيفة. بمعنى إقصاء مبدأ الشوري عن تدبير الحكم واجتهاد الفكر. إذ تغلب منطق العصبية القبلية لثقافة ما قبل الإسلام على دولة الإسلام، التي تعتمد، في جوهرها، على مفهومquot;التقوىquot; كمعيار للمواطنة في الأمة(أمة الإسلام) ، حيث لا فرق بين عربي أوأعجمي، أسود أو أبيض أو أحمر.. الخ، إلا بالتقوى. وفُرض نظام المبايعة الإلزامية الذي ألغى، عمليا، الحق في المعارضة,وربُطت طاعة أولو الأمر بطاعة الله، والدعوة للخليفة/السلطان، على منابر المساجد(ثم التلفزيون!!)، بالدعوة لله.!
ان أول الوهن الذي جرى في اجتماع بدوي مغلق سرعان ما سيتحول عبر تراكمات من الأوهان المركبة في الاعيان(الوقائع المادية التاريخية) والاذهان(الأفكار) إلى مستتبات قطعية الثبوت، بمعنى ان ثورة بني أمية المضادة التي تحققت على يد معاوية بن سفيان ، روضت الإسلام الثوري ليخدم مصالحها التجارية/الاقطاعية. بحيث لم تتوان في الكذب على النبي كي تثبت حكمها وتركزه في نسلها، وتأصل، بالتالي، ايديولوجيتها الصارمة ليتم الجمود على مسلماتها من أجل تبرير جمودية الحكم الأموي النمطي. وعندما انتقلت السلطة إلى العباسيين انتعش الاجتهاد الفكري(الفقهي والفلسفي) لبعض الوقت. ثم سرعان ما جرى قمع الحركة التنويرية، ليعود الجمود على الموجود، إلى ان يتحول الخلفاء العباسيين إلى دمى تافهة بيد السلاجقة والاتراك.. وتهيمن الخرافة على الواقع، وتنطمر مؤلفات الفكر العقلاني تحت غبار المكتبات الثقافة الرسمية.. وبالتالي عندما سقطت بغداد تحت سنابك المغول وتحولت مياه الفرات ودجلة إلى حبر ، لم يكن ذلك الحبر، في الواقع، إلا قيح ذلك الوهن الأول الذي أخذ يتورم قرونا تنطح قرونا بحيث بدا هولاكو مجرد مشرطا ضروريا بيد القدر التاريخي. طبعا لن اتوقف عند ان غزاة بغداد من المغول سرعان ما غزاهم الإسلام، دع عنك هزيمتهم الفظيعة فيquot;عين جالوتquot; على يد قائد سلجوقي!
أتحدث عن الوهن الذي شل العقل الإسلامي(العربي، على الخصوص) فعَقَله، أي بمعنى عَقلَ الجمل: ثنى وظيفه مع ذراعه فشدّهما معا بحبل من العِقال.!
انه العقل المعتقل، الذي ظل، لقرون طوال، يجتر المنقول والمكرور والمنسوخ من العلوم الدينية، كما يجتر الخوف والخنوع والخمول، والشعوذة، في ظل جهل مطبق بالعلوم العقلية. إلى ان نزل نابليون بونابرت من سفينته الحربية، وأسمها الشرق بالمناسبة، على شواطيء الاسكندرية، مصحوبا بجيشه ومدافعه... ومطبعة عربية، كانت بمثابة عجيبة من عجائب الدنيا. وأول ما طبع عليها بيانه التاريخي إلى المصريين يبشرهم فيه بأنه جاء لتحريرهم من المماليك ونشر الحضارة والمدنية.!
ونجد في تاريخ عبدالرحمن الجبرتي، مؤرخ الحملة الفرنسية من وجهة نظر عربية، إسلامية، وصفا دقيقا لما وصل إليه الوهن العربي/الإسلامي وهو يتلقى صدمة الحداثة الأولى، من خلال انطباعات الجبرتي المدهوش لما يرأه من مظاهر وطرائق عيش غير مألوفة عند الفرنسيس، وأدوات علمية غريبة(فلكية/كيميائية/طبية/هندسية.. ) تستخدم، بتعبيره، في :quot; أمور وأحوال وتراكيب غريبة ينتج منها نتائج لا يسعها عقول مثلنا.. quot;!
ويبقى، لا شك ان العرب والمسلمين حققوا، منذ اللحظة النابليونية تلك، تحولات تاريخية هائلة للحاق بالسباق الحضاري نحو المستقبل، لكن تراكمات quot;أول الوهنquot;، الهائلة ايضا، لا تزال تعتمل في النفوس والنصوص، في الأذهان والأعيان، في الفكر والعمل. وليس سقوط بغداد في زمن بوش، إلا إعادة لإنتاج سقوط بغداد في زمن هولاكو...!

[email protected]