متى تخرجون من الشرانق المتيّبسة؟!

quot;وانما نحن في جيلٍ سواسيةٍ شرٍّ على الحرّ من سقم على البدن
حولي بكّل مكان منهم خِلَقٍ تخطئ اذا جئت باستفهامها بمـنِquot;
(المتنبي)

مقدمة: تراجع الزمن
أتمنى على الناس أن تترك هامشا للنقاد والمفكرين الحقيقيين ان يقولوا كلمتهم من دون وصفهم باشنع الصفات كونهم لا يشاركون في التصفيق البليد بمهرجان الخرافات الذي تكال فيه المدائح والتفاخر بالأمجاد.. وكنّا قد تربينا زمن القومية العربية على أمجاد الماضي العربي التليد، ولكن لا يمكن قبول التغنّي بأمجاد هذا العصر العربي الذي يزداد تشوهّا وتزييفا في زمن الجماعات والاحزاب والتكتلات والهيئات والميليشيات الاوليغارية .. ولم يعد هناك أي مكان للتنطع بالعظمة والسمو، فلقد امسى كل المداحين وغلاة المتشدقين والدجالين من بياعي الكلام ومصدرّي الفتاوى والمواعظ.. ليس لهم أي بضاعة الا المتاجرة والابتزاز في سوق تشويه الحقائق وتزوير المواقف وتهويم الملايين من الناس البسطاء بشعارات ولافتات لا نفع فيها ابدا، بل ان ضرّها يسئ لمستقبل اجيالنا التي ستبقى في بحر من التناقضات.
والمشكلة ليست في النص الديني او الدنيوي ذاته، بل انها تكمن اساسا في كيفية تفسير ذلك quot;النصquot;، اذ بات كلّ يفّسر على هواه ـ على حد قول الازهر وموقفه ـ، مما زاد من حدة الخلافات والصدامات بل والتمزقات فانعكس ذلك على المجتمع الذي لم يعد يستطيع ان ينعزل عن حياة العصر وكل منتجاته بأي شكل من الاشكال. دعونا نعالج في هذا quot; المقال quot; ازمة العرب الذين راهنوا على مرجعياتهم مما جعل مجتمعاتهم تنسحب سريعا نحو العصور الوسطى في عالم يتقّدم سريعا جدا نحو المستقبل. وماذا يمكنني تحديده من افكار نقدية؟ وماذا يمكنني طرحه من علاجات أساسية؟
حاشا لله ان اعيب على العرب مسلمين ومسيحيين معتقداتهم وتقاليدهم وعاداتهم وطقوسهم الاجتماعية الاصيلة كما هو حال كل المجتمعات في هذا العالم، فللعرب وبقية شعوب المنطقة عادات طيبة ومحمودة ولكن ان ينغلقوا في اقفاص موصدة عن هذا العالم، او ان يتشرنقوا في تيبساتهم، وهم لا يكتفون بتصادم تناقضاتهم التي عاشوا عليها، بل اصبحوا يلعقون جراحهم وهم يصمتون عن قتل الابرياء وكل اساليب التفجير والتفخيخ والخطف من دون أي ادانات حقيقية، فهم بذلك يشاركون الذين يمارسون كل التوحّش والبدائية مهما جاءت تحت اية تسميّات ومبررات ومسوّغات، وتلك ذروة البشاعة في التاريخ! واعتقد ان من يناصر هذا او ذاك فهو اما غبي جاهل او احمق ضال او ارهابي متوحش! وان الله لا يقبل قتل الانسان من دون وجه حق ابدا.

