... في محاربة معارضيها
دخل إلى حيز الاستخدام في شبكة الإنترنت قبل بضعة أيام موقع خلاعي يبدو أنه آخر ما تفتقت عنه عبقرية الأجهزة الأمنية السورية وذهنيتها الشريرة في محاربة معارضيها، بعد أن اكتشفت ـ كما يبدو ـ أن الأساليب التقليدية، كالاعتقال في الزنازين الانفرادية لسنين طوال، والتصفية بكواتم الصوت أو بالعبوات الناسفة، بدءا من مدينة آخن الألمانية وانتهاء بشارع ماربوف الباريسي، مرورا بأزقة بيروت ومدن لبنان الأخرى، لم يعد يجدي نفعا مع نخبة من المعارضين اكتشفت هي بدورها أنه لم يعد لديها ما تخسره، بعد أن خسرت حيواتها وأعمارها في السجون أو المنافي، أو كليهما معا.
نقول quot;نخبةquot;، بكل أسف، لأن جدار الرعب المركب من أعتى خرسانات القمع وإسمنته المسلح لم يزل ينتصب عاليا في وجوه الأغلبية الساحقة من المواطنين الذين يعيشون رعبا من نوع آخر، مضافا إلى الرعب الأول، هو quot;رعب الجوعquot; وفقدان مصادر الرزق التي بالكاد تسد رمق أسرهم في بلد انحدر فيه خط الفقر خلال عقد واحد من 40 إلى 60 بالمئة. والقادم قريبا لا يزال.. الأعظم!
وفي هذا الإطار الأخير كانت رئاسة الوزراء السورية، بتوجيهات مكتب الأمن القومي في القيادة القطرية لحزب البعث، قد أصدرت الأسبوع الماضي قرارات تقضي بفصل سبعة عشر موظفا من وزاراتها المختلفة بعد توقيعهم على quot; إعلان دمشق ـ بيروت quot; الذي أجرى مقاربة للعلاقات بين البلدين من وجهة نظر قوى quot; المجتمع المدني quot; على طرفي الحدود، ودعا إلى تصويبها وفق أسس تقوم على علاقات ندية واحترام متبادل. ويبدو أن اعتقال تسعة من موقعي البيان وإحالتهم إلى القضاء، ثم اتخاذ قرار بتجويع أسر سبعة عشر آخرين من الموقعين عبر فصل معيليها من وظائفهم العامة، لم يُجْدِ فتيلا مع هؤلاء، فكان التهديد بالأسلوب الجديد. وهو أسلوب يقضي بصلب سمعة المعارضين وزوجاتهم وقريباتهم على أسوار quot; مواخير إلكترونية quot; تصممها وتديرها تقنيا، حسب تحقيق تقني أجرته منظمة حقوقية سورية ونشرته أول أمس، شركة لخدمات الإنترنت مقرها دمشق ويملكها أستاذ جامعي في كلية الفنون الجميلة، متخصص بفنون الإعلام البصري (!؟)من إحدى بلدان أوربا الشرقية: بلدان الـquot;كا. جي. بيquot; وquot;شتازيquot;، سابقا، اللتين تتلمذت على أيديهما عشرات الأجهزة الأمنية، ليس في القمع العاري فقط، بل وفي quot; التشهير الماخوري quot; أيضا!
الموقع الجديد، وهو آخر حلقة في سلسلة quot;المواخير الإلكترونيةquot;هذه، وقد أغلق بعد ساعتين على نشر التحقيق المذكور وافتضاح هوية القائمين عليه بالأسماء وخشيتهم من الملاحقة القانونية أمام مؤسسات قضائية غير سورية، دشن حملته بأخبار وصور خلاعية مفبركة على طريقة Photomontage لزوجة نائب الرئيس السوري السابق عبد الحليم خدام والصحفي الشهيد سمير قصير وزوجته السيدة جيزيل خوري، فضلا عن زوجة النائب اللبناني وليد جنبلاط ؛ ناهيك عن نصوص الشرح والتعليق التي رافقت الصور المنشورة، والتي يعجز أي معجم متخصص بالألفاظ المتهتكة عن الإتيان بمثلها! وبالنظر لعلاقتي بالمنظمة التي كشفت عن هوية القائمين على على الموقع المذكور، وأجبرتهم على الخروج كما تخرج الأفاعي والعقارب من جحورها، والاعتراف بمسؤوليتهم عن تصميمه (مع التنكر للمسؤولية عما نشر فيه ؟)، فقد باشرت المواقع الشقيقة الأخرى،التي تستضيفها الشركة quot; الخلاعية quot; نفسها، حملة تشهير بحقي، تبدأ بأبي وأمي وباقي أفراد أسرتي، ولا تنتهي عند عمالتي لجميع أجهزة الاستخبارات الدولية، الموجودة بالفعل، والتي يمكن أن توجد في المستقبل، سواء في إسرائيل أو أميركا أو حتى... جزر الباهاما!
