حدثنا أبو سفيان العاصي ndash;تجاوز الله عنه- بأنه كان عطوفاً على الحيوانات، يلمّ بشأنها ويدافع عنها.. وأكثر ما كان يشده ويتعاطف معه من هذه الحيوانات quot;الحمارquot;، معتبراً نفسه مسؤولاً عن تعثّر أو وجع أي حمار في quot;الحارةquot;، مردداً في جلساته ومحاضراته أن الحمار أكثر الكائنات الحية تعرضاً للظلم عبر التاريخ.

وقد كان شيخنا أبو سفيان يقول: ومن طريف ما لاحظته على الحمير أنني كنت مرة شاخصاً ببصري أمام التلفزيون، أقلّب بـquot;الريموتquot; -أو quot;المتحكمquot; كما يقول الفصحويون راغبو التعريب- وإذا بي أشاهد فيلماً من الأفلام المصرية القديمة التي يرجع عصرها إلى أيام الملك فاروق، وكان المشهد يضمّ حماراً أبيض اللون، وسيم الطلعة!
تأملت الحمار ndash;في ذلك الوقت- فوجدته quot;يحمل آذاناً طويلةquot;، وكعبه محنى وعيونه quot;حلوة وعسليةquot;، تشعر أنه حمار بمعنى الكلمة quot;ملو هدومهquot;، يمشي واثق الخطوة، التفاتته كأنها التفاتة ملك من ملوك مملكة quot;حِمْيَرquot;، علماً بأنه لا يلتفت إلا لأمر عظيم أو حدث جسيم، إذ ليس من شأنه التدخل فيما لا يعنيه، إذا ركبه صاحبه وجده قوياً ممتلئاً، وإذا نظر إليه رآه كائناً بديعاً quot;يسرّ الناظرينquot;، لو اشترك في سباق quot;مزايين الحميرquot; لكان فيها الأول، رغم أن كل الحمير quot;مزايينquot;!

صحته مكثفة محتدمة بعافة الخليج ndash;كما هو تعبير الشاعر الروعة محمد الثبيتي-، أرجله ndash;الملك لله- تنهب الطريق، تتحرك وفق توازنات العرض والطلب، وخطوط الطول ودوائر العرض.

أما نهيقه فكأنه نغمة موسيقية، أين منها مقاطع بتهوفن وموازين السلّم الموسيقي.. إنه يصدر أصوتاً تسر السامعين تذكّر بما قاله الفيلسوف الحجازي حمزة شحاتة ndash;رحمه الله- حين قال إن صوت الحمار المُنكر ليس راجع لقبح صوته، بل راجع إلى أن الإنسان لم يتعود أن يسمع quot;الأصواتquot; التي يتغنّى بها الحمار، لأن الحمار يعزف على درجات صوتية لا تتوافق مع quot;الذائقة البشريةquot;، إذا فالخلل في الأذن البشرية وليس في أصوات الحمير الموسيقية!

عندها ndash;والحديث لشيخنا أبي سفيان العاصي- حرّكت quot;الريموتquot; وقلّبت quot;القنواتquot;، وإذا بي أقع في فيلم حديث، يضم quot;حماراًquot; آخر!
عندها بكيت لـquot;حال الحميرquot;، وأنا الذي نذرت نفسي للدفاع عنهم، بكيت للحالة التي ظهر فيها الحمار، حيث بدا هزيلاً حزيناً، إذا رأيته حسبته جداراً يريد أن ينقضّ، وإذا مشى ظهرت عليه ملامح quot;التخبّطquot;، وتصرف وكأنه يلفظ أنفاسه الأخيرة، مخيراً نفسه بين مرارة الانكسار أو بشاعة الانتحار!

حتى النهيق في الفيلم كان وكأنه quot;بكائيات عاشوراءquot; أو quot;ثكلى نياحة تبكي ولدهاquot;، وقد ظهر في عينيه وكأنه يقول: ليتني متّ قبل هذا وكنت جثماناً منسياً.. باختصار تشعر بأنه حمار لا يمثل نفسه، ولا يمثل عشيرته الحميرية! إنه حمار لا يشبه الحمير، ليس quot;ملو هدومهquot;، بل من غير هدوم أصلاً، يلتفت يميناً ويساراً وكأنه دجاجة حائرة في طريقها، يتدخّل في كل قضية كالكتّاب quot;الكشميريينquot;، يبدي رأيه في كل شاردة وواردة!

ثم أخذ الشيخ أبو سفيان ndash;والدمع يتصبّب من عينيه- يقول: تصوروا حتى القنوات الفضائية هضمت quot;حقوق الحميرquot; حين منعت هذه القنوات ndash;رغم ردائتها وفُحشها- أغنية quot;بحبك يا حمار، يا عم الحمير كلهمquot;.. مُنعت رغم أنها تشير إلى أن الإنسان إذا ارتقى في فنّه أصبح حماراً، وعلى ذلك يُحمل ما جاء في لسان العرب من أن كلمة quot;فنانquot; تعني حماراً لتفننه في العدو والحركة!
وسامح الله شاعراً بشرياً قال ذات حماقة:
إِذَا أَنْتَ لَمْ تَعْشَقْ، وَلَمْ تَدْرِ مَا الهَوَى
فَقُمْ فَاعْتَلِفْ تِبْناً فَأَنْتَ حِمَارُ!

[email protected]
كاتب المقال واحد من عمّال المعرفة

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية