ليس هناك أغرب من حالات بعض المثقفين العرب في هذا العصر الغريب. وعندما نتحدث عن الغرابة فهذا يعني أنها حالات استثنائية أو غير متوقعة لكنها أصبحت شائعة في مختلف البلدان العربية!! لا نتحدث هنا عن مثقفين يكتبون عن الأزمات في مختلف بلدان العالم وفي شتى المواضيع لكنهم ينسون ما يدور في بلدانهم من أزمات خاصة فيما يتعلق بحقوق الإنسان، ولا عن مثقفين يقضون عشرات السنين خارج بلدانهم ولا أحد يعرف لماذا هم في الخارج أو المنفى!! وحتى عندما نعرف بأنهم هربوا من عدالة الشيطان فهم أيضاً يكتبون في مختلف القضايا ما عدا عدالة الشيطان التي قفذفتهم خارج الحدود!! ناهيك عن دجالي الثقافة ومداحي السلاطين ووعاضهم. لا نتحدث عن هؤلاء وأولئك فهم قد احتلوا المشهد الثقافي والإعلامي وأصبحوا منظمي مهرجانات ومرشحين دائمين لمختلف الجوائز والهبات ولم يعد يهمهم ما يقوله الآخرون. ولنأخذ بعض الحالات التي نقصدها هنا، وأكثرها غرابة من لا يجد غضاضة في تبرير الإرهاب في العراق بحجة مقاومة المشروع الأمريكي!! لا يبرر الإرهاب فقط وهو يرى عشرات العراقيين الأبرياء يُقتلون كل يوم بالسيارات المفخخة في المطاعم والشوارع والمساجد وساحات العمل!! بل يرى الحقائق مقلوبةً على رأسها!! ولا ندري من هو المقلوب حقاً، الحقائق أم الناظر إليها؟!
لندخل مباشرة إلى واحدة من تلك الحالات الغريبة: عرضت (قناة الجزيرة ) يومي 20 و21 من أيار (مايو ) الجاري، برنامجاً بعنوان (الطريق إلى بغداد ) يتحدث عن طرق وخلفيات وأسباب توافد الجراد الأسود أو الإرهاب الأسود إلى أرض العراق. البرنامج وأهدافه جدير بأكثر من وقفة. لقد عرض حقيقة دخولهم المنظم من سوريا لكن أحد المسؤولين السوريين برر ذلك بأنه عمل ضد الأمبريالية!! كما استضاف البرنامج عدة شخصيات من المتورطين بهذا الإرهاب وشخوصه وذويهم ومسؤولين ومثقفين عراقيين ومن خارج العراق من بينهم الكاتب الكويتي عبد الله النفيسي وهو أكاديمي معروف يظهر بين وقت وآخر عبر قناة الجزيرة ويتحدث بدهشة تتغير بسببها ملامح وجهه وحركات يديه، عن وقائع وأرقام ومعطيات حول الهيمنة الأمريكية وانعكاساتها على أحوال العالم الثالث، أرقام ومعطيات يعرفها المتابعون والقراء فهي منشورة في الصحف الأمريكية والدوريات ولها ترجمات في الصحافة العربية، لكن النفيسي يوردها في كل مرة كما لو كان قد عثر صدفة على صندوق أسرار الكون ورأى ما لم يره أحد سواه!!
لكن كلامه في برنامج (الطريق إلى بغداد ) كان أكثر غرابة حقاً. فقبل نهاية البرنامج بقليل حيث كان الحديث يدور عن فلسطينيين من (مخيم عين الحلوة ) بلبنان ذهبوا لقتل العراقيين الأبرياء وتعميق الفوضى كما يفعل أقرانهم من البلدان الأخرى، حيث تؤدي جرائمهم القذرة هذه إلى ثلاث نتائج أساسية، هي:
أولاً: أعطاء الاحتلال مزيداً من المبررات للبقاء في العراق أطول مدة ممكنة.