ما أقدمت عليه الشركة الخلاعية الموما إليها، ليس الأول من نوعه في مجال استثمار التكنولوجيا وإبداعات العقل البشري لأغراض دنيئة من هذا القبيل. ففي أواخر الثمانينيات، وحين نجحت تكنولوجيا المحاكاة الرقمية Digital Imitation ، التي ابتدعها اليابانيون، في تسجيل إنجازات مذهلة على هذا الصعيد، أرسلت إدارة المخابرات العامة السورية في العام 1989 ثلاثة ضباط مهندسين شباب من كوادرها (تعرفت عليهم مصادفة في بيت أحد الأصدقاء عشية سفرهم) من أجل الخضوع لدورات تدريبية في مجال هذا الفن التكنولوجي الجديد. ثم أسست الإدارة المذكورة فرعا متخصصا بالتقنيات أسمته quot; فرع الكومبيوترquot; ألحقت به الضباط المذكورين ونظراءهم المتخصصين في مجالات عدة من الإنفورماتيك. وحذت الأجهزة الثلاثة الأخرى (العسكرية والجوية والسياسية) الحذو نفسه لاحقا، وإن تكن جهودها quot; العلمية quot; قد تركزت على مجالات quot;إبداعيةquot; مختلفة قليلا. مع الإشارة إلى أن المخابرات العسكرية كانت في الواقع قد سبقت الجميع إلى ذلك من خلال تأسيس الفرع 211، المعروف باسم quot;الفرع الفنيquot;، على يدي أشهر ضباطه العميد الدكتور المهندس موفق العوا، والذي يقع إلى يمين طريق العباسيين ـ مساكن برزة (قرب مدارس الشرطة). وقد تخصص هذا الفرع، تقريبا، بالتنصت على المكالمات الهاتفية وأجهزة إرسال السفارات الأجنبية بدمشق، ولاحقا بمراقبة الرسائل الإلكترونية الخارجة من سورية والداخلة إليها وتخريب مواقع الإنترنت quot;المعاديةquot;!
كانت المهمة الأساسية لـبعض كوادر quot;فرع الكومبيوترquot; في المخابرات العامة هي إعداد أفلام خلاعية، سواء quot;حقيقيةquot; من خلال التصوير السري أو مفبركة على طريقة المونتاج، لعدد من كبار ضباط الجيش والأمن ومسؤولي الدولة والحزب بهدف الابتزاز وضمان ولائهم الأبدي للسلطة. وقيض لي أن أرى في العام 1990 فيلما طوله حوالي أربع دقائق يتضمن لقطات quot;مشبوهةquot; لنائب رئيس الجمهورية آنذاك محمد زهير مشارقة ولوزير الدفاع مصطفى طلاس. مع الإشارة إلى أن اللقطات المتعلقة بمشارقة كانت مفبركة دون ريب، أما اللقطات الخاصة بطلاس فكانت حقيقية، وهي لا تخرج بطبيعة الحال عن نمط سلوكه اليومي المعتاد الذي يقر به هو شخصيا في كتبه. فقد كانت اللقطات تصوره وهو يلعب القمار مع عدد من رجال الأعمال السوريين في جناحه quot; الخاص quot; بفندق شيراتون دمشق، تحيط بهم الغانيات من كل حدب وصوب، ومنهن سيدات دمشقيات شهيرات وأديبات بارزات!
