قبل أيّام وصلتني
من صديقي المقدسي، د. موسى البديري، رسالة إلكترونيّة طالبًا منّي فيها الاستفسار عن قضيّة شعريّة. وقد أرفق برسالته وصلة إنترنتيّة لصحيفة quot;العربيquot; المصريّة الّتي نشرت من جديد قصيدة حلمي سالم الّتي تُثير جدلاً في الساحة المصريّة. أمّا رسالة الصّديق الاستفساريّة القصيرة فقد نصّت بما يلي من تساؤلات: quot;هل تفهم شيئًا فيهاquot;؟ أو: quot;هل هنالك سطور مفقودة منها، أم أنّ ترتيب السّطور هو ترتيب رديء؟quot; ثم يُنهي رسالته: quot;لا أفهم ماذا تقول القصيدةquot;. وقد وعدت صديقي بالنّظر في الموضوع، وإعلامه بما أنا واجد فيها وفي هذه القضيّة. ومن أجل تعميم الفائدة رأيت من المناسب أن أضعها هنا في إيلاف أيضًا.
وبعد النّظر في القصيدة وملابساتها،
بودّي أن أطمئن الصّديق موسى لكيلا يشعر بالحرج من عدم الفهم، إذ أنّه ليس الوحيد الّذي لم يفهم القصيدة، فحتّى هؤلاء النّفر في مجمع البحوث الإسلاميّة التّابع للأزهر، والّذين كانوا عمّموا بيان التّكفير للشّاعر لم يفهموا هم أيضًا القصيدة، وقد صرّحوا بذلك في بيانهم الموزّع على وسائل الإعلام. فعلى ذمّة ما أشيع في الصّحف فهم يقولون: quot;إن القصيدة كلام لا معنى له في أكثر من فقراتها، ولم يتضح له معنى إلا عند مؤلفه...quot;. ثمّ يصلون في النّهاية إلى مقولة نقديّة أدبيّة: quot;كما أن ما ورد بالقصيدة لا علاقة له بالإبداع من قريب أو بعيدquot;. ومعنى هذا الكلام أنّهم أيضًا واجهوا صعوبة في فهم المقروء، ولذلك خلصوا إلى الاستنتاج النّقدي أنّ هذه القصيدة لا علاقة لها بالإبداع من قريب أو بعيد، كما ذكروا.
والسّبب من وراء عدم الفهم
هو سبب وجيه لأنّ النّصّ كما عاينتُه أنا، وكان قد نُشر دون شكل للحروف ودون تفقير للسّطور بوصفه قصيدة، فهو ليس قصيدةً في الواقع، إنّما هو مؤلّف من مقاطع مختلفة هي أقرب إلى التّهويمات منها إلى الشّعر. وقد حُشرت مقاطع التّهويمات هذه معًا على أنّها نصّ واحد. وهذا ما أثار الالتباس لدى صديقي المقدسي، وهذا أيضًا ما أثار الالتباس لدى هؤلاء النّفر في مجمع البحوث الإسلاميّة الّذين لم يفهموا هم أيضًا المقروء المعروض عليهم، كما صرّحوا في بيانهم. والحقيقة أنّ عامّة العرب ما كانت لتفهم هذا النّصّ مثلما هو منشور في الصّحف، فما بال صديقي المقدسي هذا الّذي يجيد الإنكليزيّة أكثر من إجادته العربيّة؟
والحقيقة الّتي يجب أن تُعرض
على القرّاء الكرام هي أنّ النّصّ المنشور بوصفه قصيدة واحدة يجب أن يتمّ تفقيره ونشره على شكل مقاطع، أي quot;قصائدquot;، مختلفة. هذه هي حقيقة هذا النّصّ وهذه هي عناوين القصائد المختلفة المحشورة فيه: quot;أسمهانquot;، quot;نظريّةquot;، quot;رومانسيّةquot;، اquot;لبلياتشوquot;، quot;الأزبكيّةquot;، quot;طائراتquot;، quot;حراسةquot;، quot;طاغورquot;، quot;الأندلسquot;، quot;الأحرارquot; وأخيرًا quot;الطائرquot;. وبكلمات أخرى فإنّ هذا النّصّ يحتوي على أكثر من عشرة مقاطع -قصائد - مختلفة، لا رابط يربط فيما بينها. كما لا أدري ما علاقة كلّ ذلك بعنوان النّصّ، quot;شرفة ليلى مرادquot;. والأمر ليس بمستغرب على كلّ حال، إذ صارت هذه الحال حال الكثير من نصوص التّهويمات العربيّة الّتي ينشرها كلّ من هبّ ودبّ على هذه الأرض العربيّة بوصفها شعرًا، أو أدبًا.
لقد بدأ يتّضح لي أكثر فأكثر
بأنّ للعرب مشكلة عويصة مع مصطلح quot;التّحريرquot;. ليس فقط أنّهم لا يحرّرون أرضًا، بل وعلى ما يبدو فإنّهم لا يحرّرون نَصًّا أيضًا. وهكذا ينشر القائمون على الصّحافة، أو دور النّشر، كلّ ما يصل إليهم، دونما غربلة أو تحرير لنصّ أو كتاب. وهكذا صار العرب يكتبون وينشرون كلّ شيء، ثمّ يأتي عرب آخرون ويقرؤون فيظنّون أنّهم يفهمون، غير أنّك إذا سألتهم أن يشرحوا لك المكتوب والمقروء أخذوا يتلوّون شمالاً ويمينًا، فيتّضح لك في النّهاية أنّهم لا يفهمون ما يقرؤون، وفوق كلّ ذلك لا يجدون في أنفسهم جرأةً على التّصريح بعدم الفهم، وذلك بخلاف صديقي المقدسي طبعًا. والحقيقة أنّ المشكلة ليست فيهم لوحدهم، بل إنّها بالذّات في هذه النّصوص وفي هذه اللّغة الّتي أضحت في عرف العرب، من صنف أولئك الّذين يدّعون العصرنة، مجرّد quot;صفّ كلامquot;، لو تفكّر المرء فيه لما خرج منه بشيء.
