لنتساءل بداية : ما هي ثقافة أولئك الأفراد الذين يفخخون أنفسهم ويفجرونها في الأسواق والمساجد ودوائر الدولة ليقتلوا ويجرحوا المئات في كل مرة ؟! أنها شخصيات مضطربة مثقلة بالشعور بالذنب بسبب سوء التربية والتدين المتخلف حيث تنقلب صورة الإسلام العظيم دين الرحمة والمحبة في مرايا عقولهم المقعرة إلى مجرد رعب من العقاب الإلهي !! فيحدث أن يتلقفهم دعاة الإرهاب فتتم تربيتهم على مباديء (القاعدة) المعروفة لينخرطوا في الأعمال الجهنمية (فالرعب الناتج عن هذه الأعمال سيهز الجماهير كي ترى الحقيقة) و(كل من يشارك في البرلمان أو له علاقة بالانتخابات فهو رافض للقرآن جملة وتفصيلاً، وكل مسلم يرفض القرآن يجب قتله) هذه هي ثقافة ومباديء التكفيريين التي يبررون بها إرهابهم !!

إن الأفكار العدمية التدميرية التي بشر بها أيمن الظواهري من سجنه بالقاهرة قبيل أطلاق سراحه، في مشهد استعراضي نقلته التلفزيونات وقتها، وتعيده بعض الفضائيات بمناسبة وبدونها، تلك الأفكار المتطرفة التي تدعو لإباحة دماء المواطنين، وإشاعة أجواء الرعب بينهم كي يستيقظوا من غفلتهم ويروا ما هم فيه من خراب وأزمة !! هي من نتاج خراب بعض العقول التي اختنقت بأزمة الواقع ذاته فعجزت عن تحليل ظواهره وفهم منشأها وإمكانية تغييرها. وتلك الأفكار لم تكن جديدة ولا من صناعة الظواهري أو غيره من أقطاب التطرف الإسلاموي، بل سبق وأن صاغها النازي الأشهر أدولف هتلر عندما قال (مقتل إنسان واحد هو مأساة ومقتل مليون إنسان مجرد أحصائية) ليجسد الفضاضة بأبشع صورها. ومن أجل ماذا ؟! من أجل (الزعيم) !! (القائد التاريخي) !! الذي، وأيضاً حسب الهتلرية (يجب أن لا يهتم لما يحل بالبشر العاديين من كوارث خلال الحروب) !! لأن أجواء الرعب هذه التي تضعضع إنسانية البشر هي ما يخلق عندهم استعدادَ التحول إلى (قطيع) تسهل قيادته وتوجيهه الوجهة التي يريدها الزعيم !!
هذه هي الأفكار النازية التي يجترها الأرهابيون الآن دون أن ينتبهوا بأنها نقيض الإسلام وتراثه الإنساني العظيم، لكنهم يجترونها طالما وجدوا مزيداً من الشباب المصابين بالتطرف وعمى البصيرة والمختنقين بأزمات الواقع العربي أو الدولي، دون أن يُدركوا أن أزمات كهذه لا يمكن أن تحال أسبابها على شخص معين أو نظام بعينه في هذا البلد أو ذاك، كي ندعو للقضاء عليه حتى تنتهي الأزمة !!

لأسباب شتى لا يستطيع المتطرفون أن يُدركوا أن الأزمات التي تطغي على الحياة السياسية في كل عصر هي نتاج معطيات وتراكمات تاريخية تتداخل مع بعضها فتشكل نسقاً سياسياً معيناً يحتاج مزيداً من الوقت لتفكيكه والتخفف من شوائبه كما حدث للعديد من الشعوب التي عاشت ما نعيشه الآن من أزمات، حيث دفعت أثماناً باهضة إلى أن تمكنت بالتدريج أن تتخفف منه لتدخل عالم التمدن والتطور لتتصدر واجهة العالم المعاصر. ولو تأملنا النسق الحضاري السائد الآن في أوربا وهو يتطور بأقل ما يمكن من أزمات، نرى أيضاً أستحالة بزوغ ظاهرة هتلر في ألمانيا الحالية، بسبب عدم وجود عوامل لإنتاج هكذا ظاهرة، فهتلر كظاهرة ليس من صناعة هتلر ذاته، بل من صناعة النسق الأوربي الذي سيطرت عليه ثقافة الحروب المتبادلة والمفاهيم المشوهة للهزيمة والانتصار التي أنتجت (أبطالاً) مشوهين على غرار هتلر وموسوليني وستالين. مشوهون لأن الإنسان لا يمكن أن يكون مجرماً وبطلاً في نفس الوقت.

