منذ سقوط الديكتاتورية في نيسان ( أبريل ) 2003 تكاتفت جهود أجهزة نظامي دمشق وطهران على تخريب كل شيء في العراق، أحباط أمل العراقيين في أنهاء الاحتلال عبر إعادة بناء الدولة حيث لا يعود أي مبرر لوجود قوات أجنبية على أرض العراق. وبذريعة أن وجود القوات الأمريكية في العراق يهدد أمن النظامين، تكاتفت جهود المخابرات السورية والإيرانية على تسهيل إدخال المتطوعين من جرابيع السلفية التكفيرية ودعم أجهزة النظام السابق لتصعيد أعمال العنف والتخريب والإرهاب فكان أن تلطخت فرحة العراقيين بنهاية كابوس الديكتاتورية بدماء ضحايا الإرهاب وقتل الإبرياء وإشعال الفتنة الطائفية.. وعبر تراكم هذه النتائج الخطيرة لسياسة النظامين، أصبحنا أمام إجماع دولي وأقليمي وعراقي بأن مغادرة القوات الأجنبية في هذه الظروف سيشعل فتنة أهلية لا تبقي ولا تذر، وهذا هو الهدف الذي يجمع أيتام نظام صدام وجرابيع السلفية التكفيرية مع نظامي القتلة والمتخلفين في دمشق وطهران.
وإذا كان نظام دمشق قد كشف عن وجهه القبيح دون رتوش فإن سياسة حكام طهران كانت وما تزال هي ( أقول لك ما تريد وأفعل ما أُريد ) وهي سياسة قديمة تتسم بالرخص الأخلاقي حيث الغدر والاستفزاز يمارس بدم بارد أو بالأصح بدم فاسد. وإذا كان فساد حكام طهران قد تجسد بأشكال كثيرة معروفة، فإن ( فضائية العالم ) الإيرانية كانت أحد عناوين هذا الفساد، حيث تحولت إلى مدرسة في علم الدجل السياسي والتضليل الإعلامي، فبرامجها بهذا الخصوص تهدف إلى تشويه سمعة الحركة الوطنية العراقية وقلب الحقائق على رأسها، فيصبح التدخل الإيراني في الشؤون العراقية والدور التخريبي الذي تلعبه الأجهزة الإيرانية في المدن العراقية وخاصة في الجنوب، نوعاً من الدعم البناء للشعب العراقي !! لكن خطورة ( فضائية العالم ) لا تكمن هنا فقط، بل باستغلال حماسة بعض الإسلاميين العراقيين من سياسيين وإعلاميين أما بسبب رؤية سياسية خاطئة أو سذاجة سياسية أو رغبة بالظهور في الفضائيات أو لمنفعة شخصية، فيتم تكريس شهادتهم وآراءهم للاستمرار في تمرير سياسة حكام طهران العنصرية الحاقد بغطاء عراقي !! ومن خلال اختراقها لبعض الأحزاب الإسلامية العراقية استطاعت المخابرات الإيرانية أن تمرر مقولة خطيرة صار يرددها بعض العراقيين بطريقة ببغائية رغم أنها تهدد استقلال بلدهم ومصالحهم الوطنية، مفادها ( أن إيران دولة مجاورة وهي تملك أطول حدود مع العراق، وبالتالي فهي تملك مصالح حيوية في العراق، والسياسة بالنسبة لأية دولة هي ضمان هذا المصالح. فلماذا لا تتدخل إيران في الشؤون العراقية ) !! أن هذه المقولة هي من نوع ( كلام حق يراد به باطل ) لأن ضمان المصالح يجب أن يكون متبادلاً، وأن يكون ضمن اتفاقيات رسمية واضحة ومحددة، لا أن يكون تدخلاً مخابراتياً يقترن بشراء ذمم بعض العراقيين الذين باعوا ضمائرهم للشيطان الإيراني وتحت غطاء الجمعيات الخيرية ومن خلال إدخال المخدرات والعملات المزورة وتزويد الإرهابيين والمغامرين بالأسلحة والعتاد وتهريب الإرهابيين إلى داخل الأراضي العراقية حيث بين فترة وأخرى يتم إلقاء القبض على عشرات منهم من قبل الأجهزة العراقية، ناهيك عن الاغتيالات السياسية التي تستأثر المخابرات الإيرانية بحصة الأسد منها وبذريعة انتقامية هي تصفية ضباط الجيش العراقي السابق الذين شاركوا في حرب الثماني سنوات، وهكذا شاعت التصفيات الجسدية لكل مختلف ورافض للهيمنة الإيرانية من الوطنيين العراقيين تحت نفس الذريعة.. أن كل هذا هدفه تدمير الحياة السياسية والاجتماعية من الداخل كمقدمة للهيمن على القرار السياسي العراقي.
إذا كانت هناك مصالح مشروعة لأية دولة في دولة أخرى، فيفترض أن تتأسس على مباديء إيجابية بين الطرفين أي على أساس المصالح المشتركة للدولتين المعنيتين، فأين هي مصالح العراق من هذه الفوضى ؟! ومتى أبدى حكام طهران تعاوناً مع العراقيين ؟! في محنتهم أيام الديكتاتورية البغيضة ؟! أم عبر تدخلهم المشين بعد سقوطها ؟!
إذا كان ما يجري في البصرة الآن من فتنة ومخاطر جدية تهدد أهلها عموماً هي عينة من عينات التدخل الإيراني الخطير، وإذا كان العراقيون عموماً وخاصة في الفرات الأوسط والجنوب قد ذاقوا الأمرين من هذا التدخل وبدأت، حسب معلومات أكيدة، بوادر جدية لتنظيم مقاومة مباشرة ضد المخابرات الإيرانية وعملاءها خاصة في المنطقتين المذكورتين حيث غالبية سكانها من العرب المسلمين الشيعة، فإننا بهذه المناسبة نقدم هدية ذات مغزى للعراقيين من ذوي النوايا الطيبة الذين يظهرون عبر ( فضائية العالم ) ويتحدثون بلباقة ملفتة عن ( العلاقات الطبيعية والتاريخية بين إيران والعراق ) !! والهدية هي المقال اليتيم في الصحافة الإيرانية الذي نشرته (طهران تايمز ) في 24-10 -99 الذي يتحدث عن الظلم والجور الذي عاناه العراقيون في إيران خلال الحقبة الديكتاتورية، حيث يكتسب هذا المقال دلالة مهمة هنا، ومما جاء فيه (.. ولنفكر الآن في وضع العراق جارنا على الحدود الغربية، إننا نجد الجهود منصبة للعمل على إخراج اللاجئين العراقيين من إيران، وقد أُخرج منهم لحد الآن ما يقارب 300,000 لأجيء. إلى أين خرج هؤلاء ؟ هل عادوا إلى العراق ؟! ) تتساءل الصحيفة وتضيف ( لقد نجحت السياسة الإيرانية في هذا المجال والذي يصب في مصير مشؤوم لهؤلاء اللاجئين !! هل هذا يدل على المقدرة والنجاح ؟! أين هي الحكمة أو الدين في جعل المسلمين يصلون إلى هذه الدرجة من الإحباط نتيجة لاستنتاجات اقتصادية خاطئة ؟ إن هؤلاء اللاجئين كانوا بجانبنا وقد قدموا تضحيات في الحرب التي فرضها صدام على إيران، ومن مصدر في رئاسة الجمهورية، فإن عدد الضحايا منهم بالنسبة لعدد نفوسهم في إيران يفوق نسبة عدد ضحايا الإيرانيين إلى عدد نفوسهم. وعلى أية حال أنظر إلى التصريح الأخير للسيد حسن حبيبي معاون رئيس الجمهورية حيث يقول : لا مجال لإقامة اللاجئين العراقيين في إيران بعد اليوم ) !! وتضيف الجريدة مؤكدة ( لقد وضعت السياسة العامة لتتبنى هذا النهج، علماً إن بعض هذه الإجراءات هي عنصرية أو منافية لأصول العقيدة أو إنها مجرد تصورات واهية ) ويستطرد مقال طهران تايمز ( على سبيل المثال، خذ الجدول المعلن من قبل وزارة العمل الإيرانية لسنة ( 1377 ش) إذ يحدد القانون رواتب العاملين الأجانب في إيران واضعاً العراق في حقل يقابله حقل لكل من أوربا الغربية واليابان وأميركا حيث مقدار الراتب الشهري لهؤلاء الأجانب أكبر 700% ( سبعمائة بالمائة ) من راتب العراقي العامل بنفس الاختصاص !! وهناك أيضاً تراجيديا مؤلمة أخرى، هي من