يشهد الوطن العربي هذا العام على إمتداده ندوات ومحاضرات يُبرز ملامح وجهود وإبتكارات العلامة ابن خلدون بمناسبة مرور ستة قرون على وفاته، حيث يُعتبر هذا المفكر من أبرز المبدعين الذين أنتجتهم الحضارة الإسلامية- إذا جاز لنا إستخدام هذا المصطلح!
والقارىء لابن خلدون يجده ذلك العالم، بل المفكر الذي عالج القضايا الحضارية من منظور شامل، بل يكاد يكون المؤسس الأول لعلم quot;العمرانquot;، وليت المترجمون العرب، بدل تخبطهم في ترجمة (علم الإجتماع/ أو quot;إجتماعياتquot; أو العلوم الإجتماعية) ترجموا علم الإجتماع بعلم quot;العمرانquot; لأنه من quot;حواضر البيتquot; ومما تألفه الأذن العربية!
وقد كان العلامة ابن خلدون متألقاً في نظريته، عندما قال أن quot;العلوم تكثر حيث يكثر العمران وتعظم الحضارةquot;، مؤكداً أن هناك علاقة عضوية بين إزدهار العلوم، وبين إزدهار العمران.
وما يجذب في تحليل ابن خلدون لـquot;وضع التعليمquot; هو إدراكه لمعوقات التعليم، إذ يعدّدها وكأنه يسكن زماننا، ويستوطن مكاننا، فهو يقول أن من الأشياء التي تضر في quot;تحصيل العلم والوقوف على غاياتهquot; هي طول مدة التعليم، ناسباً هذا الطول إلى quot;قلة الجودة في التعلينquot; إضافة إلى خلو المدة من النقاش والحركة والجدل، الأمر الذي يجعل أعمار الطلبة تذهب في مهب الريح quot;إضاعة الوقتquot;!!!
ولعل الشجاعة عند ابن خلدون تمثلت في فصله بين quot;ملكة العلمquot; وquot;ملكة الحفظquot; موبخاً التعليم في زمانه بأنه جعل للحفظ المكانة الكبرى والمنزلة العليا حينها ساد الظن أن الحفظ هو الملكة!
وهنا أتذكر أن مفكرنا المتألق الدكتور أبو بلال عبد الله الحامد كتب مقالاً في جريدة الحياة تحت عنوان: (إذا كثر الحُفّاظ من الأئمة، ضاعت الأمة) والغريب أن الكلام قُبِل من ابن خلدون، ولم يقبل من الدكتور الحامد، ولا عجب، فما الحب إلا للحبيب الأقدم!
ويعجب المرء عندما يجد تهافت الناس على الحفظ، في حين أن كل آيات الذكر الحكيم تُختم بقوله جل وعز: {لعلهم يتدبرون/ لعلهم يعقلون/ لعلهم يتفكرون} وليس هناك أي آية تقول لعلهم يحفظون!
ومشكلة الحفظ أنها تصرف النظر عن الفكرة المرادة، لتكون همة الطالب متجهة إلى تذكر النص وإستظهار توالي سرده، وفي ذلك تغيب لروح النص ومعناه لصالح ظاهرة وألفاظه ومبناه.
وقد أسهب العلامة ابن خلدون في تنمية quot;ملكة العلم لا الحفظquot; وبين أن من أهم الطرق لذلك هو (فتق اللسان بالمحاورة والمناظرة في المسائل العلمية، فهو الذي يقرّب شأنها، ويحصل مرامها)!
مؤكداً أن طرق التعليم التي تعتمد على الحفظ والتلقين، تغيّب الحوار، ويقضي الطالب وقتاً طويلاً، وهو ساكن لا يتحرك، وبعدها يتخرج وهو لا يحبذ المناظرة أو الحوار والكلام.
لا بد لتغلغل quot;ثقافة الحفظquot; في الثقافة الإسلامية من حل، لأن إنتشار الحفظ حرم البلاد والعباد من طاقات بشرية جبارة، استنزفتها محفزات الحفظ، وأتعبتها محركات التلقين، الأمر الذي جعل لقب quot;الحافظquot; يتصدر أسماء كثير من رواد الثقافة الإسلامية من الحافظ ابن كثير مروراً بالحافظ ابن حجر، وصولاً إلى الحافظ الشوكاني... والحبل على الجرار في أمة أصبح علماؤها لكل نص يحفظون!
لقد تحكم الحفظ ليرقى إلى أن يكون دليلاً لاحتجاج به من هنا يُقال: (من حفظ حجة على من لم يحفظ)!
ولله در الحجاج بن يوسف عندما سأله أحدهم قائلاً: (هل تحفظ القرآن الكريم)؟ فقال: (وهل أخشى ضياعه لأحفظه- الله تكفّل بحفظ كتابه- حيث يقول تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وأنا له لحافظون}!
بل إن بعض علمائنا الأسلاف كانوا يقولون إذا سمعوا أن طالب علم حفظ كتاباً من الكتب يقولون: quot;زادت في البلد نسخةquot;.

[email protected]