لكن المتطرفين عندنا لا يختلفون عن أشباههم في المناطق الأخرى، حيث القاسم المشترك دائماً هو عمى البصيرة وغياب الحكمة، خاصة تلك التي تقول: الذكي من اتعض بأخطاء غيره، أو بأخطاء غيره من (الأبطال) !! لكن منطق المتطرفين غير قابل للنقاش حتى وهم يرونه يأكلهم الواحد تلو الآخر ويجعلهم في عزلة خانقة يعرفون هم معاناتها ووحشتها أكثر من سواهم. أنها العدمية التي لا تنتهي إلا بنهاية أصحابها.
لنتساءل: ما هي العدمية السياسية، وما هي العوامل أو الجهات التي تقف وراء ترويجها ؟! ومن المستفيد من هذا الإرهاب ؟! كي نعرف الجواب علينا تأمل وضع (القاعدة) في العراق والسعودية ونتائج ما تفعله هنا وهناك.

لم تاتِ القاعدة بمعجزة في عملية اختراقها للوضع العراقي. هناك عاملان سهلا هذا الاختراق، الأول هو تعفن الثقافة النازية لنظام البعث ونقاط الضعف العديدة التي كانت تعانيها مؤسساته الأيديلوجية، افلاس الشعارات القومية مثلاً، ثم تدهور مكانة المؤسسات العسكرية والمخابراتية أي تحول الدولة إلى سلطة طواريء أحلت ثقافة المخابرات محل ما عداها خاصة بعد حرب الخليج الثانية، حيث خراب علاقتها بالمجتمع من جهة والتهديد الخارجي المتزايد من جهة أخرى. هذا ما دفع بصدام حسين للبحث عن عوامل (تجديد) ايديولوجية تمثلت ب(الحملة الإيمانية) وما عنته حينها من تغيير في أساليب وحقول العمل الدعائي. وكل ذلك في الواقع لم ينفع سلطة صدام بقدر ما خلق مناخاً ملائماً لدخول (القاعدة) لاحقاً واستثماره سياسياً لمصلحة مشروعها التعموي (من العمى السياسي) وتبرير العدمية. لقد فتح الأمريكان، بعد الاحتلال، أبواب العراق لفلول القاعدة بحل قوات الحدود وفقاً لنظرية كشف صحن العسل كي يتجمع حوله الذباب ليسهل القضاء عليه، حيث ظل الرئيس الأمريكي يطمئن شعبه بقوله: إننا نقاتل أعداءنا الأرهابيين الآن ولكن خارج حدود بلادنا. وتلك النظرية وهذا المبدأ لم يثبتا (الذكاء المفرط) لإدارة بوش ناهيك عن التبرير الأخلاقي الذي يسمح بتحويل مجتمع مثقل بالجراح وبدون دولة تقريباً، كالمجتمع العراقي إلى ضحية سهلة لتلك الفلول !! وبالمقابل لم تثبت فلول القاعدة ذكاءً إلا بترتيب المزيد من المجازر لآلاف المدنيين من العراقيين العزل. لقد أثبتت أحداث سامراء في الأسبوع الأخير من شباط (فبراير) الماضي، عدم إمكانية اختراق ثقافة التآخي العراقية أو تفتيت النسيج الديني لإحداث حرب أهلية على خلفية طائفية رغم عمليات التهجير والاغتيالات التي تريد إلباس الأحداث لبوساً طائفياً !!