نصيب أطفال العراقيين الذين يولدون في إيران، فهم لا يُمنحون أية مستمسكات قانونية تضمن حق تسجيلهم في المدارس مستقبلاً !! وعلى مستوى التحصيل الجامعي فالأمر أكثر تعاسة، وإذا وجد عراقي يدرس في إحدى الجامعات الإيرانية فلا بد إنه سلك طريقاً غير مألوف لإكمال دراسته،.. ليست هناك قنوات قانونية طبيعية للذين يولدون في إيران من العراقيين في أي مجال من مجالات الحياة، فأمامهم نفق طويل مظلم لا نـهاية له )
فمنذ البداية، أي منذ ثلاثين سنة ( ولحد يومنا هذا ) حيث عاش أكثر من نصف مليون عراقي في إيران محرومين من أبسط حقوقهم المدنية، فهم ممنوعون رسمياً من العمل ومن فتح مدارس عربية لأولادهم، ومن الزواج من إيرانيات، وقد أُحتجز الكثير منهم في معسكرات تنعدم فيها شروط الحياة الطبيعية، ومن يعيش خارج المعسكرات فهو محروم من الحصول على وثائق إقامة رسمية، وعندما تُعطى لبعضهم ( البطاقة الخضراء ) فهي بلا قيمة قانونية، حيث كُتب على وجهيها عبارة تقول ( لا اعتبار قانونياً لهذه البطاقة ) وهي لا تحمل تاريخ تجديد أو تاريخ انتهاء لكي لا يطالب حاملها السلطات الإيرانية بأية حقوق مدنية بعد مرور خمس سنوات على وجوده في إيران، وبـهذه الطريقة تقوم حكومة ( الجمهورية الإسلامية !! ) بحرمان اللاجئين المسلمين من حقوقهم حيث تخالف بذلك تعاليم الدين الإسلامي الحنيف، وتخالف أيضاً القانون الإيراني ذاته والذي ينص على حق التجنس لمن يقيم في البلد لمدة خمس سنوات، وواضح إن القوانين الإنسانية من هذا النوع هي في البلدان المتخلفة مجرد حبر على ورق.
وفي الشهور الأخيرة من القرن العشرين توّجت السلطات الإيرانية سلوكها العنصري هذا بمأساة يطول شرحها هنا، إذ سلمت المئات من اللاجئين العراقيين إلى سلطات بغداد !! وذلك بناء على قرار ( مجلس الشورى ) الإيراني السماح للحكومة بطرد نصف مليون لأجيء عراقي، ولم تنفع النداءات الكثيرة التي وجهها علماء ووجهاء المسلمين الشيعة من بلدان عديدة إلى المراجع الدينية والرسمية العليا في إيران، الأمر الذي يعني بان الثقافة الحقوقية في جمهورية إيران الإسلامية وصلت إلى الحضيض بعدما صارت سلطاتـها التشريعية والتنفيذية تمارس العنصرية رسمياً وعلى رؤوس الأشهاد.
والأغرب، فلا المعارضة الإيرانية الإصلاحية ولا آيات الله العظمى والصغرى ولا المثقفون ولا أية جهة أخرى في إيران ساندت ضحايا العنصرية من العراقيين وكذلك الأفغان الذين يعانون من نفس الحيف !! والمقال اليتيم في الصحافة الإيرانية هو الذي نشرته ( طهران تايمز ) في 24-10 -99 والذي أقتطفنا بعض فقراته أعلاه.
وإذا كانت معاناة اللاجئين العراقيين مستمرة لحد الآن حيث يعيش الآلاف منهم في مخيمات محرومة من غالبية الحقوق المتعارف عليها، فكيف ننسى كل هذه الحقائق ونصدق أكاذيب حكام طهران التي تروجها ( فضائية العالم ) ويعيد اجترارها بعض العراقيين بنوايا حسنة جداً !!!
- آخر تحديث :
التعليقات