لن يكون باستطاعتنا فهم ماهية التوجه الشعبي القوى والواسع والمثير للجدل الذي انبرى يسير بقوة وتطرف وتعصب خلف ممارسات وسياسات حزب الله في لبنان وبالذات في الحرب الأخيرة مع إسرائيل، من دون أن نحدّد ماهية الفهم الديني لهذا التوجه وتديّنه ما جعله يسير في هذا الطريق بصورة عكست التعصّب والتقليد والخضوع للفهم الديني السياسي quot;غير السويquot; بدلا من أن يعكس التفكّر المستقل والتمييز والتعقّل والتدبّر.
فهل التأييد الشعبي الجارف لحزب الله كان تأييدا طبيعيا وواقعيا، أم جاء بسبب أن quot;العدوquot; كان دولة إسرائيل quot;الدينية العنصريةquot;؟ أم لأن quot;العدوquot; الإسرائيلي كان شرسا ومجرما وغير إنساني في رده على quot;مغامرةquot; حزب الله في قتل وأسر الجنود الإسرائيليين ما سبّب شرارة الحرب؟ أم أن هناك سبب آخر يتعلق بماهية الأسئلة السابقة في علاقتها بطريقة فهم الدين وممارسة التديّن لدى المسلمين ونظرتهم إلى الآخر الديني وبالذات اليهودي الإسرائيلي؟
إنها أسئلة شكلت هاجسا لي ولغيري، ولم أستطع الوصول إلى إجابة واقعية وحقيقية عليها إلا بعدما أحسست بوجود تطرف في التمييز وتخبط بشأن تحديد مصير الشعوب العربية والمسلمة الأخرى. وقد تردد سؤال مختلف عدة مرات في ذهني: لماذا هذا الإهتمام الجارف من قبل شعوب المجتمعات العربية والمسلمة بمصير الشعب اللبناني في الحرب الأخيرة من دون اهتمام مماثل بمصير شعوب عربية ومسلمة أخرى تواجه ظروفا عسكرية وإرهابية وقمعية أصعب بكثير، لا سيما مصير الشعب العراقي والشعب الجزائري والشعب السوداني والشعب الأفغاني والشعب الصومالي والشعب الكشميري والشعب الكردي (ونستثني هنا الشعب الفلسطيني الذي يواجه تأييدا مشابها إلى حد ما من التأييد الذي حصل عليه الشعب اللبناني)؟
لقد استطعت التوصل إلى إجابة واحدة محددة ردا على الأسئلة الفائتة، وهي أن quot;الفهم الدينيquot; وquot;طريقة التديّنquot; التقليديان والمسيّسان والمبتعدان عقودا طويلة عن حياتنا الحديثة الراهنة هما اللذان أوصلا الشعوب المسلمة إلى حالة التخبط والتطرف هذه وصعّبا عليهم توجيه رؤاهم وعقلنتها والسير بها نحو الاستقلالية. فقد جعلا quot;التمييز الديني العنصريquot; سيد موقفهم في الدفاع عن الشعوب العربية والمسلمة الأخرى المكتوية بنار الإضطهاد.
فالفهم الديني التقليدي والمسيس أضفى هالة دينية غيبية جمعية وجماهيرية على أي صراع يكون الطرف الآخر فيه هو دولة إسرائيل، كما أضفي نرجسية على الذات العربية والمسلمة ما ألقى بجميع مسؤوليات التخلف والتقهقر والقتل والدمار على الآخر الأجنبي والآخر غير المسلم - وبالذات اليهودي - والآخر المتآمر (رغم أن هذا الآخر غير بريء أيضا).
وباتت طريقة تديّن المسلمين، العرب وغيرهم، مسيسة إلى حد عدم القدرة على الفكاك مما يسمى بـquot;مآمراتquot; اليهود.