حصيلة التاريخ
ان الصدمات التاريخية المريرة التي واجهت كل العرب في اوطانهم، ومن يشاركهم حياتهم او يجاورهم من الشعوب الاسلامية الاسيوية والافريقية، غير كافية ابدا للخروج من الشرانق المتيبسّة ولا حتى من الاقفاص المنغلقة التي دخلوها ولم يخرجوا منها ابدا.. شعوب لم تعرف طعم الحريات يوما، ولا اقصد الحريات السياسية، بل حتى تلك الحريات الشخصية والاجتماعية التي ينبغي ان يتمتع بها البشر وباتوا اليوم وقد حرموا منها مما سهّل الانحرافات وتضخم حجم التناقضات وتهلهل الهويات وهوس الانتماءات، ولم تكن سلطات الدولة هي التي تقمع وتضطهد بقدر ما تشارك اليوم سلطة المجتمع في قتل كل الانفاس.. بعد ان تقهقرت الهوية الوطنية بشكل لا يصدّق ابدا!
منذ قرنين من الزمن والعرب ومن يجاريهم سبلهم وافكارهم واساليبهم، بل ومن يشّدد على تقاليدهم وعاداتهم.. ينشدون النهضة (= النهوض من النوم والسبات العميق)، أي: الخروج عن طور السكونية (او: المسكونية كما اسميت)، ولكنهم بدأوا يستعرضون القوة الفارغة، اذ بقوا بلا نهضة وبلا حول ولا قوة.. لقد كانت ظاهرة الاستعمار في القرن التاسع عشر بمثابة تحديات لشعوب وامم عديدة استجابت لها ولصدماتها كي تختار لها طريقا للمستقبل، في حين اختار العرب وشعوب اسلامية اخرى طريقا نحو الماضي نظرا لثقل سيطرة الماضي عليهم سيطرة عمياء، فخسروا جملة هائلة من مواردهم ومصالحهم التاريخية على امتداد قرن كامل.

دول حقيقية ام كيانات هشّة؟
على امتداد القرن العشرين، وهم يتنطعون بما لديهم من (دول / مؤسسات) والتي ما كانت لتكون لولا خطط واتفاقات كل من المستعمرين البريطانيين والفرنسيين، وهم بلا quot; دول quot; حقيقية، بل يتنازعون على الحكم والسلطة في كيانات سياسية هشة لم تستطع ان تسجّل انتصارا حضاريا واحدا في التاريخ البشري، او ان يعيد العرب حقوقهم المستلبة من اعدائهم، بل دوما ما كان العرب ضد بعضهم البعض الاخر في التسلط بدءا بالكيانات المركّبة وانتقالا بالانظمة المصطنعة ومرورا بالانقلابات العسكرية ووصولا الى الدكتاتوريات الاحادية والفاشية وانتهاء بالمحاصصات الطائفية! بل وانهم ورثوا صراعاتهم التاريخية في ما بينهم من دون ان يفهموا ابدا لا لغة التعاون والتعاضد ولا لغة المصالح والتحالفات ولا لغة التوّحد والتكتلات من اجل التكامل.. كما لم يعرفوا كيف يتعاملون مع القوميات والاقليات السكانية التي شاركتهم حياتهم وتاريخهم في دواخلهم الاجتماعية لا على مستوى الدولة ولا على مستوى المجتمع.