وخلال سنوات قليلة كان مدير إدارة المخابرات العامة لاحقا، اللواء محمد بشير النجار، قد أعد أرشيفا ضخما من الأفلام، quot;الحقيقيةquot; والممنتجة، للعشرات من المسؤولين العسكريين والمدنيين، و / أو زوجاتهم وقريباتهم ـ الأصول، لصالح رئاسة الجمهورية. ولم توفر هذه الأفلام حتى مذيعات الإذاعة والتلفزيون الرسمي وبعض الموظفات الكبيرات في دوائر الدولة الحساسة (مثل وزارة الخارجية وملحقاتها). ويبدو أن اللواء النجار قرر في مرحلة لاحقة من نشاطه quot;التلفزيوني والسينمائيquot; أن يفتح دكانا هوليوديا لحسابه الخاص، فأقدم ـ طبقا لبعض المعلومات التي استقيتها من شركائه في الزنزانة حين جاءنا سجينا إلى سجن المزة العسكري أواخر التسعينيات ـ على فبركة أفلام من هذا النوع حتى لابنة رئيس الجمهورية وزوجها. وحين اكتشف حافظ الأسد أن موسى الحلاقة وصلت إلى ذقنه شخصيا، اعتقل اللواء النجار ثم أنزل به عقوبة السجن لمدة 12 عاما بتهمة quot;الفسادquot; (!؟) من قبل محكمة ميدانية برئاسة اللواء سليمان الخطيب، قبل أن ينقله إلى سجن صيدنايا ثم عدرا، لتتم quot;تصفيتهquot; هناك في ظروف غامضة بعد أقل من ثلاث سنوات على اعتقاله! وثمة أوساط موثوقة أكدت أن السبب الأساسي لاعتقاله هو quot;بيعهquot; جاسوسا إسرائيليا، معتقلا عنده، بمبلغ خمسين ألف دولار. وهي رواية جرى تدعيمها من خلال ربطها بقضية نسيبه، رئيس مكتب الأمن القومي آنذاك، الدكتور عبد الرؤوف الكسم الذي تبين أن الجنسية الأصلية لزوجته هي الجنسية الإسرائيلية، وقد تعرف عليها حين كان يدرس في أوربا، ثم زور لها quot;شهادة تعميدquot; من إحدى الكنائس المسيحية الأوربية حين قرر تسجيل زواجه في السجلات المدنية السورية!
قضية الصور والأفلام الخلاعية الممنتجة لم يقتصر ضحاياها على عليّة القوم، بل طالت حتى كاتب هذه السطور الذي لم يتجاوز عمره آنذاك 29 عاما، والذي لم يكن بإمكانه أن يشكل خطرا حتى على أمن قرية صغيرة. فبعد حوالي شهر من التحقيق مع زملائي في المنظمة الحقوقية، الذين كانوا سبقوني إلى الاعتقال، وجدت الاستخبارات العسكرية أن ملف القضية هو من التفاهة بحيث لا يمكن أن تبني عليها أي قضية أمنية أو سياسية مهما كان نوعها. فقد كان الأمريتعلق ببضع عشرات من الصحفيين والحقوقيين والطلاب الذين أسسوا جمعية للدفاع عن حقوق الإنسان إحدى مرجعياتها الحقوقية الدستور الذي وضعه الأسد نفسه! وفي سياق التحقيق معه ارتكب أحد الزملاء quot;خطأ quot; حين أشار، دون أي مبرر،إلى أني كنت أزور مدير مركز الدراسات العربية الفرنسي بدمشق، كريستيان فيلو، الذي كان زميلا جامعيا لخالة زوجتي (آنذاك) منذ أيام دراستها في السوربون. وعند هذا الخطأ شعر مسؤولو الجهاز المذكور بأن quot; طاقة الفرج quot; قد انفتحت لهم حتى السماء السابعة!
كان رئيس شعبة المخابرات العسكرية آنذاك، علي دوبا، بحاجة لـبناء ملف قضية quot;طنّانة رنّانةquot; أمام رئيسه حافظ الأسد، ليثبت له أن الموازنات المالية الضخمة التي تخصص لجهازه لا تذهب سدى، وأن الأمن مستتب حتى آخر زاروب في أبعد قرية نائية. ولم يكن الأمر ممكنا دون الإعلان عن اكتشاف.. تنظيم جديد! ومن وجهة نظره السياسية ـ الوظيفية البحتة كان quot;محقا تماماquot;؛ إذ كانت السلطة قد نجحت أيما نجاح في إخماد آخر بؤر المعارضة منذ بضع سنوات، بحيث لم يسمع أحد خلال تلك السنوات بأي صوت معارض، عدا بعض البيانات الموسمية التي يصدرها ما تبقى من حزب العمل الشيوعي الذي أبيد عن بكرة أبيه في حملة الاعتقالات الدموية التي طالت المئات من أعضائه وأصدقائه في العام 1987.
