سيعلنون انتصارهم كما هي العادة بعد كل هزيمة. فذلك هو دأبهم كسياسيين. لكن ماذا عنك أنتَ أيها الشاعر؟ هل تكتفي بقصيدة انتصار أيضاً؟ وهل يليق فعْلُكَ هذا بالضحايا والأبرياء من شعبك؟ ألم تكن لهؤلاء أحلامٌ ومشاغل ولوعات وصبوات انقضت على حين قذيفة أو صاروخ؟ ماذا عنهم هؤلاء بالذات؟ هل من الأخلاقيّ أن تقتلهم أنت كذلك، بمضغة من الكلمات، موزونة أو لا علاقة لها بالوزن؟ إن في ذلك لخيانة لهم أولاً، وللشعر ثانياً، وللأخلاق ثالثاً وبلا عدد.

آه كم يخون الشعراءُ العرب، ضحايا الحروب مِن شعوبهم! يختزلونهم ويقولبونهم في أوزان لا طائل من وراء ضجيجها، ويكتفون بهذه الخيانة، كأقصى ما لديهم من وعي وعطاء وانتماء. يتكلّمون عنهم ويختصرونهم فقط في لفظة واحدة أو لفظتيْن: quot;شهداءquot; وquot;أبطالquot;، وينسون أنّ هؤلاء الشهداء والأبطال، كانوا بشراً عاديين، لهم آمال وأحلام وأشواق البشر العاديين في كل مكان. أنهم لم يكونوا يريدون أن يكونوا شهداء ولا أبطالاً، بل بشراً بسطاء، يريدون ويحبون الحياة حتى ثمالتها وثَملها، ويريدون الموتَ يطرق بابهم في الشيخوخة، لا في شرخ الشباب، ولا في مهد الطفولة.

يذهب الضحايا الأبرياء إلى بئر الصمت الأبدي، فيذهب الشعراء إلى صخب المنابر الرثة. لا عدل في الأمر ولا نزاهة. من مات مات، ويتوجب على الشعراء، منذ اللحظة، أن يستثمروا موتهم، لكي يعيشوا هم! أية أخلاق تليق بصيرفيّ لا بشاعر! أية أخلاق؟
وكل هذا يتم باسم ماذا ومَن؟ باسم الشعارات، ومن أجل صيانة وسلامة الشعارات، ولا شيء أبعد. أما البشر كأفراد، بما لهم وما عليهم، فلا مكان لهم في مهرجان اللحظة الساخنة.
لكأنما يجهد شعراء الوزن العرب، لكي يقايضوا المأساة، بعجل الوطنية المقدس، ونقطة. أما ما هي quot; الوطنية quot;، وكيف تتبدّى وما هي محدداتها، وهل هي من أجل رخاء الشعوب لا بقاء الحاكم أو زعيم الحزب، فكلا. كلا: لا يسأل الشعراء العرب هذه الأسئلة ولا يطرحونها على أنفسهم. فهكذا هم تربّوا، وهذه هي البيئة والظروف اللتان شكلتا وعيهم، وفي الأخير، كما يكون وعيك تكون ويكون شعرك بالضرورة.

في حرب حزب الله الأخيرة مع إسرائيل، وقفَ معظمُ المثقفين والفنانين والشعراء العرب مع حزب الله وقيادته، ومع quot;شعب لبنان الشقيقquot;. فلا مجال للاختيار في الحروب: إما مع هذا الطرف أو ذاك: إما مع نفسك كعربي وطني أو مع عدوك التاريخي. هكذا يقولون. هكذا يُبسّطون ويسطّحون الوعيَ والموقف، بينما الحقيقة، كشأنها دائماً، تمشي في طريق آخر: طريق خافت الإضاءة وضيّق وجانبي ولكنّه وحده هو الطريق الصحيح. وحده مَن يوصل إلى الحقيقة الخافتة لكنْ النافذة في العظام وفي النخاع. حقيقة أن هذه الحرب المجنونة ما كان ينبغي لها أن تقوم. ما كان ينبغي أن يُستفز الوحش، ليُشعلها مجازرَ وكوارثَ، لأنّ دافعي فاتورتها الفعليين، هم الضحايا الأبرياء، فقراء وبسطاء الناس من شعب لبنان، لا الزعماء ولا من يقف من ورائهم.