لقد مضى اكثر من قرن كامل وهم لا يميزون بين quot; الوطن quot; وبين quot; الدولة quot; وبين quot; المجتمع quot;.. وما زالوا حتى اليوم يخلطون الكل معا ليتحدثون باسم quot; الامة quot;، واذا كانت quot; امة العرب quot; مفككة بما لديها من مقوّمات لغوية وثقافية واجتماعية وتاريخية، فان quot; امة الاسلام quot; تمّثل اقصى درجات يوتوبيا المخيال الجمعي، والذي لا وجود له في الواقع لا السياسي ولا الاجتماعي. فاذا فشل العرب في تجاربهم الوحدوية والاتحادية والاندماجية القومية الثنائية والثلاثية والمجالسية (باستثناء مجلس التعاون الخليجي الذي بقي حيويا على قيد الحياة حتى اليوم ولاكثر من ربع قرن) وجامعة الدول العربية (التي بقيت على قيد الحياة لأكثر من خمسين سنة بلا أي فعل او حيوية)، فكيف يمكن ان ينتصر اكثر من مليار مسلم في تحقيق أي وجود سياسي ودستوري وتحالفي او كتلوي اقتصادي له في ظل بعثرة المصالح وانغلاق التفكير؟؟

تصّلب بنية الغلو والتشددات
شعوب كانت ولم تزل لم تتعلم من ايجابيات التاريخ وسلبياته معا، ولكنها كانت ولم تزل تعاني من بقايا التاريخ واشلائه واسلابه وكل سلبياته، ولكنها لم تحّرك لا من وتيرة تفكيرها ولا في اساليب حياتها!! لم يرثوا ثمار حضارة ولا ابداع تفكير ولا تعايشات مجتمع ولا انتصار نهضة ولا حب علم ومعرفة.. بقدر ما ورثوا كل الخطايا والاحقاد والكراهية وروح العداء والمؤامرات والدعايات المضادة والخطب الرنانة والشعارات البراقة والحروب الباردة والمهاترات الاعلامية.. الخ من الناحية السياسية. اما اجتماعيا، فتجدهم في اغلب مجتمعاتهم مستهلكين غير منتجين وقد اصابهم الكسل التاريخي والتواكلية المقيتة وضياع الشعور بالزمن.. وجملة من الممارسات الخاطئة التي لا يقبلها القانون المدني! كما لا يدركون ابسط حقوق الانسان من الناحية العملية مكتفين بترديد الأقوال والنصوص فقط.
وانهم لا يعرفون من حياتهم شيئا، ولا يدركون قيمة تربية اولادهم ولا يفهمون اي دور للعقل والمعرفة مما سّبب كوارث كبرى، كما شهد النصف الثاني من القرن العشرين هجرة الاف الكفاءات وهجرة الاف العقول العربية الى الغرب.. وهناك في الدواخل من اخذته غمرة الاعجاب بالغرب، فراح يصفق للدخلاء ويصطاد مفاهيم ومفردات الغرب ليستخدمها استخداما بدائيا، فمنذ قرن كامل يسمع العرب ـ مثلا ـ بالديمقراطية ولكنهم لا يدركون معانيها الحقيقية، ولا يعرفون تطبيقاتها في مجتمعات متخلفة تأكلها بقايا التاريخ وتتصادم فيها تناقضات التفكير؟؟ انني لا استطيع ان اتخّيل ابدا ممارسة الديمقراطية ـ مثلا ـ في ظل توزيع المحاصصات الطائفية المقيتة!
كما انني لا استطيع التوفيق بين نظام الشورى واهل الحل والعقد والبيعة الاولى والثانية وولاية الفقيه او نظام الائمة.. وبين النظام الديمقراطي الذي يتيح الفرصة كاملة للجميع ليمارس دورا انتخابيا مع اتاحة الحريات بكل اشكالها للمجتمع المدني لتتبلور صفوة سياسية مستقلة وتكنوقراط ممتازة مؤهلة لاداء الحكم لا التخندق مع قوائم طائفية تحملها الى السلطة الدهماء! ان كل من يريد الديمقراطية عليه ان يتخّلى عن اية توجّهات تتصادم مع اشتراطاتها، ومن اولى اشتراطاتها ان لا تمارسها وانت ترسم لك وللاخرين اية خطوط حمر، وتلزم الناس بأي نصوص تتعارض مع الحياة السياسية المدنية. ثمة اوهام مسيطرة على العقل اذ ترّبى الناس كون تاريخنا كله عظمة وكمال وعذوبة وامجاد.. وتغيب عن الجميع ما حدث فيه من انكسارات وفظائع وانقسامات، ان المجتمعات العربية قاطبة لا تعرف تاريخها معرفة نقدية ودقيقة.. فلا يمكن التعويل على الماضي في رسم المصير الا اذا اعترف الناس بموروثات الواقع والتعّلم من تجارب الماضي من دون سحب الماضي لصناعة المستقبل.

تساؤلات في المفكر فيه:
كل الشعوب والمجتمعات تحرّرت من اطواقها على امتداد تضاعيف التاريخ الحديث، وشعوبنا لم تزل تنغمس بكل ما يقتل الزمن وبكل ما يقتل الحياة وبكل ما يبعدها عن نسبية الاشياء.. وعن كل ما يشبع الذهن والتفكير بالانغلاق! فلقد تشبّعت المجتمعات بالتناقضات التي لا اول لها ولا آخر نتيجة الذهنيات المركّبة بين ما يفرضه الماضي وبين ما يريده العصر! ولا يمكن لأي مجتمع متحرّر من كل القيود ان يقبل ما تفرضه عليه كل يوم بقائمة من المحرّمات، بحيث وصل اصدار الفتاوى اليومية الى درجة لا يمكن تصديقها، ومنها مثلا: تحريم لبس الجينز مهما كان نوعه، او تنفيذ الواجب الشرعي، بعدم التشبه بعادات quot; الكفرة من النصارى quot; (على لسان احد الوزراء)، فقرروا هدم كافة المرافق الصحية ذات الطراز الغربي وبناء مرافق صحية تتلائم مع quot; تراثنا وتقاليدنا quot;. وهنا، لا ادري كيف سيقضي اصحاب الكروش ومن يلبس البنطلونات حاجتهم في quot; الخلاءات quot;التراثية؟ وماذا سيفعلون اذا اتتهم الحاجة وهم على متن الطائرات؟ ولا ادري لماذا يستخدمون الطائرات وكل وسائل العصر وتقنياته التي صنعها الكفرة؟ ناهيكم عن تحريم الصور والموسيقى والفنون والغناء وحلق اللحى... الخ
فهل يمكن ان يصدّق هذا الذي يجري في مؤسسات دولة تحكمها الاحزاب الدينية؟ ويكفي ان نتابع الحوارات التلفزيونية لنرى هول البلاء، انهم يقضون الساعات الطوال على شاشات الفضائيات التلفزيونية وهم يناقشون ببلاهة قضايا تافهة لا تستحق حتى الوقوف عندها! ولنا ان نتساءل عن فحوى ادانة قوية صدرت قبل يومين من قبل شيخ الازهر بالقاهرة لاولئك الجهلاء من الشباب المتشددين الذين يصدرون الفتاوى في الجزائر، وهم من ابعد الناس عن التفقه بالدين!
ان المجتمعات العربية ستصادف مشاكل ومعضلات لا تعد ولا تحصى في قابل الايّام والسنين، وهي بحاجة الى العلماء المدنيين لا الى الملالي والخطباء والشباب اليافعين من المعمّمين الذين ليس لهم الا بضاعة الكلام والمواعظ واصدار الفتاوى والمحرمات.. ولا استطيع ان أتصور أبدا هذا الانفجار الديمغرافي الرهيب من البشر في بلدان عربية وإسلامية لكل واحدة منها معاناتها.. وانني أتساءل مع نفسي دوما: ان السكان يزدادون حجما وعددا بحيث تضيق بهم مدنهم الكسيحة واسواقهم الرثة ومدارسهم وجامعاتهم العادية.. انهم بعد سنين ماذا سيأكلون؟ وماذا سيعملون؟ واين يسكنون؟ ومن أي ماء يشربون؟ والى متى باقون غير منتجين، اذ انهم يستهلكون الحياة والزمن وكل المستوردات وكل الاشياء؟؟
الكل ينتقد القيادات السياسية وصناع القرار والقادة والحكام.. من دون ان يفكّر بما في المجتمع من خطايا ومن تناقضات ومن مكبوتات ومن اللا وعي المترسخ ومن السلطويات الصعبة التي ترعبك وانت في بيتك او مكتبك او أي مرفق من مرافق حياتك الخاصة! ان المجتمعات العربية ومجتمعات العالم الاسلامي لم تعان من مشكلات الداخل فقط، بل تعاني ايضا من هيمنة الخارج وسطوته.. لقد اصيبت مجتمعاتنا باوبئة اعلامية اليوم اذ تجتاح الفضائيات والمواقع الالكترونية تفكير الناس بالضد من قيم الحداثة والعقل والنزعة الحضارية والسماحة الدينية والحريات الحقيقية. ان مجتمعاتنا ودولنا معا قد اصبحت اغلبها مخترقة من قبل اطراف خارجية، مما جعلها عرضة للتفكك والتمزق.