بعد يومين على نجاحهم في اعتقالي بتاريخ 2 كانون الثاني، يناير 1992، وحين فشل رئيس فرع دمشق في شعبة المخابرات العسكرية آنذاك (هشام بختيار) في أن ينتزع مني الاعترافات التي تناسبهم، رغم جلسة وحشية على quot;الكرسي الألمانيquot;، لجأ معاونه العميد يحي زيدان إلى ممارسة أسلوب الابتزاز بالصور الممنتجة لإرغامي على تقديم اعترافات كاذبة تفيد بأن لنا quot;علاقات سياسية مع الفرنسيين، وأن السفارة الفرنسية هي من يقف وراءنا، وأن كلا من الدكتور وهيب الغانم والمسرحي سعد الله ونوس والشاعر شوقي بغدادي هم في عداد الهيئة الاستشارية التي تقف وراءنا quot;! رفع quot;الطماشةquot; عن عينيّ ليعرض علي بعض الصور من حجم quot;كرت بوستالquot;، موجها سؤاله لي عما إذا كنت أعرف السيدة التي تظهر في الصور بأوضاع مشبوهة، ومهددا بأنه سيطبع المئات منها ويوزعها في منطقتنا بمحافظة اللاذقية، وفي الحي الذي تقطن فيه أسرة صاحبة الصور بدمشق،إذا لم أعترف بـquot;حقيقةquot; علاقتنا مع الفرنسيين وبالشخصيات الثلاثة المذكورة!
لم تكن صاحبة الصور إلا زوجتي في حينها (نداء جورج. ش)، التي اختفت من الوجود مع ابنتنا سارة بعد ذلك بعدة سنوات حين كانت تهم بمغادرة مطار بيروت مع الطفلة (كانت تقيم في منزل خالتها في بيت مري)، وفق معطيات آخر تحرّ قام به الصديق الراحل جبران التويني عبر بعض ضباط الأمن العام اللبناني من معارفه.
كانت لحظات مرعبة أحسست بأنها أطول من دهر بكامله. وهي لحظات لا يمكن لأي إنسان أن يعرف مدى وطأتها إلا حين يعيشها بنفسه، وفي مجتمع مثل مجتمعنا على وجه التحديد، وتحت ظرف مثل الظرف الذي كنا نعيشه بعد اعتقالنا، ليس لجهة التعذيب فقط، بل ـ وهو الأخطر ـ لجهة الأخبار الوضيعة التي سربتها السلطة إلى الشارع ووسائل الإعلام عن quot;سببquot; اعتقالنا. إلا أن quot;حسن الحظ quot; وقف بجانبي هذه المرة. فقد كنت اطلعت قبل عدة أشهر على قصص مونتاج الأفلام التي أشرت إليها أعلاه. والأهم من هذا أن معلوماتي، حتى في ذلك الوقت، عن التشريح الذي يدرس لطلاب كليات الطب والفنون الجميلة كانت جيدة جدا بالنسبة لرسام ونحات هاو مثلي لم يسبق له أن تلقى أي تعليم أكاديمي في هذا المجال. والأهم من كل ما تقدم أنني كنت أعرف صاحبة الصورة أكثر مما يعرفها أي إنسان آخر!
قلت للعميد يحي زيدان بعد أن دققت النظر بالصور وتيقنت تماما من حقيقتها: هذه اللعبة يمكن أن تمشي مع غيري، فيبتلع الطعم بكامل رضاه واقتناعه. أما معي فهذه الألاعيب غير قابلة للصرف. وشرحت له أن الإنسان حين يجلس في وضع شبيه بالوضع الذي تجلس فيه صاحبة الصورة، وحين تكون زاوية الرأس مع الكتفين على هذا النحو، والتفاتة الوجه بهذا الشكل، لا تظهر عضلات الرقبة وعظام الترقوة في أعلى الصدرعلى النحو الذي تظهر فيه. وأضفت مؤكدا له أن في جسد زوجتي علامات فارقة لا يعرفها أحد غيري أنا وأمها، وهي لا تظهر في الصورة!؟ ونبهته إلى أنه بإمكانه تنفيذ تهديده، ولكن النتيجة ستكون فضيحة سافرة لجهازه وليس لنا، أقلّه لهذا المونتاج البدائي الغبي الذي لا يقوم به حتى مصور فوتوغرافي هاو! وانتهت القضية في مهدها.