ثانياً: تعويق إعادة بناء الدولة لتستمر الفوضى وأعمال العنف وهذا ما يُسهل للمخابرات الإقليمية والدولية أن تصول وتجول في طول البلاد وعرضها.
ثالثاً: أستمرار مأساة الشعب العراقي وتناثر جثث الضحايا كلما قام أحد هؤلاء الأنذال بتفجير نفسه بسيارة مفخخة بأحد الأسواق أو مناطق تجمع العمال أو المساجد، وحتى عندما يقوم أحدهم بتفجير نفسه المريضة بدبابة أمريكية، فإن النتيجة هي قتل جندي أمريكي وجرح آخر ومقتل ستة وثلاثين طفلاً بريئاً صادف وجودهم قرب الدبابة لأنهم خارجين من المدرسة حينها كما حدث في (بغداد الجديدة ) قبل شهور، وصادف أن الأطفال الضحايا كانوا من عوائل تنتمي لجميع القوميات والأديان والمذاهب الإسلامية، وهذا ما يتكرر يومياً في العراق.
في خضم حفلة القتل والدماء وتناثر الجثث يظهر علينا الأكاديمي الكويتي عبد الله النفيسي حيث دخلت الدبابات الأمريكية إلى العراق من بلده، الدبابات الأمريكية ذاتها التي حررت بلده من أحتلال (البطل القومي ) الرخيص صدام حسين!! حيث تم إفراغ الأموال الهائلة من خزائن دول الخليج للمجهود الحربي الأمريكي كثمن لتحرير الكويت التي تم احتلالها عبر واحدة من أسوأ مسرحيات السياسة المفبركة في العالم، ليغرق خلالها وبعدها المثقفون القوميون والإسلامويون في مختلف التحليلات المضحكة المبكية التي قرأناها وما نزال!!
يصف الكاتب والأكاديمي الكويتي عبد الله النفيسي أعمال الإرهابيين وجرائمهم ودورهم السياسي التخريبي بقوله: (لولا هذه الثلة من المقاتلين العرب الذين دخلوا العراق وزرعوا الرعب في قلب الأمريكي لتطور المشروع الأمريكي ولنجح المشروع الأمريكي بالعراق )!! هذه العبارة تتكون من عشرين كلمة بضمنها حرفا الجر، لكنها تحتوي على عشرين تناقض ومغالطة!! ولنتناول بعضها بالتفاصيل:
إمعاناً بأهمية الإلتزام الأخلاقي للمثقفين كان الفيلسوف والأديب الفرنسي الشهير جان بول سارتر يقول: (المثقف مسؤول حتى عن الجرائم التي لم يسمع بها ) أما السيد النفيسي فبالتأكيد أنه يسمع يومياً بجرائم السلفيين التكفيريين بحق المدنيين ومنتسبي أجهزة الدولة العراقية وبالطريقة التي شوهت سمعة العرب في العالم، وليس صدفةً أن يشهدَ يوم عرض البرنامج 20 أيار (مايو) الجاري المجزرة التي نفذها واحد من هذه الثلة التكفيرية في مدينة الصدر ببغداد صباحاً حيث يتجمع فقراء العمال قبل توزيعهم على أماكن عملهم، فذهب ضحية هذه الجريمة عشرات القتلى والجرحى. ثم يشهد اليوم الثاني حيث أعيد بث البرنامج مجزرة أخرى أرتكبها جربوع آخر في أحد مطاعم بغداد فتناثرت أشلاء الضحايا لتختلط بأنقاض المطعم وفزع العابرين!! هذه المشاهد الرهيبة تتكرر يومياً منذ تفجير مبني بعثة الأمم المتحدة صيف 2003 التي ذهب ضحيتها العشرات وبضمنهم السيد سيرجي ديميلو الشخصية الدولية المساهمة في حل أزمات مشابهة لأزمة العراق في غير مكان من العالم. أن قتل ممثل الأمم المتحدة هو البيان الأول لهذه (الثلة من المقاتلين ) للحيلولة دون تحقيق المشروع السياسي لإنهاء الاحتلال سلمياً بجهود دولية ومحلية معروفة، ومنذ تلك الجريمة بدا واضحاً أن أعداء العراق المختلفين لهم مصلحة واضحة بوجود هذه الحثالة من المقاتلين.
لنتساءل إذن: ما هي كمية القطن التي يضعها المثقف العربي في أذنيه بحيث تجعل ضميره ثقيلاً إلى درجة يصبح معها غير قادر على سماع كل هذه الجرائم المدوية؟!
يقول المثقف الكويتي عبد الله النفيسي (لولا هذه الثلة من المقاتلين الذين دخلوا العراق وزرعوا الرعب في قلب الأمريكي لتطور المشروع الأمريكي ولنجح المشروع الأمريكي بالعراق )!! ولنسأل المثقف والأكاديمي الكويتي سؤالاً بسطاً واضحاً: ألم يسمع بوجود حركة وطنية عراقية أجمعت بكل تلاوينها واتجاهاتها على التشبث بالأسلوب الأنجع والأنفع للعراق والعراقيين بأنهاء مبررات استمرار الاحتلال عبر إعادة بناء الدولة حيث جرت عدة انتخابات شاركها في آخرها أكثر من ثمانية مليون ناخب حيث انبثق عنها مجلس نواب وحكومة شرعية كان يفترض أن تضطلع بمسؤولية أساسية هي إعادة بناء الدولة كي لا يبقى أمام الأمريكان مبرر للبقاء في العراق، ولكن وبفضل (هذه الثلة ) أو الحثالة من المجرمين أصبح القضاء على الإرهاب أول أولويات الحكومة بعد أن دفّع الشعب العرقي أثماناً باهظة!! فكيف إذن وبأي منطق يريد الأكاديمي الكويتي أن يحل هذه الثلة من المجرمين محل الحركة الوطنية والشعب العرقي؟! ويراها ويعول عليها ولا يرى ويعول على مجلس نواب منتخب وحكومة شرعية!! وإذا كنتَ معجباً ومؤمناً بهذه الثلة من المقاتلين، فلماذا لا تدعوهم إلى بيتك ووطنك يا طويل العمر؟!
يقول النفيسي (لولا هذه الثلة من المقاتلين الذين دخلوا العراق وزرعوا الرعب في قلب الأمريكي لتطور المشروع الأمريكي ولنجح المشروع الأمريكي بالعراق )!! ولنسأل المثقف والأكاديمي الكويتي سؤالاً بسيطاً آخرَ: هل جاء المشروع الأمريكي معلباً بالصناديق محمولاً بطائرة حطت في بغداد فجأةً لينطلق منها إلى المنطقة!! أم أن المشروع الأمريكي وقبل عشرات السنين يصول ويجول في المنطقة بقواعده وأساطيله، وبضمنها بلدك الآمن الكويت أعزه الله؟! فكيف وبأي معنى استطاعت هذه الثلة من الجرابيع أن تحول دون نجاح المشروع الأمريكي؟! وهل وجود نظام صدام وحروبه المشبوهة كانت بعيدة عن المشروع الأمريكي؟! لماذا إذن لم تُرتكب مثل هذه الجرائم المدوية من قبل هذه الثلة من التكفيريين بحق شعوب المنطقة حيث القواعد والجيوش الأمريكية، كما يحدث في العراق الآن؟! هل المثقف العربي غافل عن هذه الحقائق أم أن قطن الطائفية يعبأ الآذن تماماً بحيث أنها لم تعد تسمع ما يدور حولها؟! أم أن المثقف العربي معلق من قدميه، مقلوب على رأسه و (المقلوبون يرون العالم بالمقلوب) كما يقول مظفر النواب!!
عن أسباب هذه التناقضات والمغالطات في الثقافة العربية، سألني أحدهم قبل أيام، فقلت له: أن هزيمة العرب أمام مشاريع الهيمنة الدولية، ليست هزيمة عسكرية بل هي هزيمة أخلاقية، وهذا أسوأ ما تصل إليه أمة في دفاعها عن الوجود.
التعليقات