من معارضة الدولة الى السطوة على المجتمع
انني ان انتقدت الحكام العرب والمسلمين المعاصرين، فان من اخطاء الحكام انهم يماشون المجتمع ويسترضوه بكل ما يحفل به من تناقضات ورخويات من دون الوقوف ليس ضدّه، بل معه من اجل تحديثه بالاعتماد على مناهج مدنية تربوية واعلامية وقانونية كي يحولون مجرى التاريخ نحو الاصوب بأي طرق ومناهج للاصلاح والتحديث والتغيير.. انني ادرك ان سلطات ومؤدلجات سلطوية كانت وراء مساهمة في كل الذي وصلنا اليه نتيجة تشددّها وجعل المجتمع تحرّكه الاهواء المتشددة والانفعالات المتطرفة والاحزاب الاحادية والشعارات الطوباوية التي لا واقع لها.. بحيث تبلورت بعد تلك الصراعات الايديولوجية: موديلات من نماذج ارهابية ومتوحشة لا تكتفي بالوقوف ضد السلطات السياسية، بل اصبحت تقف ضد المجتمع وكل شرائحه واساليبه وطرائق حياته المدنية! وغدت القيادات السياسية تخشى حتى من مؤسساتها نفسها كونها ملغمة بمن هو ضد الدولة والمجتمع معا. لقد طال التسلّط باسم الدين او الطائفة او المذهب المرأة والطفل والشاب لقمع حقوقهم الطبيعية.. بل وطال التوحّش حتى بعض اصحاب المهن الحرة في المجتمع، ونخشى ان تمتد تجربة العراق الى باقي بلدان المنطقة.

منهج زرع الرعب في المداجن البشرية
حدّثني صديق لي في بلد عربي معروف كيف ان ابنته تفقد وعيها من الخوف والرعب الذي يصيبها في الليل نتيجة ما تسمعه من معلمتها في المدرسة من مواعظ في النهار اثناء الحصص عندما تزرع تلك المعلمة القصص الخرافية المخيفة في افئدة الطالبات وكيف ستعلق (البنت) من شعرها وتشوى على النار.. وكيف انها ستلقى عارية في واد كله نار حمراء وتبقى فيها.. وغيرها من القصص المدمرة التي تنتشر في مدارس عربية وفي اغلب البلدان العربية.. وهي مدمرة حقا لنفسيات الاطفال المساكين.. فانظروا ماذا سيحّل بهؤلاء الاطفال العرب وغير العرب عندما يكبرون؟؟ ناهيكم عن حالات الكبت والعنف التي يعيشها الاطفال والشباب في مجتمعاتنا وماذا سيصيبهم من انحرافات في قابل الايام؟ ولابد ان نلحظ الانقسام المريع بين تناقضات الشباب العرب ومشكلاتهم: شباب متحرر غاية في الانحراف وشباب جامد غاية في الانغلاق! والمصيبة ان مصادر التربية باتت متعددة ومنفتحة ومحرمة ومتنوعة للاجيال الجديدة، مما سيجعلهم عرضة للتناقضات التي لا تعد ولا تحصى، بل والانكى من كل هذا وذاك استخدام آخر ما وصلت اليه تكنولوجيا المعلومات في بث القصص المخيفة وزرع الكراهية من خلال الحكايات والخطابات المرعبة.