قبل ذلك بسنوات، كانت السلطة قد لجأت إلى شكل آخر من ابتزاز معارضيها هو quot;المونتاج الخلاعي الشفهيquot;؛ أي شن حملات تشهير ضدهم عبر أجهزتها ومخبريها في الأوساط الشعبية التي ينشطون فيها. وقد طالت هذه الحملة بالدرجة الأولى quot;حزب العمل الشيوعيquot; الذي لعبت المرأة دورا بارزا جدا في نضالاته، وquot;الحزب الشيوعي السوري ـ المكتب السياسيquot; (رياض الترك) بدرجة أقل، حيث لم يشكل العنصر النسائي ذاك الحضور المهم في صفوفه. أما مضمون الحملة الدعائية فيقوم على نشر إشاعتين، أولاهما أن الشيوعيين quot;يعيشون حياة جنسية مختلطة ويمارسون الجنس الجماعي، ولا يحللون أو يحرمون، بحيث أن الواحد منهم يمكن أن ينام مع أختهquot;؛ وثانيتهما أن هؤلاء quot;كفرة وملحدون لا يؤمنون بالله، هدفهم الأساسي نشر الإلحاد في صفوف الناسquot;! وفي مجتمع محافظ مثل مجتمعنا السوري، بمكوّنيه الأساسيين: الإسلامي والمسيحي، يمكن أن يكون تعميم هذا النوع من الإشاعات كفيلا وحده بتحطيم وتدمير سمعة وحضور أي حزب مهما كان قويا، خصوصا في تلك الفترة التي كانت وسائل الإتصال أشبه بقرن الخروف! وفي فترة لاحقة، ومع اشتداد وطأة الحملة وانتقالها إلى طور quot;عمليquot; من مستوى آخر، عمد بعض رؤساء الفروع الأمنية إلى إحضار ذوي عدد من معتقلات quot;حزب العمل الشيوعيquot; لإبلاغهم أن quot;ابنتهم ضبطت بالجرم المشهود ـ المشبوه مع فلانquot;. وهذا quot;الفلانquot; لم يكن في واقع الحال إلا أحد رفاقها في الحزب شاءت المصادفة أن يعتقلا معا وهما يقومان بمهمة حزبية مشتركة (اجتماع، توزيع مناشير، نقل مطبوعات.. إلخ). ومن الطرائف، إن كان في المأساة طرفة، أن أحد أعضاء المكتب السياسي في quot; حزب العمل الشيوعي quot; (ف. ب) اضطر أحيانا لأن يقوم بدور quot;المأذونquot; لمواجهة هذا السلوك الأمني الوضيع. فقد كان ينظم quot;عقود زواجquot; احتياطية، موقعة من قبل شاهدين من الحزب، لكل رفيقين من حزبه يكونان مضطرين للقيام بهمة حزبية معا، بحيث تكون هذه العقود (وهي وهمية بطبيعة الحال) ضمانا لسمعة الرفيقين إذا ما اعتقلا أثناء تأدية مهمتهما!
قضية التشهير الأخلاقي بالمعارضين وفبركة القصص والأكاذيب عنهم بهدف تحطيم سمعتهم ليست جديدة في عالم الاستخبارات، وخصوصا استخبارات أنظمة الإجرام العربية التي تشكل حثالة الأجهزة في العالم . وثمة الكثير من قصصها المخزية التي اعتمدت أساليب أخرى أكثر وضاعة، ليس أقلها وضع الحشيش والمخدرات خلسة في حقائب بعض المعارضين. وكلنا يذكر أحدث قصة معلنة في هذا المجال، حين عمدت أجهزة الأمن الوقائي التابعة للرئيس الراحل ياسر عرفات في قطاع غزة إلى وضع المخدرات خلسة،عبر أحد المرضى المدسوسين، في عيادة الطبيب والناشط الحقوقي البارز إياد السراج بعد أن شعرت السلطة quot;الرّجوبيةquot; بأنها لم تعد قادرة على تحمل نشاطه الذي أنزل سمعتها في أرجاء العالم إلى الحضيض من خلال فضحه جرائم فسادها المافيوي، وجرائم التعذيب والقتل التي تمارسها في معتقلاتها. وهي جرائم أدت إلى مصرع أكثر من تسعة عشر معتقلا تحت التعذيب خلال أقل من عامين على نشوئها ؛ أي ما يعادل ثلاثة أضعاف عدد الفلسطينيين الذين قتلتهم إسرائيل بطرق مشابهة في سجونها خلال 35 عاما من احتلالها قطاع غزة والضفة الغربية!