فالشعوب الأخرى، غير الشعبين الفلسطيني واللبناني، لا تواجه quot;العدوquot; الإسرائيلي بل تواجه quot;نفسهاquot;، لذلك كان الاهتمام العربي والإسلامي بمصيرها لإخراجها من محنتها خجولا بل في كثير من الأحيان لا مباليا. في حين بتنا نشاهد quot;تدخلا أجنبيا استعمارياquot; في شؤون بعض الشعوب المسلمة لفكّها وإنقاذها من ويلاتها حفاظا على أمنها واستقرارها، وحفاظا على أمن النظام العالمي وتأييدا للمصالح الدولية المشتركة (كالتدخل الأمريكي لإنقاذ الشعبين البوسني والكوسوفي).
وصدام حسين حينما غزا الكويت وابتلعها، تعمّد إشراك العامل الفلسطيني الإسرائيلي في القضية، مدعيا أن طريق تحرير القدس يمر عبر الكويت ومستهدفا بصواريخه quot;المجاهدةquot; تل أبيب، وذلك لقناعته بأن الفهم الديني الشعبي يستند إلى مبدأ عقيدي مفرط في العداء لليهود ولدولة إسرائيل، ما جعله يستغله أيّما استغلال. فهو فهم مسيّر من قبل رجال الإسلام السياسي وفق رؤية قائمة على ضرورة وجود عدو ديني (يهودي)، وعلى ضرورة التقليد والوصاية على الفكر ما يقف في الضد من نهج النقد والمراقبة والمساءلة ويعادي الحرية الفردية واللاوصاية.
فالتديّن الحاث على الصلاة والدعاء لنصرة من يقف ضد اليهود وquot;يستشهدquot; في هذا الطريق، لعب دورا رئيسيا مساندا لصدام حسين. وقد نجح طاغية العراق كثيرا في سياسته هذه واستطاع أن يجيّر الشعوب العربية والمسلمة لصالحه، لكنه في المقابل، ومن دون قصد، عرّى المواقف الإسلامية. فقد انفضح هذا النوع من الفهم الديني وهذا التدين القائم على مبدأ quot;انصر أخاك ظالما أو مظلوماquot;، وبالذات إذا ما كان quot;العدوquot; هو دولة إسرائيل، وتجاهل مبدأ quot;انصر أخاك مظلوماquot; إذا ما كانت المحنة محلية وعربية وإسلامية صرفة.
إذن ما مصير الشعوب المسلمة المكتوية بنار القمع والارهاب والإستبداد والتطرف الداخلي، لماذا لا تلقى نفس الدرجة من النصرة الشعبية والتأييد الديني في سبيل مواجهة الدكتاتوريات والظلمات مثلما تلقّى الشعب اللبناني وتنظيم حزب الله تلك النصرة في الحرب الأخيرة؟ لماذا هذا الهجوم الإسلاموي الشعبوي ضد إسرائيل والولايات المتحدة فيما يخص سياساتهما وممارساتهما بحق الشعوب ومنها الشعب الفلسطيني، فيما يظل السكون والسكوت سيد الموقف تجاه ظلمات شبيهة بظلمات غوانتانامو وأبو غريب والتعذيب الوحشي الموجود في الغالبية العظمى من السجون العربية والمسلمة؟ لماذا السكوت المريب تجاه انتهاكات حقوق الإنسان في كافة مجالات الحياة بدءا من انتهاك حقوق المرأة والطفل والعامل والأجنبي وانتهاء بانتهاك الحقوق السياسية والاجتماعية للفرد والشعوب، فيما كرامة الإنسان العربي والمسلم تبدو واضحة الانتهاك حينما يعتدي عليه الإجرام الإسرائيلي؟ لماذا هذا التمييز العنصري في الدفاع عن حقوق البشر، ولماذا التفريق بين عدو وآخر ما دامت نتيجة الظلم واحدة؟
باعتقادي أن المسؤولية الأساسية والرئيسية تقع على عاتق الفهم الديني المسيس، فرجال الدين المؤسسين لهذا النوع من التفسير يتحملون مسؤولية استمرار هذا التمييز الذي يوصف في أبسط أوصافه بأنه عنصري وغير إنساني. فهو لا يهاجم الظالم والظلم بشتى أنواعه ومنطلقاته بل يهاجمه فحسب حينما يكون دينيا يهوديا، لا لشيء إلا بسبب أن ذلك يتماشى مع تفسيره الديني ويحقق له شعبية كبيرة.

[email protected]