ان مدارسنا وجامعاتنا العربية قد اصبحت اليوم اشبه بمداجن لا يمكن ان تكون بيئات صالحة لتنشئة اجيال جديدة لها تكويناتها المدنية: التربوية والاخلاقية والمعرفية الحقيقية، وان ما يكمن فيها من مربين اسوياء لا يستقيم عددهم مع حجم المربين الجهلاء والاساتذة الاغبياء.. وسواء الحكومية ام الخاصة فهي لا تصلح الا لجمع الاموال والكسب غير المشروع، بل واصبحت تلك المؤسسات الحيوية بأيدي المتشددين والمتطرفين الذين يسوقون انفسهم باسم الدين، فيكسبون الجولة بسبب عدم وقوف أي انسان ضد اساليبهم التي عادة ما تتهّم أي منتقد لهم بالتكفير.. وهكذا، يفتقد كل العاملين فيها واجباتهم الحقيقية وحقوقهم الطبيعية. ان اسماء لامعة من الاساتذة العرب تمّ اقصاؤهم في السنوات الخمس الماضية من الجامعات العربية بسبب افكارهم المدنية التي لا تستقيم والهجمة الظلامية السائدة.

رجال التابو..
انهم عادة ما يخلطون الاخضر بسعر اليابس.. انهم يستخدمون اساسا quot; الدين quot; شمّاعة لهم ولاساليبهم.. انهم لا يتقبلون الاخر مهما كان يحمل من افكار سليمة.. انهم لا يؤمنون بالديمقراطية في تبادل الرأي.. انهم لا يتبادلون الرأي بالرأي والحجة بالحجة.. انهم دوما ما يتهمون معارضيهم بالتكفير او بالعمالة للغرب وبالتغريب.. انهم يعتبرون العلمنة وخلق المجتمع المدني والعمل بدستور مدني وقانون مدني كفر عظيم! انهم لا يمتلكون منهج عمل وحياة، بل ولا يمكنهم ان يقدموا أي برنامج سياسي للناس.. انهم لا يعملون بمبدأ quot; ادفع بالتي هي احسن quot; انهم لا quot; يجادلون بالتي هي احسن quot;، بل يسترسلون بكل ما هو أسوأ حتى يصلون الى درجة الهذيان!.. انهم يصعقون من أي تفكير مدني للحياة الدنيا.. انهم خليط من بحر تناقضات، فلا هم يلتزمون quot; النص quot; الديني بكل دقائقه ولا هم يعملون بالاصول المدنية بكل قطائعها.. انهم لا يعرفون الا الشعارات والمطلقات والمواعظ والكليات الفارغة، ويهربون من الحقائق العلمية والمعلومات الدامغة والجزئيات التفصيلية..
ومن خلال التجربة السياسية يبدو انهم في المعارضة يتشدقون بما لهم وما عليهم في الضد من الشعارات، فاذا ما انتقلوا الى السلطة يبدون عاجزين عن صنع أي قرار سياسي او قانوني.. بل ولم يعالجوا ظواهر خطيرة في حياة العرب المعاصرة، منها: البطالة المقنعّة وهي اخطر ظاهرة لا نجدها الا عند العرب، والحرب ضروس على كل المبدعين حربا ضارية لا هوادة فيها.. والزمن المزيف، أي قتل الزمن حتى في المؤسسات.. وظاهرة الاستهلاك الاقتصادي المثير من دون أي انتاج حقيقي يمكن ان يلتفت اليه العالم! وأسوأ تربويات تعرفها الدنيا كلها، اذ لا يمكن ان نتخيّل حجم الهوة بين تربية نادرة تزرع الوعي في العقول وتربية كاذبة تزرع الرعب في النفوس! واسوأ علاقات عامة واكثر البلدان التي لا تعتني بالقانون والتشريعات! وأخطر المجتمعات التي تصفق للارهاب ولمشروعات القتل والخطف والتفجير في اعدام الابرياء. أي لم تعرف النزعة الانسانية ابدا، ولم تتعاطف مع مجتمعات اخرى كجزء من نزعة التشرنق على الذات.. ونحن نعلم بأن كل الثقافات الحية تنفتح احداها على الاخرى من دون أي تردد او خوف!