غير أنّ ما أثار الأزهر في الحقيقة
هو أحد المقاطع، أو إحدى القصائد، المحشورة في هذا النّصّ، وهو المقطع الّذي وضعتُ أنا له عنوان quot;الأحرارquot;، وهاكم المقطع: quot;الرب ليس شرطيا / حتى يمسك الجناة من قفاهم، / إنما هو قروى يزغط البط، / ويجس ضرع البقرة بأصابعه صائحا: / وافر هذا اللبن / الجناة أحرار لأنهم امتحاننا / الذى يضعه الرب آخر كلّ فصلٍ / قبل أن يؤلف سورة البقرةquot;. ولهذا السّبب، خرج مجمع البحوث الإسلاميّة مُعمَّمًا، مُعَمِّمًا البيان القائل بأنّ النصّ:quot;يتضمن إساءة للرب سبحانه وتعالى، وكأن ذلك هو المقصد ولا شيء غير الإساءة، ونعوذ بالله من هذا الرأي، وكأنه ملحد ينشر الإلحاد ويسمّيه إبداعاً، فهو يصف الرب في قصيدته بأنه مزارع يزغط البط ويحلب الضرع وهو تجرؤ على الله تعالى وعدوان على ذاته. هذا كفر وزندقة ومساس بالذات الإلهية..quot;.
لا أريد أن أسيء الظنّ، ولكن على ما يبدو لأنّي عربيّ ولستُ مصريًّا فلم أفهم معنى quot;يزغط البطquot;، فما معنى هذا الفعل يزغط؟ حاولت الاستفسار من صديق مصري عن معنى الفعل بالمصريّة، غير أنّ ما أفادني به جعلني أقلّ فهمًا لهذه الجملة. لا بأس إذن، فقد تكون جزءًا من هذه اللّغة الّتي لا يفهمها أحد، فهنيئًا لهم بهذه اللّغة وبهذا الفهم أيضًا.
من الواضح أنّ الأزهر قد أثار هنا
زوبعة لا لزوم لها. والحقيقة أنّه بفعله هذا قد أساء هو بالذّات لتلك الذّات الإلهيّة لّتي يدّعي الدّفاع عنها أكثر من إساءة النصّ ذاته لها. فلو لم ينتبه أحد إلى النّصّ لبقي هذا النصّ مدفونًا في مجلّة أو صحيفة قد لا يقرؤه أحد فيطويه النّسيان. غير أنّ هنالك أشخاصًا قد نصبوا أنفسهم وكلاء أمام المحاكم فيتقدّمون بدعاوى بوصفهم محامي دفاع عن اللّه. يعلم الجميع أنّ للمحاكم أحكام وأعراف، ومن بين تلك الأعراف أن يبرز المحامي أمام المحكمة التّوكيل الموقّع بخطّ يد مُوكِّلِه، ولا أظنّ أنّ ثمّ أحدًا بوسعه تقديم توكيل موقّع بخطّ يد اللّه. من هنا، لو كان ثمّ محاكم حقيقيّة وقضاة حقيقيّون لكان هؤلاء قد رفضوا النّظر بجميع هذه القضايا وأشباهها أصلاً، ما لم يأتِ أحد من هؤلاء بتوقيع مُوكِّلِه الّذي يطلب عون المحكمة في قضيّة المسّ بذاته الإلهيّة. أليس كذلك؟
غير أنّ ساسة وتجّار الدّين
لا يتركون فرصة تسنح إلاّ وينتهزونها ابتغاء اللّعب بمشاعر العامّة من البشر، والّذين كان من الأولى الاهتمام بأمورهم الحياتيّة، المعاشيّة والاجتماعيّة. غير أنّ هذه الأمور لا يلتفت إليها أحد لأنّها ليست فوطوجينيّة ولا تضع صاحبها في مقدّمة الأخبار. صحيح أنّ القاعدة الفقهيّة تقول: quot;ناقل الكفر ليس بكافرquot;، غير أنّ هؤلاء التّكفيريّين، وبفعلهم التّكفيري هذا، إنّما ينشرون الفرع الّذي يجلسون عليه، فبدل أن يبقى هذا النّصّ بعيدًا عن الاهتمام - وهكذا أصلاً يجب أن يبقى هدا النّصّ لأنّه ليس بذلك النّصّ الّذي يجب أن ينتبه إليه أحد - يأتي هؤلاء ببيان التّكفير فتكون نتيجة عملهم إشاعته في وسائل الإعلام. فإذا كان يحتوي على مسّ بالذّات الإلهيّة، يصبح هذا المسّ شائعًا بين النّاس، بدل أن يبقى مدفونًا في مجلّة لها قرّاء محدودون.
وأخيرًا، إذا كان quot;حلاب الضّرعquot;، وهو ليس بعمل شرّير بأيّ حال، يشكّل إلحادًا وشركًا في عرف هؤلاء، فما بالكم بالزّلازل والتّسونامي وسائر الكوارث الّتي تفني العشرات ومئات الآلاف من البشر والشّجر والوبر، والّتي ينسبها هؤلاء للربّ، فهل هذا العمل بنظر هؤلاء هو الإيمان الحقّ بتلك الذات الإلهيّة؟
والعقلُ وليّ التّوفيق.
[email protected]
أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية
التعليقات