في الواقع، ورغم الوجه المأسوي quot;الشخصيquot; الذي تنطوي عليه هذه الجرائم، فإنها تكشف في الآن نفسه عن قضية أكثر خطورة بالمعنى التاريخي للتطور، وهي قضية العلاقة بين التكنولوجيا والاستبداد، أو العلم والنظم السياسية الشمولية بوجه عام. وقد كانت هذه العلاقة ذات تناسب عكسي على مر التاريخ، وإحدى العوامل الأساسية التي قادت إلى انهيار حضارات بكاملها. ففي مرحلة ما من ازدهار الدولة العباسية، وكما يخبرنا تاريخ العلوم عند العرب والشعوب القديمة الأخرى كالصينيين، حقق علم quot;الحيلquot; (الميكانيكا) قفزات هائلة بمعايير تلك الأيام، كان بإمكانها أن تغير وجه التاريخ كليا لو أنها دخلت دائرة الإنتاج. إلا أن طبيعة النظام العسكري ـ التجاري لم تكن تسمح بذلك. وتبقى هذه القضية أكثر حضورا في الدولة الفاطمية. فخلال دراستي للتاريخ الإقتصادي والاجتماعي للدولة الفاطمية، تبين لي أن جميع العوامل الضرورية لنشوء مجتمع رأسمالي كانت متوفرة فيها. بل كانت مرشحة لأن تشهد أول ثورة بورجوازية في التاريخ، قبل هولندة وبريطانيا بخمسة قرون! كانت ثمة عملية quot; تنقيد quot; حقيقية في السوق، وبلترة واضحة (فبارك صناعية تجاوزت مفهوم الورش) واستثمارات لرأس المال التجاري في التصنيع تشبه إلى حد كبير تلك التي شهدتها هولندة وبريطانيا عشية ولادة الرأسمالية فيهما. إلا أن أيديولوجية الدولة البروقراطية ـ العسكرية وطبيعة نظامها هما ما شكل العقبة الكأداء في وجه مثل هذا التحول. وفي الصين الخراجية (ذات نمط الإنتاج الإقطاعي الآسيوي كما يحب البعض أن يقول)، فقد كان الأمر أكثر حضورا، وإلى حد بعيد، من الدولة الفاطمية، كما أثبتت الكشوفات الحديثة في تاريخ العلوم. أما بالنسبة للاتحاد السوفييتي، فتكفي الإشارة إلى ردة فعل ستالين الاستخفافية حين أخبرته أكاديمية العلوم عن أول نسخة في العالم من الكومبيوتر الأم استطاعت إنجازه! وحين نعرف أن آلاف براءات الإختراع كان يبيعها الاتحاد السوفييتي للولايات المتحدة سنويا، كما كشفت مجلة العلوم الأميركية، ليشتريها لاحقا بعد أن تتحول إلى منتجات، يمكننا أن نفهم لماذا عجز بلد كان متقدما على الولايات المتحدة نفسها في مجال الصناعات الفضائية ومحركات الصواريخ وشتى مجالات التطبيقات الفيزيائية، عن إنجاز عملية التحول إلى مرحلة التراكم المكثف.. ومن ثم انهياره بعد سنوات وتحوله إلى دولة تقودها مافيا من طراز صقلّي!
ومع كل هذه العبر، ورغم كل دروس التاريخ تلك، ما زال النظام السوري ونخبته المافيوية أعجز من أن يريا في تكنولوجيا الإنفورماتيك أكثر من أداة فعالة لابتكار وإدارة quot;المواخير الإلكترونيةquot; من أجل صلب المعارضين على جدرانها وهتك أعراضهم على شرفاتها القبيحة!
التعليقات