الكهان الجدد
ثمة أسئلة حادة لابد أن توجّه عربيا إلى أولئك الذين نصبّوا أنفسهم قضاة غير شرعيين على الحياة العربية ومجتمعاتها باسم مثاليات الأخلاق المزيفة أو باسم الغلو والتطرف والتشدد الديني، وأصبحوا ضمن الموجة الغبية التي يركبونها اليوم بمثابة أوصياء على الحياة العامة وعلى الحريات الشخصية وعلى الأدب العربي وعلى الفن العربي وعلى المصورات وعلى مواريثنا التاريخية العليا وعلى اساليب حياتنا كيف نلبس؟ وكيف ننام؟ وكيف نحلق شعرنا ولحانا؟ وكيف نتكلم؟ وكيف نسمع ونطرب؟ وكيف نقرأ؟ وكيف نتصرف؟ حتى وصل الامر ان ينفذوا الى زمننا وحياتنا الخاصة.. والقائمة لا تنتهي وثمة أسئلة أخرى أشد قوة وبأسا،اذ لابد أن توجّه إلي أولئك الذين تيبسوا داخل شرانق خشبية أو أقفاص حديدية مغلقة في عصر غدا كل شيء فيه منفتح على كلياته وجزئياته.. بكل إيجابياته وسلبياته وبكل صحائفه وسطوره.
ان العرب بدل ان يفككوا علاقاتهم البنيوية الفكرية القديمة وذهنياتهم المركبة ويؤسسوا لهم فقها جديدا واصلاحا فكريا جذريا يتصل بعلاقاتهم مع مواريثهم المذهبية وتقاليدهم الصوفية واساليبهم وافكارهم وطقوسهم.. وبدل ان يباشروا الاصلاح مباشرة وتأسيس تحولات مدنية جذرية بدءا بالمناهج التربوية وانتقالا الى اصلاح القوانين وانتهاء بتحرير الاعلام العربي نحو العقل والحرية.. ذهبوا في اتجاه آخر كي يجعلوا من انفسهم فوق كل الشعوب وفوق كل مستحدثات العصر الذي وصفوه بالجاهلية كي نجد انفسنا اليوم في غمرة هذا الطوفان الهمجي من المتشددين والمتطرفين المتخلفين! وهنا يمكنني القول، ان الحال ان بقي على ما هو عليه، فان الارهاب سيعّم حياتنا شئنا ام ابينا وستعجز الكيانات السياسية عن صد هذا الاخطبوط الذي سيلف المجتمع..
ان تجربة كل من ايران وطالبان ليست بعيدة عن الاذهان عندما تسلط المتشددون على حياة الدولة والمجتمع.. وجاءت تجربة العراق وهو تحت الاحتلال لتكشف عن تأسيس طائفي بسبب تسّلم الاحزاب الدينية مقاليد السلطة، وقد اقصيت الاحزاب والاطراف العلمانية من قبل صناديق الاقتراع عندما استغلت العواطف الدينية والنزوعات الطائفية عند الناس من اجل تغيير المعادلة السياسية.. مما اتاح ولادة واقع متفجر يزدحم بالتشظيات والقوى والجماعات الارهابية والموت الجماعي وبشاعة تلك القوى في تحقيق اهدافها الدموية. ان الارهاب الذي يمارس باسم quot; الدين quot; واضح للعيان وهو يمتد من مكان عربي الى آخر، بل ووصل الى عقر اهم دول العالم الخارجي متنقلا من عاصمة لاخرى.. انه ترجمة حقيقية للغلو والتشدد الذي يلقى تأييدا واسع النطاق من قبل الناس الذين تربوا على كراهية الغرب نتيجة ما اصابهم في القرن العشرين من ظلم وغبن وتشرد وضياع. وهنا لابد من مطالبات بمعالجة كل الاسباب الداخلية والخارجية بترسيخ الحياة المدنية والقانونية واستئصال عوامل التخلف والانحطاط.
هذا ما اردت بيانه اليوم في هذا quot; المقال quot;، وسالحق به معالجة موضوعات اخرى في الباب نفسه لاحقا..

للحديث صلة
www.sayyaraljamil.com