لكن حتى هذا الوعي البسيط والبدائي والأوّلي، غاب عن انتباه معظم الشعراء العرب. لأنّ رادارهم الشعري، ببساطة مفجعة، لا يلتقط مثل تلك الذبذبات. فهو رادار مؤدلج، quot; وطني بامتياز quot; لأنه يتعامل مع مفهوم quot; الوطن quot; كأيدولوجيا، وكتجريد، لا كأرض وسماء وما بينهما من بشر وطين وشجر وقصص وحاجات. وما أسوأ أن يكون الوطن أيدولوجيا، لا حياة طبيعية.

إنّ المسألة مسألة وعي أولاً ثم رهافة ذوق وحساسية روح ثانياً. وفاقد الأول، طبيعي أن يفقد كل ما يترتّب عليه ويتلوه.
تُرى لماذا يحدث الأمر على هذا النحو في بلادنا؟ ولماذا لا يشعر شعراؤنا بتأنيب ضمير وتأنيب فن، بعد كل هزيمة يحوّلونها إلى انتصار؟

في كل بلدان العالم، يقف الشعراء بالضد من الحروب، وبالمرصاد لتجارها وأغبيائها. يقفون مع أفراد شعوبهم، ومع العَصَب البعيد من ضميرها الجمعي التائق للانعتاق والسلام وتطوير الحياة وبناء الحضارة. يقفون مع من لا صوت لهم، ومع من لا شبكة أمان لحاضرهم ومستقبلهم ولا مدى لأحلامهم، إلا هنا. إلا في بلادنا، حيث يقف الشاعر مع السياسي الفاشل والحربجي المحترف، تحت غطاء كثيف من الأيدولوجيا، الملخصة ببضعة شعارات جوفاء، شعارات أفقرت البلاد وأذّلت العباد، وأثبتت من قديم من قديم جداً، خرابَها وتصحّرها وفراغها من كل معنى إنساني عميق ونبيل.

لماذا يحدث في بلادنا ذلك؟
ألأنّ شعراءنا، ناقصو موهبة وثقافة ووعي؟ ألأنهم سياسيون هم أيضاً، بالمعنى الرثّ والسطحي للكلمة، على غرار سياسييهم؟ ألأنهم مأدلجون فاشيون، حتى دون قصد مباشر؟ ألأنهم لا ينظرون إلى شعوبهم المعذبة، إلا بوصفها قطيعاً، وإلا بمنظار الكُتل وquot; الجماهير quot; لا الأفراد والأشخاص؟
ألأنهم تربّوا على كل هذا، فصار هذا إرثهم وميراثهم المترسّب في جيناتهم، ولا سبيل لتغييره وتبديله؟

ربما لبعض هذه الأسباب، وربما لغيرها. ومهما اختلفنا في التوصيف والتشخيص، فالنتيجة واحدة: حصاد الهشيم، بلغة المازني، وغثاء الشعر، بلغة العصور القديمة، والفقر الإنساني المدقع للذات الشاعرة، بلسان النقد الحديث.

لقد تربّى هؤلاء الشعراء، سواء أكانوا علمانيين أم مؤمنين، على عبادة أوثان كثيرة، منها [ احتراف النضال ] فلا معنى لحياتهم خارج هذا الاحتراف. منها وثن الوطن، الموجود في الشعارات، وفي رؤوس السياسيين والحزبيين فقط. أما وطن الواقع، بما فيه من كل مظاهر الحياة سلباً وإيجاباً، فهم في الحقيقة لا يرونه ولو رأوه، فلا يعنيهم في العمق. لقد سطّح السياسيون معنى الوطن، فأفقروه، لأنهم ببساطة، لم يربطوه بالمواطنيين والقاطنين ما بين أرضه وسمائه. وجاء الشعراء فمشوا على هدي هؤلاء، ورأوا بأعينهم، فما عاد يعنيهم من وطنهم، ناسَهُ، وإنما وثنه الموجود في وعيهم وفكرهم فقط.

إنهم أسرى ثقافة تاريخية، ومرحلة من التاريخ، هي مرحلة الثنائيات [ إما.. أو ] كما هو عنوان أحد كتب هيدغر. مرحلة مانوية سياسية، نور أو ظلام، ولا مكان للرمادي بينهما. بينما الحياة، تتجلّى أكثر ما تتجلّى في الألوان الرمادية وفي مشتقّات الرماد.