أما في السعودية فالأمر مختلف تماماً، حيث لا وجود لاحتكاكات طائفية من النوع الذي يمكن استثماره سياسياً، بينما أجهزة الدولة في كامل عدتها وعديدها بما لا يبرر أية مقارنة بينها وبين فلول القاعدة. أجهزة الدولة لا تتمتع بالقوة التنظيمية والمادية فقط، بل هي أيضاً تملك حق ومبررات الدفاع عن أمن المجتمع ومصالح المواطنين، أي على العكس تماماً من فلول القاعدة. لكن عدمية هذه الفلول التي لا تملك سوى ثقافة التكفير وإرادة الانتحار، لا تقف عند هذا الحد، بل هي تتمتع بغباء سياسي مفرط يتمثل أساساً بفقدان المعايير الموضوعية في فهم نقاط القوة والضعف عند الطرف المقابل، وهو الدولة السعودية هنا. لأن أي مشروع سياسي، إذا افترضنا أن فلول القاعدة تمتلك (مشروعاً سياسياً)، لا يمكن أن يتحرك بدون تحديد هذه المعايير.
لقد استغلت القاعدة فترة الجهاد في أفغانستان لأستغلال مشاعر الشباب المتحمس، وتحميل المفاهيم الدينية شعارات سياسية مغرقة في طوباويتها وعدميتها، لذلك نسيت نقاط قوة الطرف الآخر. نسيت أن هناك دولة ومؤسسات وأجهزة لها سطوتها وقدرتها على الحركة والفعل المؤثرين. دولة هي بمثابة محور سياسي رئيسي في المعادلة الأقليمية، ترتبط بها مصالح مباشرة لمختلف دول المنطقة حيث التنسيق السياسي والأمني يعتبر تحصيل حاصل في مثل هذه الحالة. دولة لها تأثير متزايد في المجتمع الدولي وهو يتطور مع تطور مؤسساتها وبنيتها التحتية ودورة المال والاقتصاد حيث تجد غالبية المواطنين مصلحتها في استقرار الأوضاع الأمنية والسياسية. فكيف يمكن اختراق كل هذه الحواجز للوصول إلى الهدف ؟! ثم من يقف بالمقابل مع فلول القاعدة؟! من يجد مصلحته في ثقافة التكفير وإرادة الانتحار التي تناقض السوية الإنسانية للأسلام والمسلمين ناهيك عن المصالح السياسية والاقتصادية أساس كل تجاذب في علاقات الدول مع بعضها وفي علاقة المجتمع بالدولة.
أن التغافل عن كل هذه الحقائق هو ما قصدناه بالعدمية السياسية. لماذا إذن الأصرار على الخوض في أوحال الهزيمة ؟! لأن هذه الفلول محكومة بثقافة التكفير أي العجز عن أي تفكير مجدٍ، لذلك استعبدتها جرثومة الانتحار المعبرة عن هذه الثقافة تماماً، فهي لا تملك سوى الأنحدار إلى الهاوية كتعبير عن هويتها الثقافية التكفيرية، وعن انتمائها إلى نسق تفكير منقرض أصلاً.

والآن لنتساءل: من هو صاحب المصلحة في محاولة تفتيت بلد عربي كالعراق واشاعة أجواء الحرب الطائفية فيه وما يحمله ذلك من مخاطر حقيقية على دول المنطقة ومصالح شعوبها؟! ومن المستفيد من محاولات زعزعة الاستقرار في دولة عربية أساسية كالمملكة العربية السعودية حيث يستفيد من تطورها الاقتصادي والسياسي مختلف البلدان العربية ناهيك عن ملايين المواطنين العرب العاملين فيها أو المتعاملين معها في شتى المجالات ؟! واستطراداً من المستفيد من زعزعة الاستقرار وضرب السياحة في الأردن ومصر؟!
أن الإجابة الواقعية والمنطقية على هذه الأسئلة أصبحت ضرورية الآن أكثر من أي وقت مضى، لأنها هي التي تجعلنا نتوقع من الذي يعمل من خلف الستار وتدلنا على الأصابع الخفية التي تحرك وتوجه فلول الارهاب وتستثمر عدميتهم السياسية المخزية.