لقد جرّدوا الوطن، وما أسوأ تجريد الوطن! فالوطن أرض وناس: نساء وصبايا وعشاق ورجال أعمال وأطفال وحالمون ومجرمون. ولكل واحد منهم قصته وغصته. ألامه وآماله. الوطن أفراد لا قطيع. ووطن هؤلاء الشعراء هو وطن القطيع لا الأفراد. لذلك يسهل تلخيصه وتدجينه في قصيدة موزونة، وبعدها، كفى الله الشعراءَ شرَّ التنقيب الإبداع!

إن مصيبة معظم شعرائنا، وأقصد شعراء الدرجات الثانية والثالثة وما فوق، أنهم لا يتمتعون بثقافة ورهافة واتساع أفق الشعراء الحقيقيين، لذلك تراهم في قصائدهم، وفي سلوكهم اليومي، صيّادي زَبَدٍ، ودوغمائيين، وبؤساء بؤس السياسي والحزبي والعقائدي من حولهم.
إنهم عبدة عجل الوطن المقدس: الوطن الكذوب غير الموجود. عبدة النضال في نيرفانا المُطلق، النضال والاحتراب في المفتوح، ولا تهمّ الغايات والإمكانيات. ولأنهم كذلك، فهُم في النتيجة، خونة الأفراد وخونة الصوت الأصيل والعميق للكائن الإنساني، بوصفه فرداً وشخصاً، لا رقماً في عدد، ولا غباراً في قطيع.

أقول لهؤلاء الشعراء، الذين لم يتعلّموا أن يُنصتوا عميقاً لأصوات وأصداء الوجود المحيط بهم ، أن يخجلوا الآن من أنفسهم ومما آلت إليه هذه الحرب، ومما دفعَ لبنان من ثمنها الأفدح، وبالأخص على الصعيد الإنساني، فها هي الحرب تنتهي للأسف بهزيمة سياسية للبنان ككل، وليس فقط لحزب الله، فثلث هذا البلد الميني في المقاس، وقعَ تحت وصاية قوات اليونيفيل، منذ هذه اللحظة وحتى إشعار آخر. فهل كانت هذه الحرب القذرة، لا مفر منها حقاً؟

لقد أدنّا إسرائيل المجرمة التي بدأت الحرب، وأدنّا حزب الله الذي استفزّها لذلك، أدنّاهما كليهما معاً، أما مع من وقفنا؟ فمع ما يجدر بكل شاعرٍ إنساني حق أن يقف: مع الضحايا الأبرياء، بسطاء لبنان، ومع قصصهم التي لم تُكتب بعد، ولم تدخل أفق القصيدة بعد. ذلك أنّ هذا النوع من الفن، يحتاج إلى تأمل طويل وإلى مكابدات أطول. حيث هو فن الصوت الموارب والعين المحدّقة في بؤس الشرط البشري، وفي عذابات البشر الفانين.
إنها القصيدة التي تستحي من صوتها، وهي تتأمل، في مطلع فجرٍ أو ناصفة ليلٍ، معانيَ وزوايا وتجليات الكارثة!
القصيدة التي تأخذ الكارثة على محمل الجَدّ، مُنتهى الجَدّ، لا على هيجان اللغة. فمصائر مئات آلاف البشر الطيبين والبسطاء، لن تكون لعبة، نلعبها نحن شعرياً، كما لعبها الساسة، وحالما ننتهي منها، نذهب لننام. إنها أعظم وأخطر وأجلّ من ذلك: إنها أرق طويل وأنين خافت لكنه لحوح، يعصف بضمير الفنان، فيقضّ مضجَعه ويُحيل مهجَعهُ إلى حسك وشوك.

.. منذ زمن طويل، أنهى ييتس، قصيدته quot; عودة المسيح quot; ببيتيْن حكيميْن، فماذا قال؟ قال:

[ إن أفضل الناس يعوزهم الإيمان، بينما أسوؤهم يجيشون بعنف العاطفة. ]

ولعلّه قال درساً مهماً للبشر جميعاً، وللشعراء على نحو خاص ، فهل نتعلّم ونتعظ؟
آمل ذلك.